ولا توجد قوة في العالم تنتشر هذا الانتشار، وتتفق على الحقد والضغينة هذا الاتفاق، وتطلع على الأسرار وعلى وسائل استغلالها هذا الاطلاع.
لقد وجدت في العالم دول قوية نشرت جواسيسها في كل بلد، واستأجرت الدعاة لترويج مقاصدها وتمهيد الأذهان لقبول سياستها، ولكنها لم تبلغ في القوة مبلغ الصهيونية العالمية؛ لأن الدولة القوية تناهضها دولة قوية مثلها، وتستثير عليها الأوطان التي تحكمها، ولأن الجاسوس الذي يعمل لدولة غريبة أو قريبة غير الجاسوس الذي يعمل لنفسه ولجنسه، ويصدر في عمله عن الحقد المتغلغل بين جوانحه، والموروث من أبيه وجده. ويعتقد أن إلهه يبارك حقده وشره، ويتكفل له بالنصر على أعدائه، وقلما يتمكن الجاسوس في بلد من البلدان كما يتمكن منه الصهيوني المقيم فيه، المرتبط بمعاملاته وعلاقاته، وقلما يتجاوز جواسيس الدول الألوف إلى الملايين ... أما طوابير الصهيونية فهم يتجاوزون الملايين، من الظاهرين غير المستترين.
نعم من الظاهرين غير المستترين؛ لأن الغالب على الكثيرين أن يحصروا الصهيونيين فلا يحسبون منهم إلا المقيمين على ديانتهم المعترفين بنسبتهم إلى أبناء جلدتهم، ولكنهم لا يحسبون الصهيونيين الذين أظهروا التحول عن دينهم، ليكون هذا التحول أعون لهم على الدسيسة، وأخفى لأغراضهم عن الرقباء، وأدنى بهم إلى مكامن الأسرار وبواطن النيات.
وهناك غير الصهيونيين المقيمين على دينهم، وغير الصهيونيين المتحولين عنه إلى دين آخر، طوائف من الصهيونيين بالمصاهرة والمقاربة في الشعور، لا يقلون في الغيرة على قضية الصهيونية عن زملائهم الآخرين.
هناك الصهيونيون من الأمهات الصهيونيات، وقد ترقى بعضهم إلى مراكز الوزارة في أكبر الدول، وتربوا من المهد على خدمة الصهيونية، كما يتربى الطفل على حب أمه، وهو لا يلتمس لذلك الحب علة ولا برهانا غير العاطفة التي لا تحتاج إلى تعليم ولا تلقين.
فالصهيونيون أكثر من ملايينهم الظاهرين، وهم - مع هذه الكثرة - يطلعون على أسرار الدول والمعاملات المالية بحكم صناعتهم؛ إذ كانت الصناعة الأولى التي توارثوها هي صناعة الصيرفة والسمسرة المالية، وهي أحوج الصناعات إلى الاطلاع على الأسرار؛ لأن سرا واحدا عن الحرب والصلح قد يعمر الخزائن بالملايين، وقد يخرب الخزائن ذات الملايين.
وهذا عدا أسرار المضاربات في الأسواق بمعزل عن أخبار الحرب والسلام ... فربما ارتفعت أسهم وهبطت أسهم من جراء سر يعرفه المضارب قبل الأوان، وربما حل الدمار بقطر واسع من عواقب هذا الارتفاع وهذا الهبوط.
وليست الأعمال المالية - أعمال الصيرفة والسمسرة - وقفا على الصهيونية، فهناك صيارفة كبار من غير صهيون، وهناك البيوت المالية في جميع الأمم والقارات، ولكن الشبكة العالمية وقف على الصهيونية العالمية، فلا توجد شبكة مثلها للصيرفة والسمسرة تضارعها في الانتشار.
يوجد في العالم أفراد من ملوك المال أمثال مورخان وروكفلر، ولكن لا يوجد فيه ملوك مال من قبيل الإخوة روتشيلد: روتشيلد بريطاني في لندن، وروتشيلد فرنسي في باريس، وروتشيلد ألماني في برلين، وروتشيلد نمسوي في فيينا، وحولهم شبكة محكمة، في السر والعلانية، تحيط بالأسواق ودواوين الحكومات.
قال الكاتب الإنجليزي شسترتون الذي ننقل عنه هذه الملاحظة من كتاب «فاجعة السامية وعداوتها»: «إن سفينة خرجت من ميناء في أمريكا اللاتينية أثناء الحرب العالمية، وأرادت الدولة البريطانية أن تردها فلجأت إلى من؟ ... إلى بيوت روتشيلد، فوقفت السفينة حيث شاءت.» واستطاع المال في هذا الحادث ما لم تستطعه القوة؛ لأن القوة تخشى عواقب المناورات السياسية، وتتقيد بالقانون الدولي، وتخاف من سوء السمعة، ولكن المال يفعل فعله سرا دون أن يعلم أحد بمن عمل ولماذا عمل. وقد يكون في عمله الرضى للمخدوعين غير العارفين، وللمنتفعين بتدبيره من العارفين.
نامعلوم صفحہ