كانت الشقيقتان مختلفتين في المزاج على تقاربهما في الشبه. كانت خالتي مفرطة في السمنة، ميالة للمرح والمزاح، لا تكرب نفسها بالقلق على أبنائها بغير داع. وكانت إذا غادر جدي البيت غنت بصوت لطيف محاكية «منيرة المهدية». أما أمي فتبدو على العكس من هذا كله؛ فهي نحيفة، منزوية، كثيرة المخاوف والقلق، مفرطة في الحنان لحد الشذوذ. وقد أرهقت ظروف حياتها أعصابها، فكانت لا تكاد تخلو إلى نفسها حتى تلفها كآبة شاملة. ولعلها لم ترتح كل الارتياح لإقامة شقيقتها بيننا ذلك الشهر؛ لا لفتور في عواطفها نحوها، ولكن لأن أبناءها استأثروا بي من دونها، وأفسدوني عليها. وشكت مرة إلى خالتي ما تخافه علي من حوادث الطريق؛ فضحكت المرأة باستهانة وقالت لها بلهجة لم تخل من لوم: هل ابنك من لحم ودم وأبنائي من حديد؟! .. قوي قلبك وتوكلي على الله! أما أنا فقد نسيت في سعادتي الشاملة تعاليم أمي جميعا، واستسلمت للسرور شهرا صادف حياتي الرتيبة كالحلم البهيج، وألقيت بنفسي في أحضان اللعب بشراهة ونهم، لا أستشعر تعبا ولا مللا. وفي الليل إذا أوينا إلى البيت كنت أضع عمامة زوج خالتي على رأسي وأحكي لهجته في الحديث، وأتجشأ كما يتجشأ، وأتمتم عقب ذلك قائلا: «أستغفر الله العظيم»، والكل من حولي يضحكون!
كان شهرا كالحلم، ولكن الأحلام لا تدوم، وقد انقضى. ورأيت بعين الحسرة الحقائب وهي تعد وتكوم استعدادا للرحيل. وحم الفراق، فكان عناق وسلام، وحملتهم العربة جميعا ومضت، وأنا أودعهم من الشرفة بطرف دامع كسير.
وقالت لي أمي: كفاك لعبا وجريا في الشارع، ثب إلى رشدك، وعد إلي كما كنت لا تفارقني ولا أفارقك.
وأصغيت إليها في صمت. كنت أحبها ملء فؤادي؛ ولكني كنت أهفو كذلك للعب والمرح. وبدا لأمي أن تحضر لنا خادمة صغيرة، وسمحت لها بأن تلاعبني تحت سمعها وبصرها. فكانت رفيقا خيرا من عدمه على أي حال. كانت صبية دميمة، ولكنها كانت أفضل لي من الطاهي الهرم وأم زينب العجوز. وكانت أمي محافظة على صلاتها، فجعلت أقلدها إذا صلت، ولعلها وجدت الفرصة مناسبة فمضت تلقنني مبادئ الدين كما تعرفه. عرفت الدين مبتدئا بالجنة والنار، فانضافت إلى معجم مخاوفي كلمات جديدة، بيد أنها كانت مصاحبة هذه المرة لعاطفة صدق وحب وإيمان.
6
وأدت حال أمي تلك معي إلى تأجيل تاريخ التحاقي بالمدرسة، فقاربت السابعة دون أن أتعلم حرفا. وتدخل جدي في الأمر، فدعاني يوما إليه وهو جالس بالشرفة على مقعده الطويل الهزاز، وعرك أذني مداعبا وقال لي: طالما رغبت في الانضمام إلى أترابك من الغلمان، فالآن قد فك الله أسرك، وسنأذن لك بالاشتراك معهم في حياتهم عمرا طويلا؛ ستدخل المدرسة!
أنصت إليه في دهشة بادئ الأمر؛ إذ لم أكن أدري شيئا عن المدرسة، ثم بدا لي أنه سيطلق سراحي فنظرت إلى أمي بين مصدق ومكذب، ولشد ما دهشت حين رأيتها تبسم إلي في تشجيع واستسلام؛ فانبعث الحبور في صدري فياضا، وهتفت بجدي متسائلا: هل ألعب في المدرسة كالأطفال؟
فهز الشيخ رأسه الأبيض وقال: طبعا .. طبعا .. ستلعب كثيرا وتتعلم كثيرا، ثم تصير فيما بعد ضابطا مثلي.
فسألته في لهفة: متى أذهب؟
فابتسم الرجل قائلا: قريبا جدا سأقيد اسمك غدا.
نامعلوم صفحہ