صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي وعصره
اصناف
مضى على حصار عكا صيفان وشتاءان، وجاء الربيع من سنة 1191م (وسنة 587ه) فأخذت جيوش صلاح الدين تجتمع إليه من كل أنحاء الدولة كما بدأ الفرنج يجددون إغاراتهم على المدينة ويشددون حصارها.
ولكن المدينة في هذا الربيع لم تكن على مناعتها في الدورين السابقين إذ كان الأقوات فيها قليلة، وكان المدافعون عنها أقل عددا وحماسة ممن كان فيها من قبل. وقد زاد الأمر شدة على المدينة مجيء أسطول فرنسي وآخر إنجليزي يحملان جنود فيليب أوجست (الفرنسيس) وريكارد (الإنكتار).
وقد جاء ريكارد متأخرا قليلا عن جيش الفرنسيس بعد أن أخذ في سبيله جزيرة قبرص، وكان معه خمس وعشرون قطعة كبارا من السفن.
وقد اجتهد الفرنج منذ أول هذا الدور في طم الخندق الذي حول عكا، ولكن أهل المدينة صبروا على المقاومة صبرا حميدا، فكانت جماعاتهم يخرجون ما يلقى في الخندق ويلقونه في البحر تحت حراسة إخوانهم، ويجدون في ذلك مع المشقة العظيمة، وكان صلاح الدين في الوقت عينه يجد مشقة كبرى في الهجوم على الفرنج لتحصنهم في خنادقهم؛ ولهذا أمكن الفرنج أن يضيقوا الحصار على المدينة وصار من أشق الأمور إيصال شيء إليها من المئونة.
ولكن لا بد من ذكر أحد البعوث البحرية التي أرسلها صلاح الدين إمدادا إلى عكا، وكان معها ستمائة وخمسون رجلا ومقدار عظيم من المؤن والأسلحة؛ فإن المهارة الحربية في البحر التي امتاز بها الإنجليز كانت أكبر مما عهده جنود المسلمين من الفرنج، فأحاط الإنجليز بالسفن الإسلامية حتى كان لا مناص من استيلائهم عليها، ولكن من فيها آثروا الموت فأهووا على جوانب السفينة بالمعاول حتى ثقبوها وغرقت وغرق كل ما بها ومن بها، وكان قائد هذه البعثة يعقوب الحلبي؛ نذكره فخرا وإعجابا.
وقد بدأ ملك الإنجليز بإرسال الرسل إلى السلطان منذ أول مجيئه يفاوضه في قواعد الصلح، ولكن شروطه كانت أشد مما يقبله السلطان؛ فإن الضعف إذا كان قد دب في عكا فإن دولة صلاح الدين كانت راسية الأساس متينة لا يستطيع مهاجم أن ينال منها شيئا؛ ولهذا لم تنجح المفاوضات الأولى بل أصر السلطان على أن يظل على الحرب حتى يخضع له عدوه في النهاية.
ولم يخل هذا الدور الثالث من ظهور آيات جديدة تدل على ما كان عليه صلاح الدين من الخلق، ولنذكر قصة الرضيع مثلا لهذا؛ وذلك أنه حدث في بعض إغارات المسلمين أن استولى مسلم على طفل رضيع؛ فطار عقل الأم وراء ابنها وخرجت إلى معسكر المسلمين حتى وصل أمرها إلى السلطان. فلما وقفت أمامه وعرف قصتها بكى رحمة لها وأمر برد ابنها إليها، فالتمس حتى وجد بعد أن كان قد بيع في السوق، فدفع السلطان ثمنه إلى المشتري وسلمه إلى أمه وحملها على فرس وأعادها إلى معسكر الفرنج.
على أن الفرنج - وإن زاد عددهم - لم يكونوا على وفاق؛ فقد كان فيهم رؤساء عدة، كل منهم يحسد الآخر ويغار منه، فكان هناك الملك القديم «جي دي لوسنيان» أو «كي» كما يسميه العرب، وكان معهم المركيش صاحب صور، وجاء بعد ذلك فيليب وريكارد.
وكان أول من ثار من هؤلاء الرؤساء المركيش، فإنه هرب من صفوف إخوانه عائدا إلى صور، وهناك تنحى عن الميدان حتى قتل كما سنذكر بعد.
وكان صلاح الدين في هذه المدة كثير الألم؛ لما يراه من الضيق الذي أحاط بالمدينة حتى كان لا يأكل إلا قليلا لهمه وغمه، وبدأت ترد إليه رسائل من المدينة يشكو من فيها الضيق والشدة، وذلك بعد نحو شهرين من بدء الحرب في هذا الدور؛ إذ كان الفرنج قد نجحوا في أخذ الخنادق التي حول المدينة وعملوا تلا مستطيلا من التراب يحتمون وراءه، وجعلوا يقربون من أسوار المدينة حتى أصبحوا بجوارها، ولم يقدر السلطان على مساعدة المدينة مساعدة كبرى مع محاولته ذلك بكل ما استطاع، فلم يجد من في المدينة بدا من مفاوضة الفرنج في التسليم بعد نحو ثلاثة أشهر من تجدد الحرب، وكانت شروط الصلح أن تسلم المدينة للفرنج بما فيها من الآلات والعدد والمراكب، وأن تدفع نظير الأسرى المسلمين مائتي ألف دينار، وتطلق ألفا وخمسمائة فارس من مجاهيل الأسرى الفرنج ومائة فارس معينين، وأن يرد صليب الصلبوت، وأن يخرج جميع من في المدينة سالمين بما معهم من الأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونسائهم، ولكن تلك الشروط لم تنفذ كلها كما سيأتي.
نامعلوم صفحہ