بعد عدد لا يحصى من المتاعب، بدءوا يدركون أن أسلوب عيشهم بأكمله غريب على طبيعتهم النباتية الجوهرية. وجرؤ القادة والأنبياء على التنديد بالميكنة وبالثقافة العقلانية العلمية السائدة وبالبناء الضوئي الاصطناعي. وبحلول ذلك الوقت، كانت جذور السلالة بأكملها قد دمرت، غير أن العلوم الحيوية قد وجهت بعد ذلك بفترة قصيرة إلى مهمة توليد جذور جديدة للجميع من العينات الصغيرة المتبقية من الجذور. وشيئا فشيئا، تمكنت السلالة بأكملها من العودة إلى البناء الضوئي الطبيعي. وتلاشت الحياة الصناعية من العالم مثلما يتلاشى الجليد في ضوء الشمس. وبالعودة إلى حياتهم القديمة المتبدلة بين النباتية والحيوانية، وجد البشر-النباتات الذين أنهكتهم الحياة الصناعية وشوشت أذهانهم، في خبرتهم النهارية الهادئة سعادة غامرة. وفي المقابل، أدى ما عرفوه من شقاء في حياتهم الحديثة إلى تكثيف النشوة التي يجدونها في خبرتهم النباتية؛ فقد اجتمعت براعتهم الفكرية التي اكتسبتها عقولهم اللامعة من التحليل العلمي مع الطابع الخاص لحياتهم النباتية المنتعشة لتمنح خبرتهم الكلية صفاء جديدا. ولفترة قصيرة، بلغوا مستوى من الصفاء الروحاني كان سيصبح مثالا وكنزا في العصور المستقبلية للمجرة.
بالرغم من ذلك، فحتى الحياة التي تتسم بأسمى مستويات الروحانية لها إغراءاتها. كانت حمى التصنيع والعقلانية المفرطة قد سممت البشر-النباتات على نحو خفي للغاية حتى إنهم حين ثاروا عليها في النهاية قد ابتعدوا عنها للغاية؛ فسقطوا في فخ الجانب الأوحد للحياة النباتية مثلما سقطوا في فخ الجانب الحيواني من قبل. وشيئا فشيئا، راحوا يقللون من الوقت الذي ينفقونه في المساعي «الحيوانية» إلى أن أصبحوا يقضون كامل أيامهم ولياليهم بصفتهم أشجارا، ومات الذكاء الحيواني النشط المستكشف المعالج فيهم إلى الأبد.
ولفترة من الوقت، عاشت السلالة في حالة مبهمة ومرتبكة من نشوة الاتحاد السلبي مع مصدر الوجود الكوني. وقد كانت الآلية الحيوية القديمة العمر المتمثلة في حفظ الغازات الضرورية للكوكب على هيئة سائل؛ راسخة وتلقائية على نحو جيد حتى إنها استمرت في العمل لفترة طويلة دون أي انتباه لها. بالرغم من ذلك فقد أدى التصنيع إلى زيادة عدد سكان العالم بما يفوق الحد الذي يمكن للإمداد الصغير من المياه والغازات أن يقوم بوظيفته بسهولة. كان دوران المواد يتم بسرعة خطيرة. وبمرور الوقت، ضعفت الآلية للغاية، وبدأت التسريبات في الحدوث ولم يصلحها أحد. وشيئا فشيئا، هربت المياه الثمينة وغيرها من المواد المتطايرة من الكوكب. وشيئا فشيئا، جفت الخزانات وظمئت الجذور الإسفنجية وذوت الأوراق، وتحول سكان هذا العالم الهانئين الذين ما عادوا بشرا، من النشوة إلى المرض والقنوط والارتباك الجاهل ثم إلى الموت.
بالرغم من ذلك، مثلما سأوضح، فلم تكن إنجازاتهم غير ذات أثر على حياة مجرتنا. لقد ثبت أن وجود «المجتمعات البشرية النباتية»، إذا جاز لي أن أدعوها بذلك، لم يكن بالأمر النادر الحدوث؛ فقد سكن بعضها عوالم غريبة للغاية لم أذكرها بعد. من المعروف جيدا أن الكوكب الصغير القريب من شمسه غالبا ما يفقد مسار دورانه بفعل حركة المد والجزر الناتجة عن الشمس عليه. وتصبح أيامه أطول فأطول إلى أن يظل أحد نصفيه في النهاية مواجها للشمس بصفة مستمرة. كان عدد غير قليل من هذا النوع من الكواكب مأهولا في أرجاء مجرتنا، وكان العديد منها قد سكنته «المجتمعات البشرية النباتية».
كل هذه العوالم التي لم تكن لها الدورة اليومية المعتادة لم تكن ملائمة للغاية للحياة؛ إذ كان أحد نصفيها شديد الحرارة على الدوام، والنصف الآخر شديد البرودة على الدوام. كان يمكن لدرجة حرارة النصف المضيء أن تصل إلى درجة حرارة الحديد المنصهر، أما الجزء المظلم فلم يكن يسمح لأي مواد بالاحتفاظ بحالتها السائلة إذ لم تكن تزيد درجة حرارته عن الصفر المطلق إلا بدرجة أو اثنتين. وبين النصفين يقع حزام ضيق، بل شريط فحسب، وهو الذي يمكن أن نصفه بالمعتدل. هنا كانت الشمس الضخمة الحارقة تختبئ دائما بعض الشيء خلف الأفق. وعلى الجانب الأكثر برودة من هذا الشريط، بعيدا عن الأشعة القاتلة الصادرة من قرص الشمس الفعلي، لكن مع الإضاءة من الهالة الشمسية والدفء من توصيل الحرارة من الأرض الواقعة باتجاه الشمس، لم تكن الحياة مستحيلة على الدوام.
دائما ما كانت العوالم المأهولة من هذا النوع تصل إلى مرحلة متقدمة من التطور البيولوجي قبل أن تفقد دورانها اليومي بفترة طويلة. ومع زيادة طول اليوم، كانت الحياة تضطر إلى التكيف مع درجات الحرارة الأكثر تطرفا في الليل والنهار. لقد كانت أقطاب هذه العوالم إذا لم تمل كثيرا باتجاه مسير الشمس، تظل على درجة حرارة ثابتة نسبيا؛ ومن ثم فقد أصبحت هي القلاع التي تنطلق منها الكائنات الحية إلى المناطق الأقل ملاءمة للحياة. تمكنت العديد من الأنواع من الانتشار نحو خط الاستواء من خلال الوسيلة البسيطة المتمثلة في دفن أنفسها والبقاء في حالة «سبات» طوال الليل والنهار، ولا تفيق منها إلا عند الفجر والغروب لتباشر حياة شديدة النشاط. ومع طول الأيام إلى شهور، تكيفت بعض الأنواع على التنقل السريع، فصارت ترتحل في أرجاء الكوكب متتبعة الفجر والغروب. لقد كان من الغريب رؤية هذه الأنواع الاستوائية الأكثر خفة وهي تمر بسرعة على السهول في ضوء الشمس المعتدل. كانت سيقانها في معظم الأحيان في طول صواري السفن ورفعها. وكانت تنحرف بين الحين والآخر وقد مددت رقابها الطويلة كي تختطف كائنا يهرول أو تقتلع حزمة من أوراق الأشجار. لم تكن هذه الهجرة المستمرة السريعة لتصبح ممكنة في عوالم أقل ثراء بالطاقة الشمسية.
لم يبد أن الذكاء البشري قد تحقق في أي من هذه العوالم ما لم يتحقق بالفعل قبل أن يصبح الليل والنهار طويلين للغاية وفارق الحرارة بينهما شاسعا. في العوالم التي تمكن فيها البشر-النباتات أو غير ذلك من الكائنات من بناء الحضارة والعلم قبل تأخر الدوران على نحو مفرط، بذلت جهود كبيرة للتكيف مع الصعوبات المتزايدة في البيئة. في بعض الأحيان، كانت الحضارة تتراجع إلى القطبين فحسب، مخلفة الجزء الباقي من الكوكب مهجورا. وفي أحيان أخرى، ظهرت المستوطنات تحت الأرضية في مناطق أخرى لا يخرج السكان منها إلا عند الفجر والغروب لزراعة الأرض. وفي بعض الأحيان، كان يوجد نظام من السكك الحديدية يمتد على خطوط العرض المتوازية ينقل الجماعة السكانية المهاجرة من مركز زراعي إلى آخر بعد الغسق.
بالرغم من ذلك، فحين يفقد الكوكب دورانه بالكامل في النهاية، تتكدس الحضارة المتوطنة على طول الحزام الثابت بين الليل والنهار. وبحلول ذلك الوقت أو حتى قبله، يكون الكوكب قد فقد غلافه الجوي أيضا. ويمكننا أن نتخيل بوضوح أن سلالة تناضل للبقاء على قيد الحياة في هذه الظروف العسيرة لن تستطيع الحفاظ على أي ثراء أو تفوق في الحياة الذهنية.
الفصل الثامن
نظرة على المستكشفين
نامعلوم صفحہ