فقلت محزونا: يؤسفني والله ألا أحقق رغبتكم في إحياء ليلة زفاف باهرة؛ ولكني لا أحتمل أن أزف!
فهز كتفيه في عدم اكتراث وقال مبتسما: لا أحب أن أضايقك، فلك ما تشاء!
وحمل الجهاز إلى الشقة الجديدة، وفرشت حجرة خاصة لأمي، وانتقلنا من المنيل إلى الشقة الجديدة قبل الليلة الموعودة بأسبوع. وأشرفت شقيقتي على فرش شقة العروس بنفسها. وبهرت شقة العروس عيني فجعلت أتنقل بين الحجرات في غبطة وفرح سماوي. ولما جاء دور المخدع اجتزت بابه بعد تردد، وفي حياء شديد ورهبة؛ يا له من منظر خليق بأن يهز الفؤاد هزا! جعلت أقلب ناظري فيما حولي وأنا بين مستيقظ وحالم؛ فراش كالذهب، وأغطية حريرية في لون الورد الزاهر، ومرآة مصقولة رقراقة. دبت الحياة في قطع الأثاث فلم تعد جامدة ولا صلبة، وحاكت ألوانها الجذابة تورد الخدود والتماع الأعين، وندت عن حواشيها المسدولة همسات خافتة منغومة خفق لها الفؤاد خفقانا متتابعا. •••
وفي صباح اليوم الرهيب ساءلت نفسي: متى أعود بعروسي وقد خلفت ورائي الناس والضوضاء؟ ليت التقاليد كانت تقضي بأن ينتظر الرجل عروسه في بيته من غير هذا العناء كله! بدا لي يوما عسيرا لم يخلق لأمثالي، فلم يفارق قلبي الشعور بالرهبة والخوف. وتقضى نصفه الأول في تهيئتي، فمضى بي شقيقي مدحت إلى حلاق مشهور عدت من لدنه على أحسن حال، حتى قالت لي أختي في دعابة: أنت أجمل من عروسك! .. أليس كذلك يا أماه؟
وهمت أمي بالكلام، ولكنها أطبقت شفتيها دون أن تنبس، وجعلت أتساءل عما أرادت قوله. وارتديت بدلة العرس السوداء على حرارة الجو، ثم ذهبنا إلى بيت العروس قبيل العصر بقليل، ومعي أمي وأخي وأختي وزوجها وعمي وبعض بناته وخالتي وأسرتها. ولما اقتربنا من مدخل العمارة رأيت الأرض قد فرشت رملا فاقع اللون، وتدلت مصابيح كهربائية كبيرة من عمد ملونة، فداخلني اضطراب وقلت لنفسي: «هذا خروج عن الاتفاق!» وارتقينا السلم وقد أبيت إلا أن أسير في المؤخرة شابكا ذراعي بذراع مدحت .. وما كاد أولنا يدخل الشقة حتى استقبلتنا عاصفة من الزغاريد المجلجلة، فشددت على ذراع أخي وشعرت برغبة في التواري، ولكن أين؟ وخفضت عيني، وسرت، بل جرني أخي إلى حجرة الاستقبال، دون أن أرى شيئا مما يحيط بي، وإن أحسست بأذني وأنفي أن البيت مكتظ برواد السرور! .. وأجلست وأنا متشبث بذراع مدحت وقد همست في أذنه: أرجو ألا تفارقني!
فرد علي هامسا: تشجع وإلا بدت عروسك دونك خجلا!
ولم أكد أتنفس الصعداء لمرور لحظة الاستقبال المفزعة حتى جاءني جبر بك السيد ليقدمني لصفوة المدعوين، فوقفت مرتبكا كالعادة، وراحت يدي تسلم، ولساني يردد كالآلة: «تشرفنا .. تشرفنا.» ثم جلست مرة أخرى دون أن أحفظ اسما واحدا. ودار حديث طويل، لم يفزع عقلي لفهمه فضلا عن الاشتراك فيه، ولم يغب عني حرجي، فتضاعف ارتباكي ، وخيل إلي أن الجميع يتغامزون بي، أو يهزءون بي في سرائرهم. ومر الوقت قاسيا حتى دعيت إلى كتابة العقد، وخفف عني أن تم ذلك في حجرة تكاد تكون خالية، ولكن انفجرت الزغاريد في تسابق عنيف، وعاودتني مرة أخرى رغبتي في التواري، وعدت إلى مجلسي الصامت، ومر الوقت، ولم يكن بالنسبة إلي إلا صمتا وفكرا محترقا ولهفة على الفرار. ثم دعينا إلى سماط أعد على سطح العمارة في الهواء الطلق. والعشاء عناء جديد لمثلي، ولكنه محتمل بخلاف الحديث؛ لأن المدعوين يشتغلون بالطعام عما عداه، فيجد من كان مثلي فسحة للطمأنينة والسكينة .. وعدنا إلى مجالسنا، شابكا ذراعي بذراع أخي، ثم بدأ الغناء. وكان المغني الهاوي وفرقته - من الهواة كذلك - يتصدرون حجرة الاستقبال .. وقد غنى «ياما انت وحشني» بصوت لا بأس به، فاق في نظري صوت فنان حانة سوق الخضر. وجاء جبر بك للجوقة بقنينتين من الويسكي، وقدمت كئوس مترعة لآخرين، وقد همس مدحت في أذني: ألا تشرب كأسا أو كأسين؟
فنظرت إليه نظرة لم يفهم معناها وقلت بإنكار: محال!
قلتها بلهجة تنم عن الاستفظاع، ثم خلوت إلى ذكرياتي في صمت. لشد ما همت بنشوة الخمر! أفليس عجبا أنني لم أذقها منذ الساعة التي اجترأت فيها على مخاطبة حبيبتي؟ .. هجرتها في غير ما عناء كأنها لم تكن، ولم تنازعني النفس إليها ولا مرة واحدة! وتتابع الغناء والحديث، وعلا الضحك. وكنت حريا بأن آنس الجو، وأن يذهب عني الضيق وتوتر الأعصاب، لولا شعوري بخطورة الساعة التي تتربص بي! .. متى أتلقى عروسي؟ وأين؟ .. وهل يحدث هذا في خفية عن الأبصار؟! ومر الوقت، ثم انتبهت بغتة على جبر بك السيد وهو يقف حيالي ويضع يده على كتفي قائلا بصوت منخفض: هلم يا سي كامل أزف الوقت.
ورفعت إليه بصري في ارتياع وغمغمت: آن وقت الذهاب!
نامعلوم صفحہ