حقا إن الحياة سراب خادع؛ سراب لأنها تخدع أنظار المسافر المجد في سيره ليقطع المرحلة الأخيرة في صحراء العمر، إذ ينظر إليها نظر ذلك السائح التعب في وسط المهامه، المتطلع لأقصى نقطة يصل إليها بصره حيث يرى بعين الخيال واحات جميلة المناظر وارفة الظلال.
ذلك المنظر الخلاب، مناط أمل السائح في مجاهل الصحراء، عدم يحيط به فضاء يمتد إلى ما شاء الله، فليس له وجود حقيقي، اللهم إلا شكل ظاهري يتراءى للعين كأنما هو في نهاية الأفق، منشؤه تشعع الحرارة من ذرات الرمال المشرقة بالنور في وسط ذلك القفر.
مسكين ذلك الظمآن الساذج، المأخوذ بضروب المناظر الوهمية التي يصورها له ذلك السراب، من غدران صافية المياه، وجزر خضراء، وواحات ذات نضارة ونماء، يرى المسكين هاتيك المناظر، وينظر إليها بعين الوهم، وهو أشد ما يكون ظمأ، فيشتد عطشه وتزداد حيرته، فيسرع نحوها بخطى واسعة، محدثا نفسه بهذه الكلمات: «بعد قليل أصل تلك الجنة الفيحاء، فأتفيأ ظلالها، وأرتوي من جداولها، وهناك في نعيم تلك النضارة وظلال هاتيك الخضرة أخلع عن نفسي رداء هذه المتاعب والمشقات؛ لأنسى مرارة هذه الحياة الباردة الموحشة الخالية من ألوان البهجة وأنواع السرور.»
بمثل هذه الآمال يجد المسكين في مشيته، يطوي الأرض متخبطا في رمال الصحراء المتأججة بنيران الحرارة، فيمشي ثم يمشي ثم يمشي، إلى أن يضنيه السير ويأخذ التعب منه مأخذه، وكلما اشتد به التعب وأعياه السير تزداد رغبته في الوصول إلى غايته، ويظل على هذا المنوال، يهرول نحو ذلك الظل الخلاب ذي البريق الكاذب إلى أن يأتي عليه المساء، وعند ذلك تكون الشمس آخذة في المغيب، ويأخذ الانعكاس الناشئ عن الضوء في الأفول شيئا فشيئا حتى انكسار حدة الحرارة، فينظر المسكين بعدها إلى تلك المناظر المتعددة، مناظر الظلال والواحات والغدران، فإذا بها مرت من أمامه كالطيف، وأصبحت جميعها في خبر كان.
إزاء هذه الخيبة لا يجد المسافر بدا من الجلوس في وسط ذلك القفر الموحش، مضنى الجسم، منهوك القوى، محدثا نفسه عن تلك المناظر الخلابة التي توهمها منذ هنيهة، متسائلا عن حقيقة أمرها هامسا في آذان نفسه بهذه الكلمات: «وحينما بدأت في السير كان الطقس جميلا والفصل ربيعا في ميعة شبابه، أما الآن فأشعر كأنما الخريف يبسط أجنحته السوداء على الطبيعة رويدا رويدا، وأشعر أيضا بأن العواطف والإحساسات التي تخفق في قلبي الساعة أكبر من أن يشعر بها من كان في مثل سني ، فوا حسرتاه لتلك المتاعب والمشقات التي تكبدتها في سبيل الوصول إلى تلك المناظر المبهجة التي أفلت وانطفأ نورها مع غروب الشمس، أما آمالي فلم تكن سوى أشعة من النور المنعكس زالت بزوال المسبب وهو الضوء، والأماني الذهبية التي جعلت للحياة في نظري قيمة معنوية، تلك التي كنت أسعى وراء تحقيقها، إن هي أيضا إلا ظل زائل من هذا القبيل.»
تمر دقائق العمر سراعا، بينما يكون السائح غارقا في مثل هذه الهواجس والأفكار، أما الأقدار فتهيئ لهذا الكون أياما جديدة وشموسا حديثة وأسرابا غير الماضية، بينما الإنسانية تقطع طريقها في مجاهل الحياة غير مبالية بما تلاقيه من ضروب العذاب والهجران في سبيل ما تطلبه من اللذائذ والمسرات، ووجهتها خضرة تلك الجزر الوهمية، حيث يفنى ذكرها إلى الأبد.
الفصل الثاني
كل كائن في هذا الوجود فان، غير أن ذكرى الفناء باقية لا تنعدم، وغاية كل كمال مبدأ للزوال، إذن فكل مخلوق عرضة للفناء حالما يصل حد الكمال، إلا الكلام، فإنه باق لا يزول، يضمن له الكمال دوام البقاء والخلود.
وأجسام المخلوقات عرضة للزوال والفناء، أما أجسام الكلام فهي دائمة لا تزول، إذن فالبقاء في هذا العالم موجود بوجود الكلام.
كل قوة في هذا الوجود قد تئول إلى ضعف بمرور الزمان، وكل نور قد يخبو بعد طول الأوان، أما الكلام فيبقى خالدا على الدوام، محافظا على ما له من قوة ونور.
نامعلوم صفحہ