Salafis and the Palestinian Issue in Our Contemporary Reality
السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر
ناشر
مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
پبلشر کا مقام
فلسطين
اصناف
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم الّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ .
أما بعد:
فإن هذه الرسالة (*) نادرة وهامة، وذلك من وجوه عديدة:
الوجه الأول: أنها من تأليف المجاهد الفلسطيني (١)
محمد عز الدين القسام
_________
(١) أصله سوريّ، انظر ترجمته الآتية (ص ١١٤-١٢٤) .
ذكر الأستاذ الدكتور شاكر الفحام -عضو المجلس الاستشاري لهيئة «الموسوعة الفلسطينية» ورئيس مجمع اللغة العربية في دمشق- أنَّ مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية عابوا على «الموسوعة الفلسطينية»، أنها جعلت (عزّ الدين القسام) من مواد «الموسوعة»، وقالوا: إن عزّ الدين القسام، رجلٌ من سورية، وليس له مكان في «الموسوعة الفلسطينية»؛= =لأنها مخصصة للقطر الفلسطيني ...
ولكن الحقيقة التي أخفوها، أنّهم كرهوا وجودَ القسام في «الموسوعة»؛ لأنهم يخشون أن يظهرَ تاريخُهم خاليًا من الأمجاد إذا قيس بتاريخ عزّ الدين القسام!!
و(فلسطين) بقيت تابعة حتى نهاية العصر التركي لولاية (الشام)، ولم يكن (فلسطين) موجودًا في التقسيمات الإدارية، ولم تكن النزاعات العصبية والحميات القبلية مشتدّة، إذ كانت فلسطين -آنذاك- تشغل بال المسلمين جميعًا، ومنهم القسام، ولم يهاجر ﵀ إلى (حيفا) إلا للجهاد، ولم يكن معه أحد من قبيلته -آنذاك- إلا ابنا أخيه -رحم الله الجميع-.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: يعني رسالة "النقد والبيان" وتجدها مستقلة ضمن كتب هذا البرنامج "المكتبة الشاملة"
1 / 5
الوجه الثاني: أنها تُثْبتُ شيئًا مجهولًا عند مترجمي (القسام)، لم أر من ركز عليه منهم؛ وهو: أنه (سَلَفي)، ولا سيما في منهجه واستدلاله، وكل سطر فيها يدل على ذلك، وهذه مقتطفات من هذه الرسالة؛ تدل على ذلك:
قال المؤلفان في الرد على خزيران وشيخه الجزار بعد كلام:
«وكُنّا نودُّ أن نرشدَ الأستاذ الجزَّار وتلميذَه إلى الاستفادة من هذا الكتاب -يريدان «الاعتصام» (١) للشاطبي- الذي لا ندّ له في بابه، ولكنا خشينا أن يرميا مؤلِّفَه بالنَّزْعة (الوهابيَّة) (٢) -التي هي حجة العاجز لترويج الباطل، وإضاعة الدين- التي رميانا بها، وإنْ تقدَّمَ زمن ذلك الإمام الشاطبي العظيم على زمن محمد بن عبد الوهاب ما يقرب من (٥٠٠ سنة) !! لأنه لا يبعد أن يعلّلا ذلك بأنه من باب أخذ المتقدِّم عن المتأخِّر!!» (٣) .
وأشارا إلى ذلك -قبل-، فقالا عن خزيران (المردود عليه):
_________
(١) نشرته عن نسختين خطيتين، لم ينشر الكتاب -قبل- عنهما، والفروق كبيرة بين نشرتنا والطبعات السابقة، فضلًا عن التخريج والتوثيق والتعليق والفهرسة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(٢) انظر -لزامًا- ما كتبناه بشأن هذه الكلمة في التعليق على (ص ٦١-٦٣) .
(٣) «النقد والبيان» (ص ٦١-٦٢) .
1 / 6
«ورمانا - عفا الله عنه- بالزَّيغ والضلال (١)، لاتّباعنا السنة الموروثة عن النبي ﷺ، في الأقوال والأفعال ...» (٢) .
وقالا في الرد على قول خزيران: «ما عدا مَن أزاغ اللهُ قلوبَهم من الاقتصار على أصل المنقول عن النبي ﷺ» ما نصه:
«يعلم أنَّ ذلك الدَّعي في العلم يعدُّ العملَ بسنَّة الرسول ﷺ زيغًا، والعياذ بالله -تعالى-» (٣) .
قال أبو عبيدة: الأصل: أن لا نخرج عن ظاهر النصوص إلا بقرائن قويّة، إذ دلالة الظاهر قويّة، نقل ابن حجر (٤)
في ترجمة أبي حيان الأندلسي، قوله:
_________
(١) المراد: رميهما بـ (النزعة الوهابية) كما في النص السابق، وقد أفصح عن ذلك الشيخ محمد جميل الشطي في كلمته المنشورة في آخر الرسالة (ص ٢٠١) بقوله: «والمصيبة كل المصيبة: أنه متى قام نابغةٌ من علمائنا يخالف مثل هؤلاء، داعيًا إلى الدِّين الصحيح؛ مثل: صاحبي هذه الرسالة: الأستاذين الشيخ كامل القصاب، والشيخ عز الدين القسام ... جافَوْه، وناوؤوه، ووصموه باسم الوهابية، وهذا -ولا شك- أنه من علائم الجهل والحسد» .
(٢) «النقد والبيان» (ص ٥) .
(٣) «النقد والبيان» (ص ٩٠) .
(٤) في «الدرر الكامنة» (٤/٣٠٤)، وعنه صديق حسن خان في «التاج المكلل» (ص ٣٤٨)، وذكر هذا الشوكانيُّ في «البدر الطالع» (٢/٢٩٠)، ثم قال:
«لقد صدق أبو حيان في مقاله، فمذهبُ الظاهر هو أوَّلُ الفِكر وآخرُ العمل عند من مُنِح الإنصاف، ولم يَرِد على فطرته ما يُغيّرها عن أصلها، وليس هو مذهبُ داودَ الظاهريِّ وأتباعه فقط، بل هو مذهب أكابرِ العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن، وداود واحد منهم، وإنما اشتُهرَ عنه الجمودُ في مسائِلَ وقف فيها على الظاهر، حيث لا ينبغي الوقوف، وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصفٍ إهماله.
وبالجملة؛ فمذهبُ الظاهِر: هو العملُ بظاهِرِ الكتاب والسُّنَّةِ بجميع الدّلالات، وطرح التحويل على محض الرأي الذي لا يرجِعُ إليهما بوجهٍ من وجوه الدلالة.
وأنت إذا أمعنت النَّظَرَ في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة؛ وجدتها من= =مذهب الظاهر بعينه، بل إذا رُزِقتَ الإنصاف، وعرفتَ العلوم الاجتهادية كما ينبغي، ونظرت في علوم الكتاب والسنة حقَّ النَّظر كنت ظاهريًّا؛ أي: عاملًا بظاهر الشرع منسوبًا إليه، لا إلى داود الظاهري، فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقةٌ، وهذه النسبة هي مساويةٌ للنسبة إلى الإيمان والإسلام، وإلى خاتم الرُّسُلِ -عليه أفضل الصلوات والتسليم-، وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه. أشار ابن حزم ﵀ بقوله: وما أنا إلا ظاهريٌّ، وإنني على ما بدا حتى يقوم دليل» ا. هـ. وانظر: «إعلام الموقعين» (٥/١٨٠ - بتحقيقي)، «العلم» (ص ١٨٠-١٨١) للشيخ العلامة ابن عثيمين ﵀.
1 / 7
«محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من عَلق بذهنه» .
وقالا - أيضًا-: «ونحن من أشد الناس تمسّكًا به- أي: بخطاب النبي ﷺ ... وأكبر دليل على تمسّكنا بسنَّة نبيِّنا، وسنة الشَّيخين من بعده: نهينا الناس عن مخالفة سنَّة الخلفاء الراشدين في تشييع الجنازة برفع الصَّوت» (١) .
وقالا: «فهل يرضى أهلُ الاختصاص أن يتركوا سنّة الرسول ﷺ، ويتركوا ما كان عليه الصحابة والأئمة المجتهدون، وما كان عليه السلفُ الصالح، ثم يتبعوا بدعةً ...» (٢) .
وذكرا -أيضًا- ضرورة الاستدلال بالصحيح من قوله ﷺ، ونبذ الضعيف، والواهي، والموضوع (٣) .
وقد شهد بمضمون (سلفيّته) جمعٌ ممن قرظ هذه الرسالة، كما تراه في آخرها
وأشار إلى ذلك جمع (٤)، وتأثر بذلك تلاميذه، فإنهم انطبعوا بطابع التربية
_________
(١) «النقد والبيان» (ص ٩٠) .
(٢) «النقد والبيان» (ص ٩٤) .
(٣) انظر «النقد والبيان» (ص ١٤٢) .
(٤) خلافًا لما في «الأعلام الشرقية» (١/٣٤٩) عنه: «شيخ الزاوية الشاذلية في جَبَلة الأدهمية من أعمال اللاذقية في شمالي سوريا» !
= ... بل اشتط كثير من الباحثين من العلمانيين، وغيرهم من الثوريين، لما راحوا يقررون «أن القسام كان يهدف إلى بناء دولة (اشتراكية)» ! كما في «تاريخ الأقطار العربية الحديث» (ص ٣٦٦) للوتسكي، وفيه -أيضًا- (ص ٣٦٩): «إن جوهر العلاقة بينه وبين أتباعه كانت سياسية لا دينية» !! وكل هذا كذب وافتراء عليه، وتغييب لسلفيّة القسام واعتقاده السليم، الذي عمل دهرًا على ترسيخه في أبناء شعب فلسطين، وما كتابنا هذا إلا ثمرة ودليل -في آن واحد- على ذلك.
1 / 8
الإيمانية، سلوكًا وأقوالًا، وإن العقيدة السلفية الصحيحة، والثقافة الإسلامية المقتبسة من القرآن والسنة أثرت فيهم تأثيرًا بالغًا، قال أحمد الشقيري (١) واصفًا أصحاب القسام وتلاميذه: «لم تجر على ألسنتهم تعابير (الكفاح المسلح) و(الحركة الوطنية) و(الاستعمار والصهيونية)، فقد كانت تعابيرهم -على بساطتها (٢) - تنبع من ينبوع أروع وأرفع، هو «الإيمان والجهاد في سبيل الله»، لقد كانوا قومًا مؤمنين، صنعهم الإيمان، فصفت نفوسهم، وتآلفت إراداتهم، وتعاظمت عزائمهم، وأحسوا أن حبلهم مع الله قد أصبح موصولًا، وأن الباب بينهم وبينه قد بات مفتوحًا» (٣) .
وذكرت الكتب التي ترجمت له: أن همَّ القسام الأول: تخليص الدين من الشوائب، وإخلاص العقيدة لله وحده؛ لأنّ العقيدة الخالصة لله هي مصدر القوة، ففي سبيل إخلاص العقيدة لله وحده، وطلب العون منه، حارب القسام حج النساء إلى (مقام الخضر) (٤)، على سفوح جبال الكرمل، لذبح الأضاحي
_________
(١) هو أحمد أسعد الشقيري، من أعلام فلسطين البارزين، كاتب، محام، سياسي، دبلوماسي، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، توفي سنة ١٤٠٠هـ - ١٩٨٠م، ترجمته في «أعلام فلسطين من القرن الأول حتى الخامس عشر» (١/١٤٧-١٥٧)، «معجم أعلام المورد» (٢٦٠) .
(٢) انظر -لزامًا- خطأ استخدام هذه الكلمة فيما علقناه على (ص ٢٦) .
(٣) «أربعون عامًا» (ص ١٤٥) .
(٤) مقام الخضر: يقع عند أقصى حدّ حيفا إلى الغرب من سفح جبل الكرمل، = =وهو بناءٌ قديم وسط حديقة، كان يضمُّ مسجدًا فيه مغارة، تضم كتابةً يونانيةً، يزعم بعض الناس أنه مقام الملاك جبريل، ويعتقد آخرون أنه مدرسة الأنبياء!!
1 / 9
شكرًا على شفاء من مرض أو نجاح في مدرسة، وكنّ -بعد تقديم الأضحية- يرقصن حول المقام الموهوم، فدعا القسامُ الناسَ إلى أن يتوجَّهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله -تعالى- فقط؛ لأنه -وحده- القادر على النفع والضرّ، وأما أصحاب القبور فلا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فكيف ينفعون الآخرين؟!
وفي سبيل الاستفادة من السيرة النبويّة، أنكر القسامُ قراءةَ المولد النبوي بالغناء والتمطيط، والمبالغة بتوقيعه على ألحان الموسيقا، والاكتفاء بسيرة الولادة فقط، مع ما أدخل فيها من الأمور التي لم تثبت، ودعا إلى العناية بالنبي ﷺ أحواله وشمائله، والسنّة العملية من سيرته؛ لتكون نبراسًا يستضيء به المسلمون (١) .
وبالجملة؛ فإن العقيدة السلفية الصحيحة، والمنهج السلفي في التلقي والاستدلال، هو الذي كان عليه القسام ورفيقه، وهذا ظاهر للعيان في كتابه هذا، وفي دعوته ونشاطه وتلاميذه، والله الموفق.
(السلفيون وقضية فلسطين)
يؤمن السلفيون بأن قضية فلسطين من القضايا التي يجب العناية بها، وأن تحريرها من الأمور الشرعية الواجبة، وذلك لما لها من منزلة في الشرع الحنيف، وقد تتابع السلفيون على بيان ما لها من حقوق، وأبدوا -كغيرهم (٢) - توجّعًا
_________
(١) «عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين» (١٧٢-١٧٣) لمحمد حسن شُرَّاب.
(٢) أعني: من المسلمين وغيرهم، والمسلمين على جميع شاراتهم وأحزابهم، ولا سيما الحزبيين الذين اتكأوا على (قضية فلسطين)، واتخذوها ذريعة لتكثير السواد، ودغدغة= = (العواطف) لركوب (العواصف)، دون (ثمرة) حقيقية بميزان الشرع، وقواعد أهل العلم، اللهم إلا التعدي على حرمات العلماء، واقتناص الفرص في المناسبات للحط من قدرهم، لتسلم لهم رموزهم، وليراهنوا على (الجماهير)، وليصلوا من خلالهم إلى (أهدافهم) المرحلية؛ الأرضية (منها) قبل التربوية، والله غالب على أمره، وهو المحيط بالنوايا والخفايا.
1 / 10
وتألّمًا لما يجري -قديمًا وحديثًا- لأهلها وعلى أرضها، ولا سيما الأحداث الجسام، والتي نلخّصها بالآتي:
أولًا: المذابح، وأشهرها: مذبحة دير ياسين في ٩/٤/١٩٤٨م، التي بقرت فيها بطون الحبالى، وذُبّحت الأطفال، وقطعت الأوصال، وشوّهت الأجسام، وقذفت في بئر في القرية، وذهل (ليز) مندوب (الصليب (١) !!!) الأحمر آنذاك لما عد أعوانه (٢٥٠) جثة، ولم يكملوا العدّ -بعد-، فأغمي عليه!
ومن المذابح -أيضًا-: مذبحة شرفات في ٧/٢/١٩٥١م، ومذبحة عيد الميلاد (!!) في ٦/١/١٩٥٢م، ومذبحة قبية في ١٤/١٠/١٩٥٣م، ومذبحة قتل الأطفال في ٢/١١/١٩٥٤م، ومذبحة غزة في ٢٨/٢/١٩٥٥م، ومذبحة شاطئ طبريا في ١١/٢/١٩٥٥م، ومذبحة غزة الثانية في ٥/٤/١٩٥٦م، ومذبحة غرندل في ١٣/٩/١٩٥٦م، ومذبحة حوسان في ٢٥/٩/١٩٥٦م، ومذبحة قلقيلية في ١٠/١٠/١٩٥٦م، ومذبحة كفر قاسم في ٢٨/١٠/١٩٥٦م.
وانتهاءً في تاريخنا الحديث بمجموعة من المذابح، من مثل: مذابح صبرا وشاتيلا في لبنان في ١٧/٩/١٩٨٢م، وقبلها مذبحة تل الزعتر والكرنتينا في ١٠/ ٨/١٩٧٦م، وهاتان المذبحتان من أبشع وأشنع ما سُجّل في التاريخ الحديث، إذ قدمت جثث الموتى للكلاب، وتم فيها اغتصاب النساء، وحرق
_________
(١) للنصارى عناية بالصليب منقطعة النظير، وله أشكال وهيئات، قل أن تسلم منه بيوت المسلمين اليوم فضلًا عن ملابسهم وغيرها! وهي موجودة في الموسوعات (المعلمات) العالمية، وكتب دياناتهم!
1 / 11
الشباب، على صورة تقشعر منها الأبدان، وتشيب بسببها الصبيان!
ثم مذبحة عيون قارة في ٢٠/٥/١٩٩٠م، ثم مجزرة الأقصى الشهيرة في ٨/١٠/١٩٩١م، إذ قُتل المصلّون جملة، ولم يراعوا حق ضعيف أو كبير أو امرأة، وبارك شياطينهم من الحاخامات بهذه المجزرة، وطالبوا بالمزيد! وعملوا على المباركة! ولا تنسى أبدًا مجزرة المسجد (١) الإبراهيمي بالخليل بقيادة اليهودي الطبيب النجس باروخ غولدشتاين في ٢٥/١٠/١٩٩٤م، وكانت-أيضًا- ضد المصلين، وباركها (!!) -أيضًا- كثير من الحاخامات، ولا سيما الذي تولى كبره منهم (غورون) و(دروكمان)، ونصب لمنفذها (غولدشتاين) تمثالًا (!!) إعجابًا وحبًا! (٢)
ويزداد التوجع والتألم؛ لما نسمع ونقرأ تصريحات هؤلاء المعتدين، فمثلًا: سأل أحد الصحفيين الضابط اليهودي (مالينكي) عمَّا ارتكبه في بعض هذه المذابح: هل أنت نادم على ما فعلت؟ قال: بالعكس؛ لأنّ الموت لأيِّ عربي في إسرائيل (٣)
_________
(١) يطلق الناس في الخليل خاصة وفي فلسطين بعامة، فضلًا عن غيرها، على هذا المسجد (الحرم الإبراهيمي)، والأمر -من وجهة نظر شرعية- ليس كذلك. وانظر التعليق على (ص ٢٢١) .
(٢) للدكتور عرفات حجازي كتاب مطبوع جيد، ينصح بقراءته، وعنوانه «مدينة الخليل وحروب الحاخامات الدينية» .
(٣) هذه التسمية منكرة، وقد شاع على ألسنة الناس في بلاد المسلمين القول في سياق الذمّ: فعلت إسرائيل كذا، وستفعل كذا! و(إسرائيل) هو رسول كريم من رسل الله؛ وهو: (يعقوب) ﵇، وهو بريء من دولة اليهود الخبيثة الماكرة، إذ لا توارث بين الأنبياء والرسل وبين أعدائهم من الكافرين، فليس لليهود أية علاقة دينية بنبي الله (إسرائيل) ﵇، وهذه التسمية تسيء لمفاهيم ديننا، ولا يرضى الله عنها ولا رسوله ولا أنبياؤه، ولا سيما (إسرائيل) ﵇، إذ هم قوم (كفرة)، وقوم= = (بهت)، وإطلاق هذه التسمية عليهم فيها إيذاء له ﵇، والواجب الحيلولة دون ذلك.
وثبت في «صحيح البخاري» (٣٥٣٣) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؛ يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا، وأنا محمد» .
والواجب -على الأقل- إغاظتُهم بتسميتهم (يهود)؛ لأنهم يشمئزون من هذه التسمية، ويفرحون بانتسابهم الكاذب ليعقوب ﵇، فليس لهم شيء من فضائله ومناقبه ﵇.
وللشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رسالة مطبوعة بقطر عام ١٣٩٨هـ، بعنوان «الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل»، وانظر في هذا ... -أيضًا-: «معجم المناهي اللفظية» (٤٤) للشيخ بكر أبو زيد، ومجلتنا «الأصالة» الغراء، مقالة الشيخ ربيع بن هادي (حكم تسمية دولة يهود بإسرائيل) العدد (٣٢): السنة السادسة/١٥ ربيع الأول/١٤٢٢هـ (ص ٥٤-٥٧) .
ثم وجدت هذا التحذير في كتاب «خرافات يهودية» لأحمد الشقيري (ص ١٣-٣٠) تحت عنوان (لستم أبناء إبراهيم، أنتم أبناء إبليس) .
1 / 12
معناهُ الحياة لأي إسرائيلي (٣) .
ثانيًا: اغتصاب الأرض، وإخراج أهلها منها عنوةً.
عبر مسلسل دموي، وتخطيط محكم، وتنفيذ دقيق، استطاع اليهود سرقة (فلسطين) على دفعات، وكان ذلك بمباركة ودعم الغرب الكافر، وغفلة كثير من الشعب الفاجر (١)، وكان ذلك على دفعتين: سنة ١٩٤٨م احتلوا فيها فلسطين، وسنة ١٩٦٧م احتلوا فيها الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف، والمسجد الأقصى، وسيناء، والجولان.
_________
(١) عمل أعداء الله ﷿ على إيجاد منظمات فدائية في الشعب الفلسطيني، تتبنى الماركسية والثورية، وكان (سر الليل) عندهم في معسكراتهم في بعض الأحايين (شتم الله) كما أخبرني بذلك غير واحد ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ ... إِلاَّ كَذِبًا﴾ .
1 / 13
* استطراد له صلة بإخراج أهل فلسطين، وفتوى الشيخ الألباني في ذلك
أذكر هنا إفاضة وإضافة لها صلة بـ (السلفيين وقضية فلسطين)، وهي فتوى دندن حولها كثير من الشانئين، وأوقعت بعض المحبين في حيرة، وهي فتوى لشيخنا محدث العصر الألباني -رحمه الله تعالى- حول قضية خروج أهل فلسطين منها!
فقد ضمّ الشيخ ﵀ وآخر مثله في السِّنّ -لا في العلم- مجلس، وسأل المسنُّ القادمُ من فلسطين الشيخَ ﵀ عن مسائل، وقع ضمنها توجّع وشكاية وتألم من حال المسلمين الساكنين في فلسطين، فأفتى الشيخ
- كعادته وبصراحته وجرأته فيما يعتقد- أن مكة خير من فلسطين، وأن النبي ﷺ لما لم يستطع إقامة الدين فيها هاجر منها، فعلى كل مسلم لا يستطيع أن يقيم دينه في أي بقعة أن يتركها وينتقل إلى بلدة يستطيع فيها ذلك، فكان ماذا؟ وقعت هذه الفتوى لبعض (الأشاعرة) (الصوفيين) في بلادنا، وأخذ يدندن فيها، متهمًا الشيخ بأنه (يهودي) ! مستدلًا بكلامه هذا! وأثارت (الصحف) و(الجرائد) هذه القضية، وكتب فيها العالم والجاهل، والسفيه والحقير والوضيع، وصرح بعضهم أنه لا يبغض (الألباني) ولا يعاديه! وإنما يعمل على محاربة (منهجه) فحسب! اللهم يا مقلب (العقول) ثبت (عقلي) على دينك وسنة نبيك ﷺ.
ويا ليت هؤلاء تكلموا بأدلة، أو بلُغَة أهل العلم، وإنما بلغة (الجرائد) (١): السباب، وعرض (العضلات)، وعدم التعرض للمسألة: بتأصيل أو تكييف أو تدليل أو تأريخ، وإنما لامست شيئًا في نفوسهم من نفور أو
_________
(١) ألف الأستاذ محمد سليم بن محمد الجندي (ت ١٣٧٥هـ - ١٩٥٥م) رسالة جيدة مطبوعة بعنوان «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» .
1 / 14
(حسد) أو (حقد)، ففرَّغوا ما فيها، فارتاحوا وانتعشوا، وظنوا أنهم نهوا وأمروا! وفازوا وظفروا! حقًا؛ إنها -أي: المقالات- مكتوبة بلغة، لا يربأ صاحب القلم الحر العلمي إلا السكوت عنها، أو القول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومع ذلك؛ فقد تصدّى أخونا الشيخ حسين العوايشة لما شاع وذاع، وأخذ في التنقيب والبحث، وجمع ما ورد في مسألة (الهجرة) من آثار، وكلام للعلماء الربانيين، فخرجت معه دراسته المنشورة المعنونة بـ «الفصل المبين في مسألة الهجرة ومفارقة المشركين»، وإنما هو في الحقيقة في سلسلة للعلماء -على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وأعصارهم وأمصارهم- قد نصوا على ذلك، فها هو شيخنا حماد بن محمد الأنصاري، له كتاب مطبوع بعنوان «إعلام الزمرة بأحكام الهجرة»، في فتاوى كثيرة، تطلب من مظانها (١)، وأكتفي بنقل (٢) فتوى توافق مشرب المشغّب الذي عامله الله بما استحق، من إطفاء نجمه، وأُفول ظله، وطمس صوته، وهي (فتوى ابن عربي (٣) الصوفي الحاتمي الطائي)، قال ما نصه:
«وعليك بالهجرة ولا تقم بين أظهر الكفار، فإن في ذلك إهانة دين الإسلام، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، فإن الله ما أمر بالقتال إلا لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإياك والإقامة أو الدخول تحت ذمة كافر ما استطعت، واعلم أن المقيم بين أظهُرِ الكفار -مع تمنكه من الخروج من بين ظهرانيهم- لا حظ له في الإسلام (!!)، فإن النبي s
_________
(١) سيأتي تعداد ما وقفت عليه مفردًا في هذا الباب، والله الموفق، فانظرها، فإنها مفيدة.
(٢) فات من صنف في هذه المسألة!
(٣) في كتابه «الوصايا» (ص ٥٨-٥٩) .
1 / 15
قد تبرأ منه، ولا يتبرأ رسول الله ﷺ من مسلم، وقد ثبت عنه أنه s قال: «أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، فما اعتبر له كلمة الإسلام، وقال الله -تعالى- فيمن مات وهو بين أظهر المشركين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (١) [النساء: ٩٧]، فلهذا حجرنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس والإقامة فيه؛ لكونه بيد الكفار، فالولاية لهم والتحكم في المسلمين، والمسلمون معهم على أسوأ حال -نعوذ بالله من تحكم الأهواء-، فالزائرون اليوم البيت المُقدَّس، والمقيمون فيه من المسلمين، هم الذين قال الله فيهم: ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤]، وكذلك فلتهاجر عن كل خلق مذموم شرعًا قد ذمه الحقُّ في كتابه، أو على لسان رسول الله ﷺ» .
وأخيرًا؛ نحيل على دراسات مفردة لمن رام الاستزادة في هذا الموضوع، وهي مهمة:
الأولى: لمصطفى بن رمضان البولاقي (ت ١٢٦٣هـ - ١٨٤٧م): «رسالة فيما إذا كان يحل للمسلمين العيش تحت حكم غير المسلمين والتعايش معهم» .
الثانية: لعلي الرسولي رسالة في الموضوع نفسه، وبالعنوان السابق، وهي والتي قبلها ضمن مجموع منسوخ في القرن (١٣هـ/١٩م) في جامعة ييل بأمريكا، تحت رقم [٤٠٥ - L (٩٧٠)] . انظر «المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ييل» (١٠٦) .
_________
(١) انظر لزامًا عنها: «تفسير الكشاف» (١/٥٥٧)، «الدفاع عن أهل السنة والاتباع» لابن عتيق (ص ١٣-١٤)، «الهجرة في القرآن الكريم» (ص ١٦٥) .
1 / 16
الثالثة: لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت ٩١٤هـ - ١٥٠٨م): «أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر»، نشرت بتمامها في «المعيار المعرب» (٢/١١٩-١٤١)، ونشرها -قديمًا- حسين مؤنس في صحيفة «معهد الدراسات الإسلامية في مدريد» (المجلد ٥)، سنة ١٩٧٥م، (ص١٢٩-١٨٢)، وأعاد نشرها المحقق نفسه في مجلة «معهد المخطوطات العربية» (مجلد ٥/الجزء ١/ ذو القعدة/١٩٥٩) (ص ١٤٧-١٨٤)، ثم ظهرت عن دار البيارق في طبعة رديئة! غير مقابلة على نسخ خطية، ومنها نسخة في شنقيط [٣٧٠ أش] في (١٧ ورقة)، كما في «فهرس مكتبة شنقيط وودان» (١٦٠)، وأخرى في مكتبة قاريونس، تحت رقم (٨٤٥)، كما في «فهارس مكتبة جامعتها» (٢/٣١) .
الرابعة: «بيان وجوب الهجرة وتحريم موالاة الكفرة ووجوب موالاة مؤمني الأمة» لعثمان بن محمد بن فودي، منه ثلاث نسخ في نيجيريا في جامعة أحمد وبلو، بأرقام [١/١٢٧P. و٦/٨P. و٤٣/٧ K.]، ورابعة في قاريونس/ ليبيا في (٧٧ ورقة)، تحت رقم (١٩١٧)، كما في «فهرس مكتبة جامعة قاريونس» (٢/٢٧) .
الخامسة: «سفر المسلمين إلى بلاد النصارى»، منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، ضمن مجموع [١٦٣] في (٧) ورقات.
السادسة: «الشمس المنيرة الزهرا في تحقيق الكلام فيما أدخله الكفار دارهم قهرا» للحسين بن ناصر المهلاّ، منه نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، تحت رقم (١٤٧١) في (٢١) ورقة.
في رسائل لآخرين، وقد نوهنا -قريبًا- أن غير واحد من المعاصرين ألَّف في هذا الباب.
1 / 17
تحرير فتوى الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-
نرتب فتوى الشيخ ﵀ بأجزائها المتفرقة المؤتلفة في نقاط واحدة محددة (١):
_________
(١) هذه النقاط موجودة في كتاب «ماذا ينقمون من الشيخ» (ص ٢١-٢٤)، اطّلع عليها الشيخ وأقرها، وهذه صورة خطه بالإقرار:
1 / 18
- الهجرة والجهاد ماضيان إلى يوم القيامة.
- ليست الفُتيا مُوَجَّهةً إلى بلدٍ بعينِه، أو شَعْبٍ بذاتِه.
- وقد هاجر أشرف إنسان وأعظمه محمدٌ ﵊، من أشرف بُقعة وأعظمها؛ مكَّةَ المكرمة، وكلُّ إنسان -منذ خلق الناس وإلى الساعة- دون محمد ﵊ منزلةً، وكل بقاع الأرض دونها شرفًا وقُدسيّةً.
- وتجب الهجرة حين لا يجد المسلمُ مُستَقَرًّا لدينه في أرض هو فيها امتُحن في دينه، فلم يعد في وُسعه إظهارُ ما كلَّفه اللهُ به من أحكام شرعيّةٍ، خَشْيَةَ أن يُفتَنَ في نفسه من بلاء يقع عليه، أو مسِّ أذى يُصيبُه في بدنه فينقلب على عَقِبَيه.
وهذه النقطة هي مناطُ الحُكم في فتوى الشيخ، والمُرتَكزُ الأساسُ فيها
- لو كانوا يعقلون! - وبها يرتبطُ الحُكمُ وجودًا ونفيًا.
ولكن -وللأسف الشديد- قد غيَّبَ ذلك وأخفاهُ وكَتَمَهُ الناقِدون الحاقِدون الحاطِبون في مُحاضراتهم و(ملاحِمِهم) المنبريَّة الانتخابية!!
قال الإمامُ النَّووي في «روضة الطالبين» (١٠/٢٨٢):
«المسلم إذا كان ضعيفًا في دار الكُفر، لا يقدرُ على إظهار الدين حَرُمَ عليه الإقامةُ هناك، وتجبُ عليه الهجرةُ إلى دار الإسلام ...» .
- وحين يجدُ المسلمُ موضعًا -داخل القطر الذي يعيش فيه- يأمنُ فيه على نفسه ودينِه وأهلِه، ويَنْأَى فيه عن الفِتنة التي حلَّت به في مدينته أو في قريته، فعليه -إن استطاع- أن يُهاجرَ إلى ذلك المكان داخلَ قُطره نفسِه، وهذا أَوْلى -ولا شك- مِن أن يُهاجِرَ إلى خارج قُطرِه، إذ يكون أقربَ إلى بلده لِيُسرعَ بالرجوع إليه بعد زوال السببِ الذي من أجله هاجر.
1 / 19
وهذه نقطة أخرى -أيضًا- قد غيَّبها أولئك (القوم) الذين لم يَرْقبُوا في الشَّيخ، والعلمِ، والنّاسِ، إلًاّ ولا ذِمَّةً
- إذن؛ فالهجرةُ كما أنَّها مشروعةٌ من قُطر إلى قُطر، فهي مشروعةٌ مِن قرية أو مِن مدينة إلى قرية أو مدينةٍ داخل القُطر نفسه، والمهاجرُ يعرفُ مِن نفسِه ما لا يعرفُه منه غيرُه.
وهذا -ثالثًا- قد غيَّبه أولئك المُهَرِّجون على المنابر، والراقصون على الصحائف! زاعمين أنَّ الشَّيخَ يأمُرُ أهلَ فلسطين بالخروج منها!! نعم؛ هكذا ... -واللهِ- من غير تفصيلٍ أو بيان!! ولكن:
فما يَبْلُغُ الأعداءُ مِن جاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الجاهِلُ مِن نَفْسِه!
- والهجرةُ من قُطرٍ إلى قُطر لا تُشرَعُ إلاّ بدواعيها وأسبابها مِن مثل ما كرنا في فقرة مَضَتْ؛ ومن أعظم هذه الأسباب: أن تكون الهجرةُ للإعداد واتِّخاذ الأُهبة التي أمر الله بها ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ...﴾؛ لإجلاء الأعداء عن أرضٍ مِن أرضِ المسلمين، وتَخليصِها من أيديهم؛ ليعودَ إليها حُكمُ الإسلام كما كان مِنْ قَبلُ.
فالهجرةُ -إذن- من الإعداد الذي أمر اللهُ به وحَضَّ عليه، ومَنْ أبطأ فيها -وقد تَهَيَّأت أسبابُها ودواعيها- فقد عصى اللهَ، ونأَى بجانبِه عن أمره.
فإِنْ عَلِمَ المسلمُ أو المسلمون أنَّهم ببقائهم في ديارهم يزدادون وَهْنًا إلى وَهْن وضَعفًا إلى ضعف، وأنَّهم إنْ هاجروا ذهبَ الوَهْنُ عنهم، وزال الضَّعفُ منهم، وبَقُوا -بعد علمهم هذا- ولم يُهاجروا -إن استطاعوا-؛ فهم آثمون عاصون أَمرَ الله، ورُبَّما عُوقبوا بمعصيتهم هذه عقوبةً أعظمَ وأشدَّ نُكرًا، تتلاشى فيها شخصيتُهم، وتغيبُ معها صورتُهم، وتَضِلُّ بها عقيدتُهم، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا.
وما صار إليه المسلمون في الأندلس، وفي غيرها من البلاد، شاهدٌ منظورٌ
1 / 20
يقُص علينا من نبئه ما يبعث مَنسِيَّ الشَّجَن، ويُنسي لذَّة الوَسَن، يُذَكِّر محظورَ السُّنن! فهل مِن مُدَّكِر؟
- ومِمّا لا شك فيه -مما كتمه -أيضًا- ناقلو الفُتيا المُشِيعون لها- أنَّ هذا كلَّه مَنُوطٌ بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله -تعالى-: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾، ولقوله -سبحانه-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾، فإن لم يَجِد المسلمُ أرضًا يأوي إليها غير الأرض التي هو فيها؛ يَأمَنُ فيها على دينه، وينجو من الفتنة الواقع فيها، أو حيلَ بينه وبين الهجرة بأسباب مانعةٍ قاهرةٍ لا يستطيعُ تذليلَها، أو استوت الأرضُ كلُّها في الأسباب والدَّواعي الموجبة للهجرة، أو عَلِمَ في نفسه أنَّ بقاءَه في أرضه آمَنُ لدينه ونفسِه وأهلِه، أو لم يكن من مُهاجَر إلاّ إلى أرض يُحكَم فيها بالكُفر الصُّراح علانيةً، أو كان بقاؤه في أرضه المأذونِ له بالهجرة منها مُحَقِّقًا مصلحةً شرعيّةً، سواءٌ أكانت هذه المصلحةُ للأمَّة، أم بإخراج أهل الكفر من كفرهم، وهو لا يخشى الفتنةَ على نفسه في دينه، فهو في هذه الأحوال كلِّها، وفي الأحوال التي تُحاكيها، ليس في وُسعه إلا أن يبقى مُقيمًا في أرضه، ويُرجَى له ثوابُ المهاجرين، فرارًا بدينهم، وابتغاءَ مرضاةِ ربِّهم.
قال الإمامُ النَّوويُّ في «الرَّوضة» (١٠/٢٨٢) -مُتَمِّمًا كلامه الذي نقلتُه عنه-قَبْلُ-:
«... فإن لم يَقْدِر على الهجرة فهو مَعذورٌ إلى أن يَقدِرَ» .
- ويُقالُ في أهل فلسطينَ -خصوصًا- ما يُقال في مثل هؤلاء جميعًا، فلقد سُئل الشيخُ -حفظه الله- عن بعض أهل المدن التي احتلّها اليهود عام ١٩٤٨م، وضَرَبوا عليها صبغةَ الحُكم اليهودي بالكليّة، حتى صار أهلُها فيها إلى حالٍ من الغُربة المُرْمِلَةِ في دينهم، وأضْحَوا فيها عَبَدَةً أذلاّءَ؟ فقال: هل في قُرى فلسطين أو في مُدُنِها قريةٌ أو مدينةٌ يستطيع هؤلاء أن يَجِدُوا فيها دينَهم،
1 / 21
ويتخذوها دارًا يدرءون فيها الفتنةَ عنهم؟ فإن كان؛ فعليهم أن يُهاجروا إليها، ولا يخرجوا من أرض فلسطين، إذ إنَّ هِجرَتَهم من داخلِها إلى داخلِها أَمرٌ مَقْدُورٌ عليه، ومُحَقِّقٌ الغايةَ من الهجرة.
وهذا تحقيقٌ علميٌّ دقيقٌ يَنقُضُ زَعمَ مَنْ شَوَّشَ وهَوَّشَ مُدَّعيًا أنَّ في فُتيا الشيخ إخلاءً لأرض فلسطين من أَهلِها، أو تنفيذًا لِمُخَطَّطاتِ يهود!! ﴿مَا لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾» .
أُفٍّ لكم أيُّها الناقدون الحاقدون! هل علمتم هذا التَّفصيلَ أم جهلتموه؟! إن كنتم علمتوه فَلِمَ أَخفَيتُموه وكَتَمتُموه؟!
وإنْ كنتُم جهلتموه! فلماذا رَضِيتُم لأنفسكم الجهلَ، وللشيخ الظُّلمَ، وللناس التَّضليلَ؟!
أم أنَّ هذه تجارتُكم تَخشَوْنَ كسادَها؟! بِئسَتِ البضاعةُ، وبئست التجارةُ!
- وَليَعلَمِ المسلمُ أنَّ الحِفاظَ على الأرض والنَّفس، ليس أولى من الحفاظ على الدين والعقيدة، بل إنَّ استلابَ الأرضِ -مِمَّن يظلُّ مُقيمًا فيها رجاءَ الحفاظ عليها، غيرَ واضعٍ في حسابه الحفاظَ على دينه أولًا- قد يكون أَيسَرَ، وأشدَّ إيذاءً، وأعظمَ فتنةً.
والعدوُّ الكافر الذي يحتلُّ أرضًا -وأهلُها مُقيمون فوقَها- يملكُ الأرضَ ومَن عليها وما عليها، فالكفرُ لا يَحفظُ للإسلام عهدًا، ولا يرعى للمسلمين إلًاّ ولا ذمَّة، ولا يُقيم لهم في أرضهم وخارج أرضهم وَزنًا.
قال أبو عبيدة: وتكلم الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذه المسألة بإسهاب في كتابه «السلسلة الصحيحة» عند حديث رقم (٢٨٥٧)، وهذا نصه:
«إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم من الغنائم الخمس وسهم النبي ﷺ،
1 / 22
.. والصفي (١) -وربما قال: وصفيَّة-؛ فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله» (٢) .
وتعرض للفتنة التي ألمت به، وصرح بموقفه من المسألة ببيانٍ ناصع، وحجة واضحة، وشدّ فهمه للنصوص بكلام بعض العلماء المحققين، وهذا كلامه بحرفه ونصّه وفصّه:
«قلت: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام، من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم، ومنها: أن يفارقوا المشركين ويهاجروا إلى بلاد المسلمين، وفي هذا أحاديث كثيرة، يلتقي كلها على حضّ من أسلم على المفارقة، كقوله ﷺ: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما»، وفي بعضها أن النبي ﷺ اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك، وفي بعضها قوله ﷺ:
«لا يقبل الله ﷿ من مشرك بعد ما أسلم عملًا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» .
إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد خرجت بعضها في «الإرواء» (٥/٩-٣٣)، وفيما تقدم برقم (٦٣٦) .
وإن مما يُؤْسَفُ له أشد الأسف، أن الذين يُسْلمون في العصر الحاضر ... -مع كثرتهم والحمد لله- لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة، وهجرتهم
_________
(١) (الصَّفِيّ): ما كان ﷺ يصطفيه ويختاره من عرض المغنم من فرس أو غلام أو سيف، أو ما أحب من شيء، وذلك من رأس المغنم قبل أن يخمَس، كان ﷺ مخصوصًا بهذه الثلاث (يعني المذكورة في الحديث: الخمس والسهم والصفي) عقبة وعوضًا عن الصدقة التي حرمت عليه. قاله الخطابي. (منه) .
(٢) أخرجه عبد الرزاق (٤/٣٠٠/٧٨٥٧)، وأحمد (٥/٧٧، ٧٨)، والخطابي في «غريب الحديث» (٤/٢٣٦)، والبيهقي (٦/٣٠٣ و٩/١٣)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (منه) .
1 / 23
إلى بلاد الإسلام، إلا القليل منهم، وأنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين:
الأول: تكالبهم على الدنيا، وتيسّر وسائل العيش والرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة، لا روح فيها، كما هو معلوم، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم.
والآخر -وهو الأهم-: جهلهم بهذا الحكم، وهم في ذلك معذورون، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية، أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة؛ لأن أكثرهم ليسوا فقهاء، وبخاصة منهم جماعة التبليغ، بل إنهم ليزدادون لصوقًا ببلادهم، حينما يرون كثيرًا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم والمسلمون أنفسهم مخالفون له؟!
ألا فليعلم هؤلاء وهؤلاء أن الهجرة ماضية كالجهاد، فقد قال s: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل»، وفي حديث آخر: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، وهو مخرج في «الإرواء» (١٢٠٨) .
ومما ينبغي أن يعلم، أن الهجرة أنواع ولأسباب عدة، ولبيانها مجال آخر، والمهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن الإسلام، أو مقصرين في تطبيق أحكامه، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد الكفر أخلاقًا وتدينًا وسلوكًا، وليس الأمر -بداهة- كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء:
«والله لو خُيّرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود وبين أن أعيش في أي عاصمة عربية، لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال
1 / 24