صندوق لا يتسع للأحلام: مجموعة قصصية
صندوق لا يتسع للأحلام: مجموعة قصصية
اصناف
حينما تحل تلك الساعة أتذكر صيحات أمي الغاضبة، ودعواتها التي تصلنا رغم وجهها المكور تحت وسادتها، تأمرنا بالخضوع للنوم؛ احتراما لعادتها اليومية المقدسة.
كنا نحن الثلاثة، قبل أن يضاف إلينا رابعنا وخامسنا، نتحايل على محاولات «إرغامنا»، فنشد ألحفتنا فوق رءوسنا، بينما تتواصل ألاعيبنا أسفلها، تتداعب أطرافنا الممتدة عبر أبعاد سريرنا الأربعة، فنخلق من ملاءتنا أمواجا نركبها كقراصنة عتاة.
نتصارع أينا يسبق في لسع أحدنا أثناء لعبة «صلح»، محاولين إخفاء رنات ضحكاتنا ونحن نتبادل الغمزات لمزيد من التمويه. وحينما تحثنا أمنا، بضربة من أطراف قدميها، على الصمت، نبدأ في اختلاق النكات والمقالب، متخذين من مغامرات توم وجيري قدوة لنا.
تتساقط أعين إخوتي تباعا تحت وطأة سلطان النوم وضربات أمي المتتابعة من خلف ستائر أحلامها، فيما يستعصي النوم على ذهني. أستلقي على يميني؛ تيمنا بنوم «الملائكة والرسل» كما حدثنا أستاذ التربية الدينية، فأتساءل: هل تنام الملائكة حقا مثل البشر؟
أزيح البحث عن الإجابة جانبا، حينما تداعب عيني خيوط أشعة الشمس وظلالها الترابية المتسللة عبر فتحات شرفتنا نصف المغلقة، أعيق مرورها بيدي، كما أفعل مع أسراب النمل في حديقة مدرستنا، ثم أتابع خيوطه وهي تواصل مرة أخرى مسارها.
ألمح فراشة تنتصب على ورود ستائرنا الزائفة، أتابع خيبتها ومحاولاتها امتصاص رحيق كاذب لن يسد رمقها.
أجرب تلك المرة طريقة نوم الملوك والأمراء، فأستلقي على ظهري. لا أتذكر أين قرأت تلك المعلومة، لكنني أظن أنني تقمصت بنجاح دور الأميرة مرات عدة، فأدخلت تعديلات على مأساتها، وجعلتها أكثر جرأة في مواجهة زوجة أبيها وبناتها، وأخفيت تسجيلا صوتيا لهن في طيات ملابسي لم يستطعن إنكاره أمام والدي، فخرجن بلا رجعة من مملكتي.
على الجدران، تتراقص خيوط ستائرنا مرة أخرى. أتبع نصائح مدرسة الرسم، فأرسم بها وجوها لحيوانات وبشر بملامح فضفاضة. تلك أذن قنفذ، وأخرى لحمار وحشي، وذلك أنف مفلطح وجبهة بارزة. للأسف، لم تخبرني كيف أبث فيها الروح على الورق؛ فقد سحبوا الحصة اليتيمة أسبوعيا لصالح مادة الجغرافيا لإلحاح المنهج، ولأن الرسم ليس مادة نجاح ورسوب!
لم يبق أمامي خيار إلا الجهة اليسرى. هل أجربها رغم لعناتها حسب مفتينا وكتبنا الدينية؟ تلفحني أنفاس أمي الهادئة كزخات الندى الصباحي، فأعجب لحرصها على ساعة قيلولتها مهما كانت مشاغلها، فيما فشلت محاولاتي في إيقاف صرير الأفكار في ذهني.
اليوم، وبعد عشرين عاما، في الساعة نفسها، أستلقي على كرسيي الهزاز بشرفتي التي جعلتها مرتعا للفراشات، تنهل من زهورها كيف تشاء، وبينما عيني لا تزال عصية على سلطان النوم، تتهادى على الأريكة المقابلة أنفاس أمي مستسلمة لأشعة شمس خريفها الوادعة.
نامعلوم صفحہ