صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي وعصره
اصناف
سارت قافلة قيل إن فيها ابنة السلطان وشيئا كثيرا من المال، وكانت القوافل تجتاز بقلعته غير خائفة، واثقة من العهد الذي بينه وبين السلطان. فأهوى أرناط إلى تلك القافلة وغنم منها وقتل وأسر، فلما بلغ خبر ذلك إلى صلاح الدين ثار ثورة مشروعة ولم يرضه أرناط كما كان ينبغي، فنذر السلطان أن يقتله بيده لو ظفر به، وكانت تلك الحادثة هي الشرارة أشعلت نار الحرب التي لن تنتهي إلا بعد ست سنوات؛ كانت أعلام صلاح الدين تخفق بعدها على القدس وجميع بلاد الشام إلا بضعة بلاد على الساحل.
أرسل صلاح الدين يجمع الجيوش في ربيع سنة 1187م، وجعل مركز القيادة العليا دمشق، فأتته الجنود من أطراف دولته وكان أول بعوثه اثنين؛ جعل أحدهما إلى الكرك بقيادته هو للانتقام ومنع أرناط من مهاجمة الحاج والوقوف في سبيل العسكر المصري القادم إليه، وأرسل الآخر إلى عكا لكي يشغل الداوية والاسبتارية عن مساعدة الكرك، وقد نجح في إحراز غرضه من هذين البعثين نجاحا تاما، ومما يجدر بالذكر أن ريمون لم يتحرك أثناء هذا للمساعدة.
فلما تكامل الجيش الإسلامي في الصيف كان أمام صلاح الدين خطتان: الأولى أن يقف أمام الصليبيين في معركة فاصلة. والثانية أن يتابع الخطة القديمة من إغارات متكررة ونهب وسبي بغير معركة فاصلة حتى يضعف أعداؤه أولا ثم يضرب الضربة القاضية أخيرا، ولكنه فضل الخطة الأولى، ولعل أكبر ما دفعه إلى اختيارها شدة حماسته؛ فقد قال مرة: «إن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا، ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد.»
وهكذا سار إلى طبرية في يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الآخر سنة 583ه الموافق 4 يوليو سنة 1187م، وكان يتخير لغزواته أيام الجمعة؛ «لتقع حروبه في وقت تكثر فيه الدعوات والصلوات»، ثم خلف طبرية وراء ظهره وسار إلى غربها عندما علم أن الجموع الصليبية جاءت ووقفت له عند جبل طبرية من جهة الغرب. ولكن الصليبيين لم يبرزوا له وتحصنوا في مواقفهم، فأراد أن يحرضهم على لقائه فجعل يهبط إلى طبرية فيخرب فيها ويغنم ويحرق. وكان قصده من مهاجمة المدينة أن ينفر الجيش الصليبي لمساعدتها فيخرج من أماكنه فيلقاه صلاح الدين في ميدان مفتوح، وقد نجح في ذلك نجاحا تاما؛ فإن الصليبيين تحركوا لنجدة طبرية، فعاد صلاح الدين مسرعا عنها وجعل جيشه على الماء، وأفنى ما أمامه من ماء الصهاريج، وكان الوقت قيظ الصيف، فلما أقبل المسيحيون لم يقدروا على بلوغ الماء الذي وراء المسلمين ولم يجدوا في الصهاريج التي دونهم ماء، فكانوا يحاربون على شدة الجهد من العطش والحر، ولم يستطيعوا الرجوع إلى حيث كانوا خوفا من جيش المسلمين، فكان هذا انتصارا لصلاح الدين قبل أن يضرب ضربة واحدة، وعلت نفس جنود المسلمين ووثقوا بالنصر قبل اللقاء، فباتوا الليلة في تكبير وتهليل بينما كان قائدهم المدرب الذكي الحذر يراقب نظام جيشه ويوقف كل جماعة في مكانها استعدادا للمصاف في الغد.
وحاول المسيحيون في اليوم التالي بلوغ الماء كلفهم ذلك ما كلفهم، فمنعهم صلاح الدين من ذلك إذ أدرك قصدهم، وجعل يدور بهم حتى حصرهم حصرا تاما، ولم يتمكن أحد من الخروج من تلك الدائرة إلا «القمص ريمون» في جماعة قليلة، وكان خروجهم من دائرة الحصار مكيدة دبرها ابن أخي صلاح الدين؛ وذلك أنه رأى أن قتال «ريمون» وجنوده قتال المستميت، فأفسح لهم حتى أخرجهم من الدائرة، فخرجوا وهم يحسبون ذلك نصرا، ثم ما لبثت دائرة الحصار بعد ذلك أن التأمت فلم يجد ريمون أمامه غير ترك الميدان والذهاب عن الحرب جملة، وضعفت صفوف الصليبيين بذلك النقص في صفوف المحاربين.
وبدأت منذ ذلك الحين الهزيمة، غير أن المحصورين احتلوا تلا عند حطين وتحصنوا به مع ملكهم «كي» وأبلوا بلاء عظيما في الدفاع عن أنفسهم، وكان المسلمون يكرون عليهم بين حين وآخر فتعود الجنود منحدرة عن التل وهي تحمل من الأسرى والأسلاب شيئا كثيرا، وكان من بين ما غنموه صليب الصلبوت. وكان السلطان يبعث ما في نفسه من حماسة وثبات إلى قلوب المحاربين، فكانوا - تحت عينيه - يأتون بالعجائب من أعمال الشجاعة والإقدام؛ ومثل ذلك أن واحدا من صغار مماليكه أخذته الحماسة عند رؤية سيده وقائده - وهو صبي لم يبلغ حد الرجولة - فحمل حملة منكرة على الفرنج وهو وحده فأوقع فيهم، حتى تكاثروا عليه وقتلوه، فلما رآه المسلمون يفعل ذلك أخذتهم الحفيظة لقتله وثاروا ثورة فصدموا جيش الفرنج صدمة زعزعته. وبعد استمرار الهجمات العنيفة حينا هوت خيمة الملك بعد كرات ثلاث واستأسر من بقي من الفرسان، وكان النصر تاما لصلاح الدين وجنده، وسجد شكرا لله وبكى من السرور. وكان بين الأسرى الكثيرين في هذه الموقعة الملك «كي» والبرنس «أرناط». «وكان من يرى الأسرى لكثرتهم لا يظن هناك قتلى، فإذا رأى القتلى حسب أنه لم يكن هناك أسرى.»
وقد أكرم صلاح الدين الملك وقدم إليه ماء مثلجا بعدما وجد من جهد العطش والدفاع، فشرب الملك وأعطى فضلة للبرنس أرناط، فقال صلاح الدين عند ذلك: «إن هذا لم يشرب الماء بإذني.» يريد أنه لم يصر آمنا من عقابه. وكان إكرامه للملك لا يعادله شيء إلا تقريعه للأمير الذي أثار تلك النيران وهو «أرناط» الغادر؛ فقال له: «ها أنا أنتصر لمحمد.» وكان ذلك ردا على سب «أرناط» لمحمد ودينه فيما سبق. ثم عرض عليه الإسلام فكان ذلك سخرا بليغا، ولكن الرجل أبى؛ فسل صلاح الدين النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر، وبذلك أوفى بنذره الذي سبق أن نذره إذا هو ظفر بعدوه أن يقتله بيده عقابا لما قدم من نقض العهد. وقد اشتد خوف الملك عند ذلك وعظم اضطرابه فأمنه صلاح الدين وسكن جأشه قائلا: «لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حده فجرى ما جرى.» يشير بذلك إلى أرناط. وأما ريمون صاحب طرابلس فقد عاد بعد انهزامه من الموقعة إلى صور ثم إلى طرابلس حيث مات بعد أيام قلائل. (19) توالي الفتوح بعد انتصار حطين (فتح القدس)
بعد موقعة حطين - التي دامت يومين - لم يبق صلاح الدين في مكانه، بل هبط إلى طبرية في اليوم الثالث، وهناك سلمت له القلعة، وفي أثناء ذلك كان يبعث بمن يريد الإبقاء عليهم من الأسرى إلى دمشق ويفتك بمن يريد الفتك بهم، وكانت يده شديدة على طوائف الفرسان الرهبان «الداوية والاسبتارية»؛ وذلك لما كانوا يبذلون من نفوسهم في سبيل نصر المسيح بشدة تدعمها حماسة عظيمة وإيمان قوي في عقيدتهم. ولم يلبث صلاح الدين طويلا عند طبرية بل سار إلى الغرب نحو عكا فلم يبق أمامها إلا قليلا حتى سلمت. وهكذا كان انتصار حطين يسبق صلاح الدين إلى المدن فتسلم واحدة فواحدة وهي قوية على المقاومة. ومما يسترعي النظر أن صلاح الدين أعطى كل ما للداوية في عكا لرجل من أصحابه كان على طريقة الفرسان المحاربين إذ كان فقيها محاربا، وذلك هو الفقيه عيسى الهكاري صديقه القديم. وكانت غنائم عكا عظيمة أفادت جنود صلاح الدين، ولو أن السلطان نفسه لم يرزأ منها شيئا؛ دأبه في ما كان يغنمه في انتصاراته دائما.
وبعد أخذ عكا اندفع تيار النصر بإزاء الساحل، فأخذ المسلمون كثيرا من مدنها من يافا إلى ما بعد بيروت، واجتمعت فلول الجيوش الصليبية وجند الحصون الساحلية جميعها إلى صور، وهناك تحصنوا ووقفوا على أقدامهم مرة ثانية بعد أن جرفهم سيل الهزيمة، وأتى إليهم أمداد من وراء البحر بقيادة من يسميه العرب «المركيش» وهو «كنراد دي منتفرات» فقوى ذلك عزمهم على الدفاع.
وكان صلاح الدين قد عقد النية على أخذ عاصمة الصليبيين «بيت المقدس»، فبعد أن رأى ألوية النصر تخفق له على السواحل ورأى الثغور تتفتح لجيوشه بلا مقاومة، غير مدينة صور التي بدأت تتحصن وتتجهز؛ سار إلى قلب فلسطين، وأخذ كل ما كان بين بيت المقدس والساحل من حصون الداوية وأوقف على البحر رجلا من كبار قواده على رأس أسطول؛ لكي يمنع إتيان الفرنج إلى الساحل قبالة القدس، وذلك القائد البحري هو حسام الدين لؤلؤ المعروف بالشجاعة ويمن النقيبة. فلما أمن هذه الناحية من البحر ألقى الحصار على العاصمة وعرض على أهلها الصلح على أن يسلموا إليه المدينة نظير تعويضهم أرضا يزرعونها، ولكنهم أبوا ذلك، فاستعد لأخذ المدينة عنوة، وجعل يلتمس في أسوارها نقطة ضعف يهاجمها حتى وجدها بعد فحص دقيق قضى فيه خمسة أيام؛ وكانت نقطة الضعف التي اختارها جهة الشمال عند المكان المعروف بباب كنيسة صهيون، وكانت الجموع في بيت المقدس كبيرة والحماسة للدفاع ثائرة، فآثر صلاح الدين الاستعداد بما معه من قوة لأخذ المدينة سريعا قبل أن يفيق عدوه من الضربات التي توالت عليه منذ وقعة حطين وقبل أن يأتي إمداد متوقع من وراء البحر، فنصب المنجنيقات ونظم الرماة، فوصلت جنوده إلى الأسوار ونقبوا فيها ثغرات، وكانوا يظهرون في هجومهم من البسالة ما لا يعادله شيء غير بسالة المحصورين أنفسهم؛ إذ كانوا يخرجون كل يوم على خيلهم يقاتلون مستبسلين. وكان الأمراء في جيشي المسلمين والفرنج سواء في الإقدام يحاربون في أول الصفوف ويبعثون في الناس الحماسة بمثلهم الحسن. وكان مقتل أحد الأمراء يدعو دائما إلى ثورة في نفوس الجند يتردد لها صدى قوي في اشتداد لهيب الحرب، غير أن ذلك التصادم لم يدم أكثر من أسبوع واحد، ورأى المحصورون أن لا أمل لهم في النجاة؛ فأرسلوا إلى صلاح الدين يفاوضونه في شروط التسليم، فتمنع أولا وقال إنه لن يرضى بغير أخذ المدينة عنوة ليفعل بالفرنج نظير ما فعلوه بالمسلمين يوم أن استولوا على القدس منذ نحو قرن، ولكنه عاد فرضي بالصلح بعد أخذ ورد طويلين، واتفق على شروط التسليم؛ وأكبرها: أن يدفع المسيحيون ضريبة عشرة دنانير عن الرجل وخمسة عن المرأة واثنين عن الطفل، فمن أدى ذلك في مدة أربعين يوما خرج ونجا، ومن لم يؤده صار أسيرا مملوكا. على أنه سمح لليونان وأهل الشام من المسيحيين أن يبقوا حيث هم بين رعاياه، وكذلك أباح للفرنج أن يقيموا في فلسطين إذا شاءوا، وبدأ تسليم المدينة وخروج من يريد منها في أكتوبر سنة 1187م. على أن صلاح الدين لم يصب مالا كثيرا من وراء فداء أسرى بيت المقدس؛ فقد ذهب أكثره لأمراء الجند الذين وقفوا على الأبواب يراقبون دفع الضريبة ممن يخرج. وقد أطلق صلاح الدين عددا كبيرا من أهل المدينة بغير فداء، ومن على نحو ثمانية عشر ألف رجل نظير ثلاثين ألف دينار وزنها عنهم أمير من أمراء المسيحيين، وبقي بعد ذلك عدد عظيم لا يستطيع أن يعطي شيئا وكانوا نحو ستة عشر ألفا، فتسامح صلاح الدين تسامحا كبيرا في أمرهم، وكان كثير العفو عن نساء الفرنج وشيوخهم وأطفالهم خاصة، فأطلق لملكة بيت المقدس مالها وحشمها لم ينل من ذلك شيئا، وكذلك فعل بغيرها من كبيرات الفرنج ومن بينهن امرأة «أرناط» نفسه، وأكرم رجال الدين فخرج كبيرهم مع أمواله وتحف الكنائس وكنوز ذات قيمة عظيمة، فلم يرض أن يتعرض له بل أخذ منه العشرة الدنانير المفروضة، وسير مع الجميع من يحميهم إلى مدينة صور.
نامعلوم صفحہ