فتولتني الحيرة وتمنيت لو يزيد بيانا، ولكنه عاد يقول: إذا جدت صعاب فسيذللها هذا الحجاب بإذن الله.
وأعطاني لفاقة صغيرة جدا من الورق مربوطة بخيط رقيق، ثم قال: ضعه على القلب، وتوكل على الله! •••
ذكرت في طريق العودة ما عانيت من ألم منذ عصر الأمس، فأيقنت أن سعادة عام لا تزن شقاء يوم واحد، لم أهتد إلى مرسى، وما أزداد إلا حيرة وتبلبلا. إن ما يظلني أحيانا من طمأنينة ما هو إلا سحابة صيف، ولن يهدأ لي جانب حتى ألقى الحقيقة وجها لوجه، ما كنت أحب أن تلوث نفسي بالشك في الوجه الصبيح الطاهر، ولكن بذرة الشك قد ألقيت في أعماقها ولن تزال تنمو وتثمر شوكها الجهنمي. لقد شددت بقوة اليأس على أهداب الطمأنينة فتهتكت وتخرقت، وما أطيق أن أحتمل الحياة مترددا بين ساعة سلام خادعة وساعات عذاب طويل، فما من محيد عن أن أرى وراء الحجب، قد يكون في ذلك هلاكي، ولكن الحياة تقضي علينا في أحايين كثيرة بأن نجري وراء هلاكنا كأنه ألذ المنى. إني أحبك يا حبيبتي، ولعل القدر قد رماني بهذا الحب ليقضي به علي، ولكن هل أملك رد قضائه؟ لعلي أدرك الآن لماذا لم يكن يزايلني القلق حتى في أصفى ساعات سعادتي، أكان قلبي يشهد لمحات من المقدور وراء ستار الغيب؟ .. على أنني لا أحب أن أتمادى في التشاؤم، فقد يكون المخبوء على غير ما توقع قلبي، وقد أجد به ما أتلهف عليه من طمأنينة وسلام.
فما العمل إذن؟ الصواب أن ألتمس إجازة من الوزارة، ثم أفرغ للمراقبة في خفاء لا يدري به أحد. أيهون علي أن أتجسس على «رباب»؟! ألا ما أشق هذا على نفسي! ولكن كل شيء يهون إلا عذاب الشك!
51
توثبت للعمل وبي من الألم ما لا يعلمه إلا الله، فخرجنا معا كعادتنا كل صباح وركبنا الترام معا، ثم نزلت في محطة الوزارة وناديت «تاكسي»، وأمرت السائق بالذهاب إلى العباسية. سبقتها إلى مكان عملها لأهيئ لنفسي موضعا يصلح للمراقبة. وكانت الروضة تقع بشارع كمال - المتفرع من الطريق العام إلى اليسار - على يمين الداخل بعد فوات بيتين من مدخله، وقفت في المحطة أتفحص ما حولي، فرأيت شارعا فرعيا يقابل شارع كمال على الناحية اليمني من الطريق تقوم على ناصيته قهوة صغيرة، بدا لي أن أجلس في هذه القهوة حيث يسهل رؤية المدرسة من بعيد، ومراقبة زوجي حين دخولها وحين خروجها. واتجهت إليها - وكان بابها يفتح على الشارع الجانبي - واخترت مجلسا على عتبة المدخل يمكنني أن أرى منه ما أريد رؤيته، وأن أتوارى إذا دعا الحال بزحزحة الكرسي قليلا إلى الوراء. وأدركت من نظرة واحدة مقدار حقارة القهوة، فكانت موائدها قديمة وكراسيها باهتة رثة وروادها من النوبيين، ولكن لم أبال هذا، بل وجدت به مدعاة للطمأنينة. جلست وعيناي لا تتحولان عن شارع كمال، وكلما جاء ترام من المدينة اشتد انتباهي ويقظتي. ولم يطل بي الانتظار، فما لبثت أن رأيت زوجي وهي تعبر الطريق متلفتة يمنة ويسرة لتتفادى من المركبات حتى بلغت «الطوار» الأيمن لشارع كمال، ثم سارت بمعطفها الرصاصي المنمنم، بطولها الفارع الرشيق ومشيتها اللطيفة المهذبة، في احتشامها المعهود ووقارها المحبوب، ثم انعطفت إلى مدخل المدرسة وقد وقف لها البواب احتراما. غلبني الخجل والألم لموقفي ذاك، وترطب قلبي المحترق بالعطف والحب وأنا أذكر كيف بهرني هذا الجمال الوقور أول مرة، اللهم إذا كانت حبيبتي ملاكا فلتحرقني بنقمتك، وإذا كانت شيطانا فلتحرقنا جميعا، ولتحرق الدنيا معنا، فما يكون بها شيء يستحق الرحمة، وارتفعت عيناي إلى السماء وغمغمت: «ربي! إذا شاءت حكمتك أن تذر سموم الغدر في حنايا هذا الجمال، فلتغفر لي الجنون والثورة!».
وتفحصت الطريق أمامي متسائلا في رهبة: ترى هل أرى بعد ساعات من يقف منتظرا بموضع من هذا الطريق؟ هل أراهما وهما يتبادلان إيماءة أو ابتسامة أو يلحق أحدهما بالآخر؟ ما عسى أن أصنع لو انقضت هذه الصاعقة على رأسي! وانتفض جسمي غضبا ورعبا! وتخيلت الكارثة كما لو كانت قد وقعت، تخيلتها حتى تجسمت لناظري، ثم تساءلت مرة أخرى عما عسى أن أفعل! ليس أسهل من البطولة والنصر والبطش في أحلام اليقظة، ومع ذلك فلم يسعفني الخيال بنفحة منها، ولعله تحرج لأن الخطر الذي تهددني لم يكن بعيدا بحيث يسمح له بالاستمتاع بأحلامه، كان على العكس قريبا محتملا، فشكم الأحلام، وتمثل لي الموقف البشع في حدود الواقع، فتصورته بقلب هياب ونفس مخلخلة القوائم، تمثل لي العدو شخصا حقيقيا في طريق مزحوم بالمارة فما أسعفني الخيال على التصدي له جهارا ونشر فضيحتي على الملأ، أو خوض معركة لا أشك أني سأكون فيها من الخاسرين! تصور زوجا مخدوعا صريعا بلكمة من خادعه! تبا لي! لكم حنقت في تلك اللحظة على ضعفي! غضبت غضب من يروم دك الجبال، وتنهدت تنهد من يعجز عن رفع حصاة، ولكن ما من الإقدام بد! أأرى «رباب» مع صاحب الخطاب ثم أقف مكتوف اليدين؟! محال .. لأهجم إذن على غريمي وليكن ما يكون، أو أقنع بمشاهدة الجريمة الساعية في الأرض، ثم أنتظرها في البيت حتى تعود وأقول لها بهدوء واستهانة: «لقد رأيت كل شيء بعيني، عودي إلى بيتك بسلام!» لماذا أقدمت على هذه الخطوة الجنونية؟ لماذا تزوجت؟ ما كان ينبغي لمثلي أن يتزوج. وارتفعت في القهوة ضجة ضحك فانتشلتني من الأحلام، فعدت إلى وعيي متعبا كالمريض، وألقيت نظرة على الوجوه السود الدائبة على ثرثرة لا تنقطع بأصوات غريبة مكهربة، ونظرت بين يدي فإذا بفنجان القهوة لم يمس، فرفعته إلى فمي ورشفت منه رشفات باردة، وعدت ببصري إلى الطريق حتى استقر على باب الروضة. إن «رباب» تباشر الآن عملها في طمأنينة، ومن يدري فلعل هذا الرعب كله أن يتمخض عن لا شيء، ولعلي أن أذكر موقفي هذا يوما فلا أداري خجلي. أتكذب هاتان العينان الصافيتان؟ أيغدر هذا القلب الطاهر؟ وتتابعت الدقائق في تفكير متواصل، حتى انتبهت على طقطقة نافذة وهي تفتح، فاتجه بصري بحركة عكسية إلى الجانب الآخر من الطريق، فرأيت النافذة في الطابق الثاني من عمارة كبيرة وقد أطلت منها امرأة، ولعلها عجبت لجلوس أفندي مثلي في قهوة النوبيين، فنظرت صوبي باهتمام، كان في عينيها جراءة، فارتد بصري في حياء. ومع أن عيني لم تثبتا عليها إلا لحظات إلا أنهما عادتا منها بصورة واضحة لوجهها الغليظ وصدرها المكتنز، وداخلني إحساس بالقلق؛ لأن النافذة تطل على مجلسي مباشرة، وقد رفعت عيني في حذر شديد، فرأيتها تدخن سيجارة وتنظر إلى شيء بين يديها على حافة النافذة، فتشجعت بتحول عينيها عني وأدمت إليها النظر. كانت فوق الأربعين إن صدق نظري - وقل أن يصدق في تقدير الأعمار - وكانت على رغم تأنقها وتزينها أقرب للدمامة منها للحسن، ذات وجه مستدير غليظ، وعينين بارزتين ثقيلتي الجفنين، وأنف قصير أفطس، وشفتين ممتلئتين، ووجنتين متكورتين منتفختين، وشعر جعد لامع. وما لبثت أن غابت من النافذة فكاد يذهب عني القلق، ولكن باب شرفة تجاور النافذة فتح على مصراعيه وبرزت المرأة منه تجر كرسيا، ثم وقفت قليلا مرتفقة حافة الشرفة، فرأيت جسمها المكتنز المائل إلى القصر، ثم جلست على الكرسي واضعة رجلا على رجل. كانت الشرفة أقرب إلى الطريق العام من النافذة، فأمكنني أن ألحظ من فيها دون حاجة إلى عطف رأسي، فاختلست نظرات من ساقيها المرتويتين السمراوين، وشبشبها الأحمر الفاقع، وأنقذني وجودها من تيار أفكاري الجهنمي، وإن استحوذ علي ذلك القلق الطارئ، وراحت تنفخ الدخان من شفتيها الغليظتين وتقلب عينيها فيما حولها، وكلما التقتا بي تفحصتاني بجراءة منقطعة النظير حتى شعرت بحرارة الخجل تلهب وجهي، وتساءلت في ارتباك: متى تختفي؟ فلقد أربكني تفرسها في وجهي، ولعله ترك في نفسي أثرا آخر غريبا لا يخلو من ارتياح حذر وانفعال جنسي لم أعرف له سببا. وكنت كلما رفعت إليها عيني حولت رأسها نحوي وحدجتني بنظرة وقحة ثاقبة كأنها ترى بأذنيها، أو أنها تتمتع بحساسية خارقة تنقل إليها النظرات التي تصوب نحوها من أي مكان كان، فركبني الخوف والحذر، وحرصت على ألا أرفع بصري القلق إليها. ترى هل يطول بي هذا الحذر والتوتر؟ وعلى حين فجأة رن صوتها - صوت ممتلئ رنان - وهي تقول وكأنها تخاطب أحدا في الطريق: «إني قادمة يا ماما»، ثم نهضت قائمة ومضت إلى الداخل! ولم أتمالك أن ابتسمت في استغراب واستنكار، فقد هالني أن تقول: «ماما» وهي المرأة التي جاوزت سن الشباب، كما أدهشني أن تستجيب لنداء أمها بهذا الصوت الذي رن في الطريق بلا داع، وكان بوسعها أن تذهب إليها دون أن تنبس بكلمة، أو أن تخاطبها عقب دخولها إلى الحجرة، فبدت لي - إلى جراءتها - غريبة الأطوار، محبة للظهور ولفت الأنظار، متجاهلة لسنن العقل الذي تعتلي ذروته. على أنني سررت لذهابها، ولتخلصي من سطوة نظراتها، وعدت إلى نفسي، وإلى الطريق الذي علي أن أراقبه حتى ينطوي النهار. وتتابع الوقت فأتعبني تثاقله، واستحوذ علي الضجر. ألا يحسن بي أن أمضي هنا وهناك حتى يقترب موعد انصراف الروضة؟ ولكن من يضمن لي ألا تحدث أمور في أثناء تجوالي؟ فلأظل رهين مجلسي هذا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولبثت بمكاني متجرعا الصبر دقيقة فدقيقة، وجاءني صوت من الشرفة، فرفعت عيني، فرأيت المرأة وهي تنقل الكرسي إلى موضع من الشرفة تملؤه أشعة الشمس ثم تستقر عليه .. ولاحت منها نظرة إلى القهوة، فلما وقعت علي لاح بعينيها الاهتمام والدهشة وكأنهما تتساءلان عما دعاني إلى ملازمة مكاني بهذه القهوة الحقيرة طوال هذا الوقت، وتعمدت أن تظهر لي دهشتها بغير ما حياء، فلم يبق إلا أن تسألني عما يبقيني في مجلسي ذاك؟ وأشعلت سيجارة، وراحت تدخن بتلذذ، وتتسلى بالنظر إلي من وقت لآخر. وصممت على أن أركز انتباهي في هدفي، فأرسلت بناظري إلى الطريق، ولكن ظل شعوري في شغل شاغل! وتبددت قوة إرادتي في مقاومة ما يجذبني إلى رفع بصري، وغلبني الحياء والارتباك إذ تهيأ لي - لضيق الشارع - أنني والمرأة في حجرة واحدة. ولم أخل من إحساس بالارتياح منشؤه أنني أجد نفسي محط نظرة امرأة لأول مرة في حياتي، ولم يعد يخفى علي ذلك الانفعال الجنسي الذي بعثه في أعصابي وجهها الغليظ وساقاها المرتويتان، ولئن كانت جرأتها قد أزعجتني فلم تعدم في نفسي إثارة من ارتياح غامض، لعله نوع من الإعجاب الذي لا يريد أن يفصح عن نفسه، وتساءلت في دهشة: ترى لو كان لجميع النساء ما لهذه المرأة من جرأة أكنت أقطع ما خلا من زماني موحوحا بغير رفيق ؟! وانسقت وأنا لا أدري إلى مقارنة هذه الجرأة الجذابة بذاك الاحتشام الجميل الذي تتحلى به زوجي المحبوبة، ولكني سرعان ما أنكرت المقارنة الوقحة، فامتلأت سخطا وتقززا. ولبثت المرأة بمجلسها ساعة، ثم عادت إلى الداخل وأغلقت باب الشرفة، فتنهدت في ارتياح عميق وغمغمت: «لا أرجعها الله!» وانفرد بي الانتظار، ومر الوقت في إعياء وسأم، فجعلت أتسلى بمراقبة ستة أو سبعة من النوبيين هم كل من بقي بالقهوة من الزبائن، وقد واصل ثلاثة منهم الثرثرة، على حين جمد الآخرون على مقاعدهم كتماثيل من البرونز. وحينما أرمي بنظري إلى الطريق العام أحصي المارة نساء ورجالا، وأشاهد مركبات الترام الذاهبة الآتية، أو أتساءل كلما قرع أذني أزيز ترام آت من بعيد أن يكون رقم 3 أم رقم 22، وهل يجر مركبة مكشوفة أو مغلقة؟ ثم أحصى مرات الصواب والخطأ. ولما آن وقت انصراف الروضة عاودتني اليقظة، ثم اشتد بي القلق والجزع، وجالت عيناي في جنبات الطريق، ثم استقرتا على باب المدرسة، ولشد ما خفق قلبي حين رأيت جماعة من المدرسات يغادرن الروضة، وعلى أثرهن خرجت «رباب» بصحبة فتاة من زميلاتها، واتجهت نحو شارع العباسية وهما تتحادثان وتضحكان، وافترقتا في الطريق العام؛ فاتجهت الفتاة إلى اليسار، وسارت زوجي إلى المحطة، ولما كانت وقفتها بحيث يتجه وجهها صوب شارع القهوة الجانبي فقد تراجعت بالكرسي إلى الوراء منتحيا عن مرمى بصرها، وتفحصت الطوار بعناية وقلبي يكاد يثب من موضعه من شدة الحفقان، فقد حدثتني نفسي بأنني سأتلقى الضربة القاصمة بعد لحظات. وكان على «طوار» المحطة شتيت من الرجال والنساء، ولكن زوجي انتبذت طرف الطوار البعيد ووقفت وقفتها المحتشمة لا تميل برأسها نحو أحد، وتنظر من آن لآخر من وراء كتفها صوب الجهة التي يأتي منها الترام، لم أر ما يريبني، ولم تتحول عنها عيناي لحظة واحدة حتى جاء الترام وصعدت إليه، وبارحت مكاني متعجلا وناديت تاكسي وركبته، وطلبت من السائق أن يتبع الترام عن بعد. وجلست لصق النافذة اليسرى وعيناي إلى مقصورة السيدات، حتى بلغنا العتبة، ونزلت زوجي من الترام واخترقت الميدان إلى محطة الترام رقم 15 الذاهب عن طريق الروضة، فدرت بالتاكسي حتى وقف بي على كثب من قسم الموسكي، رأيتها تقف في زحمة من الخلق فجعل بصري يدور في الحلقة التي تحيط بها ويثبت عليها في سرعة وجنون. وجاء الترام فصعدت إليه، ومضى بها، فتبعته محطة بعد محطة حتى طوى الطريق إلى محطة عمارتنا، ورأيتها تغادره وتعبر الطريق صوب البيت! وانطلق بي التاكسي محطة أخرى، ثم غادرته وعدت إلى البيت مشيا على الأقدام، وشعرت في طريق عودتي براحة مشوبة بخجل، وتساءلت في حيرة: ترى هل فتاتي بريئة أم ينطوي الغد على ما لم أعثر به في يومي؟ ولما انتهيت إلى الشقة وجدت أمي قلقة لتأخري، وكذلك «رباب»، فأخبرتهما بأن العمل يستدعي بقائي في الوزارة لهذه الساعة مدة أسبوع على الأقل. وحين الأصيل أخذت «رباب» في ارتداء ثيابها وقالت لي إنها ستزور أمها، ودعتني - كعادتها كلما خرجت - إلى مرافقتها، وتساءلت: كيف يمكنني مراقبتها في المساء؟ ليس الأمر سهلا كما في الصباح، فالبيوت التي تتردد عليها في أحياء متقاربة، وهي تقصدها مشيا على الأقدام، فيما ندر. فلا أستطيع أن آمن على نفسي - إذا تبعتها - من الافتضاح، ولكني إذا لزمتها في تجوالها أمنت المساء، ولم أدع لها فرصة لأمر، مما يضطرها إلى مقارفة الإثم - إن كان ثمة إثم - في نصف النهار الأول فتقع في شباكي من حيث لا تدري .. لذلك تقبلت دعوتها بسرور وقلت لها ضاحكا: سأذهب معك تفاديا من الملل الذي يقتلني في غيابك.
فسرت لقبولي دعوتها وقالت برجاء: ليتك تخرج معي دائما، فليس أحب إلي من أن نذهب ونجيء معا!
52
وفي صباح اليوم الثاني خرجنا معا كعادتنا، وأعدت ما صنعت بالأمس، فاستقللت التاكسي إلى قهوة النوبيين واتخذت مجلسي بمدخلها، وجاءت رباب في موعد الأمس ومضت إلى الروضة، وخطر لي وأنا أتبعها عيني أنه لو كان لها حساسية المرأة الغريبة - لم أذكرها منذ غادرت العباسية بالتاكسي أمس حتى وثب لذهني هذا الخاطر - فالتفتت صوبي ووقع بصرها علي فدارت على عقبيها وجاءت إلي في دهشة تسألني عما أتى بي إلى هذه القهوة؟! تصورت هذا المنظر في فزع، فانكمشت في مجلسي هلعا، وعضني الندم والألم، ولكن زوجي مالت إلى المدرسة آمنة مطمئنة، غافلة عن العينين اللتين تراقبانها في حذر وارتياب، حتى غيبها الباب عن ناظري، فذهب عني التوتر والخوف، وشعرت برهبة حيال الانتظار الذي كان علي أن أعانيه في تصبر وتجلد نهارا آخر. وألقيت نظرة دائرية ضجرة على شارع القهوة الجانبي وما يبدو لي من شارع العباسية والقهوة بزبائنها السود؛ تلك الأماكن التي قضي علي بأن أمكث بينها كالسجين المجنون أتخبط في دياجير الأفكار وشوارد الأخيلة الجهنمية .. ولكنني كنت ذكرت المرأة الغريبة وأنا أراقب زوجي في ذهابها إلى المدرسة، فرفعت عيني إلى العمارة على الجانب المواجه للقهوة، فرأيت النافذة والشرفة مغلقتين، وتساءلت: كيف لي بتحمل الانتظار نهارا كاملا بلا تسلية أقتل بها الوقت؟ وكان تساؤلا مريبا أداري به رغبة في رؤيتها كرهت الاعتراف بها، ولكن ماذا يدعوني إلى إنكار هذه الرغبة؟ وهل هي رغبة في التسلية وقتل الفراغ؟! أجل إن المرأة قد أهاجت في صدري انفعالا جنسيا، ولكن ليس في هذا جديد، فقد كنت ولا زلت أتلقى هذه الانفعالات الجنسية من أقبح الآدميات، وأقذرهن، ولم يغير الزواج من حالي، ولم يشفني من دائي، فرددت إلى عاداتي القديمة جميعا، وعاودت النظر إلى النافذة مرة أخرى، وكأني أعاني انتظارين! فلأحاول فهم نفسي أكثر من هذا، لست طالب تسلية فحسب، إني أرغب في رؤيتها مرة أخرى، لتلتهمني بنظراتها كما فعلت بالأمس، فيعاودني ذاك الشعور العميق بالارتياح والزهو، وأسترد بعض الثقة المسلوبة، ولم أكد أستغرق في أفكاري حتى قرع أذني طقطقة النافذة، فرفعت عيني، فرأيتها وهي تنفتح على مصراعيها، ولاحت وراءها المرأة، والتقت عينانا، ولم تكن تتوقع رؤيتي بطبيعة الحال، فتجلت في عينيها دهشة واضحة، ولبثت دقيقة أو نحوها وهي ترنو إلي، ثم تحولت عنها واختفت، وداخلني سرور لا يتناسب مع شقاء المهمة التي جئت من أجلها إلى هذا المكان، واتجه بصري صوب الشرفة المغلقة منتظرا أن تفتح. وقد كان، فدفعت يد مصراعيها حتى اصطدما بعنف بالحائط على الجانبين، ثم دخلت المرأة تجر الكرسي بجسمها القصير المكتنز، وقد بدت لي في الروب الوردي كبرميل إلا أنه مفصل تفصيلا بهيميا، ووضعت الكرسي في ركن الشرفة البعيد. وجلست عليه مستقبلة القهوة بوجهها، ومدت ذراعيها على حافة الشرفة الخشبي وجها لوجه، وليس بالشارع الجانبي دكان، ولا يكاد يمر به أحد إلا فيما ندر. وأما زبائن القهوة فعاكفون على ثرثرتهم في الداخل لا يرون شيئا، ومائدتي بموضعها من المدخل وحيدة، فخلتنا منفردين على نحو ما. وشعرت في اللحظة التالية بالارتباك والحرج، ولم أدر كيف يمكنني البقاء هكذا تحت رحمة عينيها الوقحتين، فتمنيت لو لم تحقق رغبتي الخفية. وجعلت أنظر إلى الطريق البعيد تارة، أو أعطف بصري من فوق كتفي إلى داخل القهوة تارة أخرى، شاعرا في أثناء هذا وذاك بوقوع عينيها الثقيلتين على وجهي. إني راغب في وجودها ما في هذا من شك، ولكني لم أحتمله، وما من مرة أسترق إليها نظرة إلا وأجدها متفرسة في وجهي في هدوء وإمعان وبلا حياء أو تردد، وإن هذا ليملؤني سرورا وخفة؛ ولكنه يسومني ما لا طاقة لي به من خجل وارتباك. إن عينيها تنظران طويلا ولكنهما لا تنظران فحسب، إنهما تتحدثان بأجلى لسان، كلما التقت عينانا خلتها تخاطبني فأغض الطرف وكأني أفر فرارا. ونظرت نحوها مرة فوجدتها تشعل سيجارة، وأطفأت عود الثقاب بهزتين، ثم رمت به نحوي لولا أن أرجعه الهواء، وأخذت نفسا عميقا وقد ابتسمت عيناها، فخفق قلبي بعنف وازدردت ريقي بصعوبة .. ماذا تريد هذه المرأة؟ .. كيف تواتيها الجرأة على هذا النظر العارم الوقح؟ بل كيف تطاردني هذه المطاردة الصامتة وهي لم تسبق لها بي معرفة، ولم ترني إلا مرة بالأمس ومرة أخرى اليوم؟! واستحوذ علي الاضطراب، وشغلت بالشرفة انشغالا تاما، فلم أعد ألقي على باب الروضة إلا نظرات سريعة لا تكاد ترى شيئا. ورأتني أنظر نحوها فوضعت رجلا على رجل جاذبة عيني قهرا إلى جانب عريض من فخذيها أحدث التقاؤهما واشتباكهما طيات سمراء مثيرة؛ فشعرت بمثل سورة الخمر وجف حلقي وطغت عواطفي على حيائي، فذاب كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس النارية، فحملقت فيها بلا خجل ولا تردد، وما لبثت أن نهضت قائمة وغادرت الشرفة! تركتني في ثورة جامحة. وقلت لنفسي ساخطا: أية هاوية تنفغر تحت قدمي؟! ثم ثبت إلى الهدوء رويدا فأمضني الأسف والخجل وألقيت على الشرفة نظرة غاضبة وغمغمت كما غمغمت بالأمس: «لا أرجعها الله!» قد يكون الانتظار مؤلما ولكنه خير من هذا الشر الذي يتهددني. ولم يكن يساورني شك في أنها ستعود، وكان بوسعي أن أغادر القهوة إلى غير عودة، وأن أبحث عن مكان جديد يصلح للمراقبة والانتظار، ولكني أقنعت نفسي بأن هذه القهوة المتوارية هي أصلح الأماكن قاطبة لمهمتي. ولم تطل غيبة المرأة فعادت إلى مجلسها وفي عينيها نظرة باسمة، وتملكني الغضب لا لعودتها ولكن للسرور الذي استخفني، وقلت: امرأة وقحة ما رأيت أغلظ ولا أقبح منها، ولكني عدت أخالسها النظر وأتمنى لو تأخذ راحتها وتضع رجلا على رجل. وعدت أتملى إيثارها لي بالنظر والاهتمام، فازدهاني عطفها وشعرت بنهم الجائع إلى الاستزادة منه، وهل كان هذا الاهتمام إلا لجمال وجهي ورشاقة قوامي؟! وقلت لنفسي في غرور صبياني: لعلها معجبة بالأعين الخضر والبشرة البيضاء والقامة الفارعة. وعلى حين بغتة انسل إلى خاطري صوت هامس يتساءل في سخرية: «وهل أغنى عنك جمالك شيئا؟!» وتمثلت لعيني تعاستي الزوجية فكأن قطعة كبيرة من الثلج وقعت على فورة حماسي فأخمدتها وخنقت أنفاسي. فترت نشوتي وحل محلها شعور بالغ بالشقاء والخيبة، وتناسيت الشرفة، وهرعت أفكاري إلى الروضة فتمنيت لو تنكشف لي الحقيقة مهما كانت بشعة قاسية لأنتهي من الأمر كله. تمنيت - إذا لم يكن من الأمر بد - أن أرى صاحب الخطاب يلاقي رباب ويحادثها اليوم لا غدا ولا بعد غد، بل كان في ذهني شيء آخر - في تلك اللحظة - لا أدري كيف أعبر عنه. كأنني تمنيت أن يصدق سوء ظني! لست مخطئا، كان هذا هو الواقع، ولكن كيف أفسره؟! هل ثقل علي الشك فرغبت أن أنجو منه ولو بهذا الثمن الفادح؟ أو ضقت بهذا العجز الغريب الذي جعل من حياتي الزوجية مهزلة، فتمنيت أن أجد في جريمة زوجي مهربا من حياتي؟! أو كان ضميري الرازح تحت وطأة الشعور بالإثم يلتمس عقابا وتكفيرا؟! على أنه لم يكن إلا إحساسا عابرا، ولم يبق منه أثر في اللحظة التالية، وغشيتني بعد ذلك كآبة وامتعاض. ولم تلبث المرأة أن غادرت الشرفة تلبية لنداء من الداخل، كما دلت عليه استجابتها فلم تعد للظهور. وانتظرت طويلا تتناوبني الأفكار والأخيلة المفزعة حتى انطوى يوم الانتظار ورأيت رباب - كالأمس - قادمة نحو المحطة. ولم يجد جديد فرجعنا؛ هي في الترام وأنا في التاكسي. وعند المساء اقترحت علي أن نذهب معا إلى سينما رويال فقبلت بلا تردد، وذهبنا معا.
نامعلوم صفحہ