بينما كنت لا أزال أحاول جمع شتات نفسي، اكتشفت أنني تخطيت مدار المريخ بالفعل وكنت أندفع عبر طريق من الكويكبات. بعض هذه الكواكب الضئيلة قد أصبحت الآن قريبة للغاية حتى إنها بدت كنجوم عظيمة تتدفق بين المجموعات النجمية. ظهر واحد أو اثنان منها بشكل محدودب، ثم اتخذت الشكل الهلالي قبل أن تختفي خلفي.
كان المشتري الذي يقع على مسافة بعيدة أمامي يزداد سطوعا بالفعل، وقد غير موقعه بين النجوم الثابتة. بدت الكرة العظيمة الآن كالقرص الذي سرعان ما أصبح أكبر من الشمس المتضائلة. وكانت أقماره الأربعة الكبرى لآلئ صغيرة تطفو بجانبه. الآن بدا سطح الكوكب كاللحم المقدد المقلم بفعل مناطق الغيوم التي توجد فيه. عتمت الغيوم على محيطه بأكمله. صرت الآن موازيا له ومررت به. ونظرا لما يتسم به غلافه الجوي من عمق هائل، فقد امتزج الليل والنهار كل منهما في الآخر دون حد يمكن تمييزه. وفي مناطق متفرقة من نصفه الشرقي غير المضيء، رأيت مساحات مبهمة من الضوء المحمر، لعلها هي الوهج الذي يرتفع إلى الأعلى عبر الغيوم الكثيفة بفعل الثورانات البركانية.
في غضون بضع دقائق، أو ربما سنوات، أصبح المشتري نجما من جديد ثم اختفى في بريق الشمس التي كانت لا تزال متوهجة، رغم تضاؤلها. لم يكن هناك أي من الكواكب الخارجية الأخرى بالقرب من مساري، غير أنني سرعان ما أدركت أنني قد قطعت بالفعل مسافة بعيدة للغاية حتى إنني قد تجاوزت مدار بلوتو. لم تعد الشمس الآن سوى أكثر النجوم سطوعا فحسب، وراحت تخبو خلفي.
وأخيرا صار لدي وقت للقلق. لم يعد هناك من شيء ظاهر سوى السماء المرصعة بالنجوم. كانت كوكبات «بنات نعش الكبرى» و«ذات الكرسي» و«الجبار» و«الثريا» تهزأ مني بألفتها وبعدها. أصبحت الشمس الآن محض نجم بين النجوم الساطعة الأخرى. لم يتغير شيء. أكان مصيري أن أبقى على تلك الحال إلى الأبد في الفضاء، وعي دون جسد؟ هل مت ؟ أكان ذلك عقابي على عيشي لحياة عقيمة للغاية؟ أكانت تلك عقوبة الرغبة العنيدة في الانعزال عن جميع الشئون والأهواء والانحيازات البشرية؟
في الخيال، رحت أكافح للعودة إلى قمة التل في ضاحيتي. رأيت منزلنا. فتح الباب. خرجت امرأة إلى الحديقة التي يضيئها ضوء البهو. ووقفت للحظة تتفحص الطريق، ثم عادت إلى المنزل. غير أن ذلك كله كان محض خيال، أما في الواقع، فلم يكن هناك شيء سوى النجوم.
بعد برهة لاحظت أن الشمس وجميع النجوم الموجودة بجوارها قد اصطبغت بالحمرة. أما النجوم الموجودة على القطب الآخر للسماء، فقد اصطبغت باللون الأزرق الثلجي. تجلى لذهني تفسير هذه الظاهرة العجيبة. كنت لا أزال أتحرك بسرعة كبيرة حتى إن الضوء نفسه لم يكن عديم التأثير بالكامل على مساري. التموجات التي كانت خلفي كانت تستغرق وقتا طويلا كي تلحق بي؛ ولهذا فقد كانت تؤثر علي كذبذبات أبطأ مما كانت عليه عادة؛ لذا فقد بدت لي حمراء اللون. أما تلك التي التقت بي في مساري الرأسي فقد كانت مكتظة وقصيرة وبدت لي زرقاء اللون.
بعد برهة قصيرة، اكتست السماء بحلة استثنائية؛ إذ أصبحت جميع النجوم التي تقع خلفي مباشرة باللون الأحمر القاني، وتلك التي تقع أمامي مباشرة باللون البنفسجي. الياقوتات من خلفي وأحجار الجمشت من أمامي. وحول الكوكبات الياقوتية، امتدت منطقة من النجوم التوبازية، وحول الكوكبات الجمشتية، امتدت منطقة من النجوم التي تشبه الياقوت الأزرق. بجوار مساري على جميع الجوانب، خبت الألوان إلى الأبيض المعتاد في ماسات السماء المألوفة. ولأنني كنت أتحرك في مستوى المجرة تقريبا، فقد كان طوق درب التبانة أبيض على كلا الجانبين، وبنفسجيا أمامي وأحمر من خلفي. وبعد وقت قصير، خبت النجوم التي أمامي وخلفي مباشرة، ثم اختفت، مخلفة في السماء ثقبين خاليين من النجوم، يحيط بكل منهما منطقة من النجوم الملونة. كانت سرعتي لا تزال تزداد على ما يبدو. وكان الضوء من النجوم الأمامية والخلفية يصلني الآن بأشكال تتجاوز نطاق رؤيتي البشرية.
بينما زادت سرعتي، ظلت البقعتان عديمتا النجوم من أمامي ومن خلفي، كل بطوقها الملون، تغزوان المنطقة المتوسطة ذات النجوم المعتادة والتي كانت توجد بمحاذاتي على الجانبين. بين هذه النجوم شعرت بوجود حركة. بفعل تأثير مساري، بدا أن النجوم الأقرب تنجرف ببطء على خلفية النجوم الأبعد. ظل هذا الانجراف يتسارع إلى أن صارت السماء المرئية بأكملها للحظة مخططة بنجوم طائرة. بعد ذلك تلاشى كل شيء. أعتقد أن سرعتي كانت عظيمة للغاية مقارنة بسرعة النجوم لدرجة أنه لم يكن لضوء أي منها تأثيره المعتاد علي.
بالرغم من أنني ربما كنت أحلق الآن بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه، فقد بدا الأمر وكأنني أطفو في قاع بئر عميقة راكدة. أرعبني الظلام البهيم، والفقدان التام للإحساس، هذا إذا كان بإمكاني أن أطلق لفظ «الرعب» على الاشمئزاز وتوجس الشر الذي كنت أشعر به الآن دون الشعور بأي من المرافقات الجسدية له من الشعور بالارتجاف أو التعرق أو اللهاث أو خفقان القلب. بيأس ورثاء للذات، تقت إلى البيت، تقت مرة أخرى إلى الوجه الذي كان مألوفا لي بشدة. كنت أستطيع رؤيتها الآن بعين عقلي، وهي تجلس بجوار النار وتحيك، وقد ارتسمت تقطيبة صغيرة من القلق بين حاجبيها. تساءلت هل كان جسدي يرقد الآن ميتا على الخلنج؟ أيجدونه هناك في الصباح؟ كيف ستواجه هذا التغير العظيم في حياتها؟ ستتلقاه بوجه شجاع بكل تأكيد، لكنها ستعاني.
لكن بينما كنت أقاوم بشدة فكرة تفكك ذرة رفقتنا الثمينة، كنت أدرك أن ثمة شيئا بداخلي، روحي الجوهرية، كان يرغب بشدة في ألا يتراجع عن هذه الرحلة المذهلة، بل أن يستمر فيها. لم يكن الأمر أن رغبتي في المغامرة يمكن أن تفوق ولو للحظة اشتياقي إلى عالم البشر المألوف. لقد كنت من النوع المحب بشدة للبقاء في البيت؛ بحيث ما كان من شيمي السعي إلى المخاطر والتعب لرغبة محضة فيهما، لكن الخوف من المغامرة غلبها إدراك الفرصة التي منحها لي القدر، ليس لاستكشاف أغوار الكون المادي فحسب، بل أيضا لاستكشاف الدور الفعلي للحياة والعقل بين النجوم. تملكني الآن نهم شديد، لا للمغامرة وإنما للتفكر في قيمة الإنسان، أو أي كائنات أخرى شبيهة به في الكون. وكنزنا البيتي الثمين هذا، هذا الأقحوان الكريم الذي يصنع الربيع بجوار طريق الحياة الحديثة القاحل، قد حثني على قبول مغامرتي الغريبة بسرور؛ إذ أليس من الممكن أن أكتشف أن الكون بأكمله ليس مكانا من الغبار والرماد فحسب مع ملامح من الحياة غير المكتملة هنا وهناك، وإنما يكمن بالفعل خلف تلك الأرض البوار العطشى، عالم من الزهور؟
نامعلوم صفحہ