غير أن النجوم نفسها كانت تعطي انطباعا لا يقاوم بالحيوية. من الغريب أن حركات هذه الأشياء المادية الخالصة، تلك الكرات النارية، التي تدور وتسير وفقا للقوانين الهندسية لجزيئاتها المتناهية الصغر، تبدو حيوية للغاية وباحثة للغاية. غير أن المجرة بأكملها كانت هي نفسها حيوية للغاية؛ إذ كانت شديدة الشبه بكائن حي، بزخارفها الدقيقة من تيارات النجوم التي تشبه التيارات الموجودة في الخلية الحية، وأكاليلها الممتدة كاللوامس، ونواتها من الضوء. لا بد أن هذا الكائن العظيم الجميل هو كائن حي، ولا بد أن له خبرة ذكية عن نفسه وعما سواه من أشياء.
في خضم هذه الأفكار الجامحة تحققنا من خيالنا، متذكرين أن الحياة لا يمكن أن تحظى بموطئ قدم إلا على تلك الحبات النادرة المسماة بالكواكب، وأن كل هذه الثروة من الجواهر المتململة ليست سوى كتل من النيران.
بعاطفة واشتياق متزايدين، وجهنا انتباهنا بدقة أكبر إلى أولى الحبات الكوكبية وهي تتكاثف من خيوط اللهيب الدوارة لكي تصبح في البداية قطرات سائلة تدور وتنبض، ثم تغلفها قشرة من الصخور، وتغطيها طبقة رقيقة من المحيطات، ويحيط بها غلاف جوي. تمكن نظرنا الثاقب من رؤية مياهها الضحلة تختمر بالحياة التي سرعان ما انتشرت إلى المحيطات والقارات الخاصة بها. ورأينا قلة من هذه العوالم المبكرة تبلغ الرتبة البشرية في الذكاء، وسرعان ما أصبحت هذه العوالم تعاني من الصراع الأعظم من أجل الروح، والذي لم يخرج منه منتصرا سوى عدد أقل.
في تلك الأثناء، أدى ميلاد الكواكب الجديدة، والذي كان حدثا نادرا بين النجوم، ولكن كان في المجمل منتشرا، إلى ظهور عوالم جديدة وسير جديدة. رأينا الأرض الأخرى، بنجاحتها وإخفاقاتها المتكررة، ثم اختناقها الأخير. رأينا العديد من العوالم الأخرى الإنسانية الطابع، مثل شوكيات الجلد والقنطورية وغيرها. رأينا الإنسان البشري العادي على أرضه الصغيرة يتخبط عبر العديد من المراحل المتغيرة بين البلادة والصفاء الذهني ثم البلادة المدقعة من جديد. ومن حقبة إلى أخرى، كان شكله الجسدي يتغير كما تتغير أشكال الغيوم. ورأيناه في صراعه المستميت مع الغزاة القادمين من المريخ، وبعد لحظة تضمنت المزيد من عصور الظلام وعصور من النور، رأيناه قد هرب بعيدا إلى كوكب الزهرة غير المؤهل للحياة خوفا من سقوط القمر. وبعد فترة أخرى، بعد دهر لم يكن سوى تنهيدة في حياة الكون، هرب قبل انفجار الشمس إلى كوكب نبتون، ليغرق هناك في الحيوانية الخالصة من جديد على مدار دهور أخرى. بالرغم من ذلك، فقد نهض منها مرة أخرى ووصل إلى أرقى مستويات ذكائه فقط ليحترق كحشرة عث في نار بفعل كارثة لا يمكن مقاومتها.
كل هذه القصة البشرية الطويلة بما فيها من أقوى العواطف والمآسي في الحياة لم تكن سوى جهد تافه عقيم مهمل على ما يبدو، لم يستمر إلا لبضع لحظات في حياة المجرة. وحين انتهت هذه القصة، استمرت مجموعة الأنظمة الكوكبية في الحياة، مع حدوث كارثة، أو ميلاد كوكبي جديد بين النجوم، أو حلول مصيبة جديدة هنا وهناك.
قبل الحياة البشرية المضطربة وبعدها، رأينا العشرات بل المئات أيضا من السلالات الأخرى الإنسانية الطابع، والتي كانت حفنة منها فقط هي التي قدر لها التيقظ إلى مدى روحاني يتجاوز أعلى ما وصل إليه البشر، وأداء دور في «اتحاد عوالم المجرة». كنا نرى هذه السلالات الآن من بعيد وهي على كواكبها الصغيرة الشبيهة بالأرض، المتناثرة بين تيارات النجوم الضخمة، وهي تناضل من أجل التغلب على كل تلك المشكلات العالمية، الاجتماعية منها والروحانية، التي يواجهها الإنسان في عصرنا «الحديث» للمرة الأولى. وبالمثل، رأينا مرة أخرى العديد من أنواع السلالات الأخرى، كالسلالة النوتية، والبحرية، والطائرة، والمركبة، والتكافلية النادرة، وكذلك كائنات أكثر ندرة تشبه النباتات. ومن كل نوع منها، قلة فقط هي التي فازت بالوصول إلى المرحلة الطوباوية وشاركت في المشروع المشترك العظيم للعوالم، هذا إن قام أي منها بذلك على الإطلاق. أما البقية، فقد انهارت في الطريق.
من مكان مراقبتنا البعيد، كنا نرى الآن في جزيرة بإحدى المجرات الفرعية انتصار السلالات التكافلية. هنا تحققت أخيرا بذرة اتحاد حقيقي بين العوالم. الآن قد بدأت نجوم هذا الكون الواقع على جزيرة في أن تطوق بلآلئ حية إلى أن أصبحت المجرة الفرعية بأكملها حية بالعوالم. في هذه الأثناء، اندلع في النظام الرئيسي ذلك الجنون الفظيع المعدي الخاص بتكوين إمبراطوريات، والذي شاهدنا تفاصيله بالفعل. غير أن ما قد بدا قبل ذلك على أنه حرب الجبابرة، والتي ناورت فيها العوالم العظيمة في الفضاء بسرعة لا تصدق ودمرت بعض الشعوب بعضها في محارق، بدا الآن على أنها حركة مندفعة لبضع من الشرارات المجهرية؛ بضعة من الكائنات المجهرية اللامعة المحاطة بحشود لا مبالية من النجوم.
بالرغم من ذلك، فقد رأينا الآن نجما ينفجر ويحطم كواكبه. لقد قتلت الإمبراطوريات شيئا أرقى من نفسها. وقد ارتكبت هذا القتل ثانيا وثالثا، ثم اختفى هذا الجنون الإمبريالي وانهارت الإمبراطوريات تحت تأثير المجرة الفرعية. وسرعان ما استحوذ على انتباهنا المجهد ذلك الظهور الرائع للطوباوية في المجرة بأكملها. وقد اتضح لنا هذا بصفة أساسية على هيئة زيادة مستمرة في الكواكب الاصطناعية. ازدهر النجم تلو النجم بمدار مزدحم تلو الآخر من هذه الجواهر الحيوية، تلك البراعم الحبلى بالروح. وكوكبة نجمية تلو الأخرى، بدت المجرة بأكملها حية بالكثير من العوالم، التي يسكن كلا منها سلالة كبيرة فريدة من الأفراد الأذكياء ذوي الحساسية الذين يوحدهم مجتمع حقيقي، والذي كان هو نفسه كائنا حيا تملكه روح مشتركة. وكل نظام من العديد من المدارات المأهولة كان هو نفسه كائنا مشتركا. وقد كانت المجرة بأكملها المنسوجة في وشيج تخاطري واحد، كائنا ذكيا متلهفا يتمثل في الروح المشتركة، تلك «الأنا» الواحدة لجميع أفراده المتنوعين الكثيرين السريعي الزوال. كان هذا المجتمع الشاسع بأكمله ينظر الآن إلى ما هو أبعد من ذاته باتجاه رفاقه من المجرات. وإذ قرر السعي خلف مغامرة الحياة والروح في الدائرة الكونية الأوسع على الإطلاق، فقد كان على تواصل تخاطري مستمر مع رفاقه، وفي الوقت نفسه بينما كان يتصور جميع الأشكال الغريبة من الطموح العملي، بدأ يستفيد من الطاقات الكامنة في نجومه على نطاق لم يكن متخيلا قبل ذلك الوقت. لم يتوقف الأمر عند إحاطة جميع الأنظمة الشمسية بنسيج رقيق من المصائد الضوئية التي كانت تركز الطاقة الشمسية الهاربة للاستخدام الذكي؛ ومن ثم فقد كانت المجرة بأكملها معتمة، بل إن العديد من النجوم التي لم تكن تصلح لأن تكون شموسا قد فككت وسلبت منها مخزوناتها الجبارة من الطاقة دون الذرية.
وفجأة، استحوذ على انتباهنا حدث قد بدا، حتى من على بعد، أنه متعارض بوضوح مع الطوباوية. انفجر نجم كان محاطا بالكواكب مدمرا جميع حلقات العوالم خاصته ثم غرق بعد ذلك في حالة من الوهن والشحوب. حدث نفس الشيء لنجم ثان ثم لثالث، وكذلك لنجوم أخرى في مناطق مختلفة من المجرة.
ومن أجل التقصي بشأن سبب هذه الكوارث المحيرة، فقد قمنا طوعا مرة أخرة بتوزيع أنفسنا على مراكزنا بين العوالم المتعددة.
نامعلوم صفحہ