48

ولقد يخيل إلى الإنسان في أحايين أن يتمم مخلوقا ببضعة من مخلوق، وأن يسوي تكوينا بتكوين، ويمزج عنصرا من الأبدان بعنصر، فامرأة يتممها رجل، وآدمي يتممه حيوان، وطلعة فتاة يتممها قوام وأبوة أحرى أن تنتقل إلى أمومة، وأشباه ذلك من أخيلة المزج والتركيب.

أما هذه المخلوقة فلو انتقل عصب منها إلى تكوين ليث غضنفر ليبقى هنالك عصب أنثى بين جميع ما حوله من ألواح وأمشاج، ولو بقي ألف سنة.

ولو أنها تفرقت بين أجسام شتى لكانت فيها خميرة أنوثة يوشك أن تطغى على جميع تلك الأجسام.

شغلتها جواذب الجسد قبل أن تفقه معناها وتسمع باسمها ومسماها، فلما كانت بنية دراجة في المدرسة ذهبت يوما إلى كرسي الاعتراف تستغفر الكاهن عن مخالفة وصية من الوصايا العشر التي حفظتها، وتتوب من مقارفة الخطيئة التي دعوها في المدرسة «ترفا» على سبيل الكناية! فذعر الكاهن ولم يصدق ما يسمع، واستعادها مرة بعد مرة وهي آخذة في ذعر كذعر الكاهن من مس العدوى ورهبة الصوت ... ماذا؟ فيما دون العاشرة وبين جدران مدرسة ليس فيها إلا البنات تزل بنية لم يكعب ثدياها وتقترف أم الخطايا التي يقترفها النساء والرجال.

وما سكنت بلابل الكاهن المذعور حتى بدا له من لهجتها أنها لا تفقه ما تقول، وأنها بمحاكاة المعترفات لأنها أحبت أن تصنع مثل ما يصنعن، وبحثت عما تعترف به فلم تجد غير هذه الخطيئة التي تجهلها، وقد نجت الخاطئة الصغيرة بعركة أذن وجيعة، ثم ذهبت تسائل الزميلات ما هذا الذي ذعر منه الكاهن ذلك الذعر الشديد؟ فلا تفوز بغير ضحكات وغمزات.

قال لها همام وهي تحكي له حكايتها: لقد حسب لك اعترافك قبل أوانه ... ولئن اعترفت بالأمس وما أخطأت فلأنت اليوم تخطئين وما تعترفين.

وعاشت بعد ذلك تنظر إلى خطايا الأديان نظرة المرأة الوثنية التي نشأت قبل أن ينشأ الأنبياء، فهي ليست كالمتدينة التي خامرها الشك في دينها، ولكنها كالمرأة التي لم تتدين قط ولا قبل لها بالتدين، عن نزعة طبيعية فيها لا عن بحث ونقاش واطلاع، ومثلها كمثل الطفل يأكل الحلوى خلسة إن لم يأكلها جهرة، وآباؤه مع ذلك هم الملومون لأنهم منعوه، وليس بالملوم لأنه اختلس مالا بدله من اختلاسه!

ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولا كضجر المدمن يخدره العقار، ولكنها كرعدة الحمى وصرعة الفرح الجموح يتبعها النشاط والمراح كما يتبعها الإعياء والبكاء.

لها فراسة نفاذة في كل ما بين الجنسين من علاقة، لو حصلتها بالتعليم والتلقين لاستغرقت أعمارا إلى جانب عمرها في القراءة، ولكنها تفطن لما في نفس المرأة لأنها امرأة، وتفطن لما في نفس الرجل لأنها امرأة، وبعينها ذكاء موصول بالفطرة وتعبير يتضح في ذهنها وإن يتضح بعض الأحايين على لسانها.

والحق أن هذه الفتاة كانت في معرفتها بطبيعتها الأنثوية أعجوبة، وكان همام يسمع منها ما قل أن تفهمه امرأة وإن شعرت به، وقل أن تقوله وإن فهمته، وقل أن تحسن التعبير عنه وإن أرادت أن تقوله؛ إذ المعهود في المرأة أنها تشعر ولا تفهم شعورها، أو أنها تفهمه ولا تعمد إلى الصراحة فيه، أو أنها تعمد إلى الصراحة فيه ولكن لا تحسن التعبير، أما هذه الفتاة فعلم الأنوثة عندها كعلم الحساب عند بعض الأطفال الذين يجمعون ويضربون عشرات الأرقام بغير تدوين ولا مراجعة، مسألة بداهة سهلة لا إجهاد فيها للفكر ولا اعتساف ولا تعليم!

نامعلوم صفحہ