وعاد صاحبنا يتساءل في ضميره: ما عنده؟ أهكذا جزمت سريعا بأن «عنده» سرا وأنه يستطيع أن يبوح بأكثر مما قال؟ ألا يجوز أنه لم يعرف سرا على الإطلاق، وأن ما حسبته غمزات ونغمات مريبة في صوته إنما هي عادة هذه الطبقة عندما تتحدث لرجل عن امرأة، أو عندما تتحدث في كل شأن بين رجال ونساء؟ - يجوز. - لا يجوز.
وهكذا انطلقت في مخيلة صاحبنا أوهام وأشباح لا عداد لها في تلك الساعة القصيرة، ولا يقاس عليها كل ما شهدته تلك الدار من الأوهام والأشباح ومن المبكيات والمضحكات.
ولم ينقذه مما استغرق فيه إلا انتهاء التمثيل وزحام الخروج ولقاء بعض الأصحاب وسهرة كثرت فيها الشواغل وطال الحديث.
ونام تلك الليلة على أثر انفضاض السهرة وكان يقدر أنه لن ينام.
ولكنه لو قضى الليل كله ساهرا لما عمل في اليقظة إلا الذي عمله وهو نائم، حلم وتفكير وهواجس وخيالات تضطرب وتصطخب ويتبع بعضها بعضا، ولا تميل إلى جانب الرضا لحظة حتى تعود إلى جانب الوسواس والمنغصات.
ثم استيقظ في الصباح وهو يسأل نفسه كأنما يسأل مخلوقا غريبا يجهل ما عنده من نية وشعور: أتنوي أن تنتظرها في الموعد؟
فما هو إلا أن وضح السؤال في خاطره حتى شعر بأنه سؤال غريب يدل على ما وراءه، وحتى بدت الدهشة من أن تكون هناك نية معقولة غير الانتظار.
وهنا دارت في سريرة هذا الرجل - هذا الرجل الواحد - مناقشة عنيفة طويلة كأعنف ما تدور المناقشة بين رجلين مختلفين، كلاهما مصر على عزمه، وكلاهما يحاول جهده أن يخدع الآخر ويستميله إلى رأيه، وكلاهما يبذل كل ما هو قادر عليه في هذا الحوار من أساليب الإقناع والإغراء والرياء والتصريح: كيف لا تنتظرها؟ أتعطي سيدة موعدا ولا تنتظرها فيه؟ أهذا يليق برجل؟ - ولكنها ليست سيدة كسائر السيدات، ولا زائرة من زائرات المجالس العامة اللواتي تقع بيننا وبينهن هذه التكاليف ... إن هذه المجاملات أو هذه القيود لا حساب لها في العلاقات التي انطلقت من جميع القيود. - ولكن مم عساك أن تخاف؟ انتظرها وقل لها أنك لا تريد أن تراها بعد هذا الموعد. - عجبا ... أتجهل ما أخافه؟ أتجهل تلك الآلام التي لا حيلة فيها لمخلوق ولا تزال تبتدئ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبتدئ؛ لأنها تبتدئ وتنتهي من الشكوك، وليس للشكوك قرار حاسم، ولا مقطع بيقين؟
أتجهل تلك الأشباح اللئيمة التي تطل عليك في أطيب أوقاتك فتنغص عليك كل لذة وتكدر عليك كل صفاء؟ - لكن علام كل هذه الشكوك التي ليس لها من أول ولا آخر؟ ... اصرفها عنك مرة واحدة وافرض أسوأ الفروض، وقدر أنها تخونك وأنك تلهو بها في ساعات فراغك، ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاص ولا خداع. - أأنت مخلص فيما تقول؟ وكيف تنقلب هذه المرأة التي كانت كل نساء الأرض عندي، وكل ما يخفق له قلبي، فتصبح بين مساء وصباح وهي لهو ساعة ومتعة فراغ؟ أهذا خداع يجوز على إنسان؟ أوتضمن إذا أنا اتخذتها لهوا ومتاعا ألا يتمكن اللهو ويطيب المتاع، وأننا لا ننكفئ بعد أيام أو بعد أسابيع إلى استغراقنا القديم وشكوكنا القديمة وعذابنا الأليم؟ لا لا، هذا محال باطل، واستدراج لا يستر ما وراءه وتزوير لا أرضاه. - لكن الفتاة مليحة مع ذاك ... تصور بضاضتها وهي جالسة إلى جانبك في المركبة، وأنفاسها وهي تهب على خدك فتسري في جميع أوصالك، وقبلتها وهي ترتعش على شفتيك، وحلاوتها وقد زادها النحول في هذه الأشهر حلاوة على حلاوة، ونحولها نفسه وما ينبئ عنه ويكشفه لك من المودة والحنين، وتصور ذلك كله بين يديك في مدى بضع ساعات وأنت مع هذا تفكر ... تفكر في ماذا؟ في نبذ هذه النعمة التي تسعى إليك، وفي الخوف والجبن والفرار. - هذا حق كله، إن الفتاة لمليحة ولا نكران ... ولكن! - ولكن ماذا يا أخي ...؟ انتظرها واله بها ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال ... ولا تستضعف عزيمتك هذا الاستضعاف المهين وأنت رجل ذو عزيمة ومضاء ... فإذا عاودتك الشكوك فأنت قادر على قطع العلاقة بينك وبينها كما قطعتها من قبل، وإلا فأنت رابح ما استرجعت من متعة وسرور. - عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هذا النزاع العنيف؟ - إنها تنجدك في كل حين ولكنك أنت لا تريدها الآن ... لا تريد عزيمة الجفاء والقطيعة، ومتى أردتها غدا فهي حاضرة لديك، وهي في كل ساعة طوع يديك ... ومع هذا ألا يشوقك أن تستمع إلى حديثها عن أيام القطيعة بينكما؟ ألا يجوز أن تفسر لك بعض الغوامض، وتريك من البواطن ما ينقض الظواهر وتصف لك من حالها في غيابها عنك ما يهمك ولو من باب الدراسة والاستقصاء؟
وتعاقبت الساعات ساعة بعد ساعة في هذا الحوار الحثيث ولا قرار.
نامعلوم صفحہ