ولو كان الأمر بهذا المنطق صحيحا؛ أي إن البيعة موضوعة لإلزام المسلم غير الملتزم، لترتب على ذلك أن تكون البيعة ركنا من أركان الإسلام تجعل الناس يلتزمون بشريعته ونظامه، ويصبح الإسلام بلا بيعة هو والكفر سواء. كل هذه الإضافات في دين الإسلام يفعلونها ببساطة لأنهم يتحدثون باسم الإسلام، ولا شرعية معهم لذلك، بينما البدعة المكروهة في الإسلام هي «الزيادة في الدين» على اتفاق الفقهاء، إنهم أيضا يعلمون هذا ومع ذلك يفعلونه. إن الدين ليس هو غرضهم ولا هو هدفهم، إنما هو الكرسي الأعظم في الوطن.
المصيبة أن البيعة بهذا الشكل الذي يسوقه لنا د. زيدان ليست ركنا سادسا في دين الإسلام فقط، بل هي الحاكمة على الخمسة أركان الأساسية التأسيسية التي نعرفها، فهي شرط التزام وتنفيذ. الدكتور زيدان يكتب لنا شيكات بدون رصيد، غير قابلة للصرف، ويريد توقيعنا في المقابل على بيعته، فإذا كانت البيعة فرضا فلماذا احتاس أبو بكر في السقيفة؟ لماذا لم يقل إن البيعة فرض، كما قال «الخلافة في قريش»، وكما قال: «الأنبياء لا يورثون»؟
لماذا لم يحلها أبو بكر دفعة واحدة كما فعل بالحديثين السابقين؟ لو كانت البيعة ركنا إسلاميا وميثاقا معروفا مفروضا، لفرضها أبو بكر بحديث نبوي ثالث، وإذا كانت الخبرة النبوية والخبرة الإسلامية مصدرا هاما كأحداث واقع وليست تنظيرات فلسفية كما عند روسو، فكيف جاز له أن يقول «إن البيعة هي أداة إعلان المجتمع الإسلامي الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»؟ ألا يرى أن البيعتين اللتين كانتا مناط حديثه (العقبتين)، كانت قبل اكتمال الشريعة وقبل الهجرة وقبل نزول آية الشورى أصلا؟ إن البيعتين ببساطة كانتا حلفا هجوميا يكون فيه النبي هو الزعيم الديني، كانت البيعتان قسم ولاء للنبي والدين لا للدولة؛ فلم يكن هناك دولة.
ناهيك عن كون البيعة لم تلزم من أعطاها بالإسلام، فلم تثمر مع المنافقين مثلا لأن الدين اقتناع وليس إعلانا بالبيعة. زيدان يعلم أننا أسلمنا سلفا، لكنه يريد منا الحلف والقسم بصدق إسلامنا بإعطاء البيعة؟ المصيبة هنا أن الهدف الحقيقي من البيعة قد اختفى وراء هذا الركام من الكذب والتلفيق، إن الخليفة جالس سلفا في الصورة وحوله خلفيته طاقم محترف من تجار الدين ينتظرون البيعة، التي أصبحت شأنا مقدسا لأنها ركن سادس للإسلام يضمن بقية الأركان!
إن الحديث مع هؤلاء القوم له لذة كشف الباطل ومحاكمة الفاسد وتعريته لكشف مدى استهانتهم بديننا وبناسنا، مدفوعين بالرغبة في تحصيل السيادة السلطانية. انظر مدى الخلط بلعبة الثلاث ورقات الفاسدة، يقول البيعة أداة إعلان المجتمع المسلم التزامه بالمنهج والشريعة والشورى، بينما الإيمان ومقياسه وكميته شأن لا يمكن معرفته؛ لذلك الإيمان شأن فردي تماما؛ لذلك كان يوجد منافقون زمن النبي، ومع الإيمان يكون الالتزام بالشريعة من عدمه. أما البيعة فهي شأن جماعي لا يؤثر في صدق إيمان الأفراد؛ فالإيمان لا يتعلق بالمجتمع الذي تريدونه «إسلاميا» إنما يتعلق بالفرد.
وحسب العقيدة الإسلامية فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فسوف يحاسب الله الأفراد لأنها أمور تخص الفرد وحده وتعود نتائجها عليه وحده، دون مسئولية على المجتمع أو على الحاكم أو حتى على النبي؛ فالمسئولية الدينية شأن فردي ليس جماعيا، فلا البيعة ولا المجتمع بقادرين على إلزام أي فرد بإيمان معين ولا بدين معين، حتى إن النبي المؤيد من السماء لم يستطع أن يلزم أعمامه بالإيمان؛ لأنه في الزمن الملكي لا إكراه في الدين حتى لو كان بالبيعة؛ فقد حضر عمه العباس البيعة وكان كافرا (أسلم العباس قبل فتح مكة بساعات).
البيعة كتمكين للأمة
قال زيدان: إن البيعة «هي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، قبل الدولة، وبعدها.» ألا ترون حجم الكذب على التاريخ؟ ابحث في تاريخنا ما شاء لك البحث، فلن تجد هذا التمكين للأمة يوما، في عهد من من خلفائنا العظام كانت الأمة متمكنة وغير خاضعة؟ من أين لهم هذه القدرة على التزييف ليأتي بهذا التعريف الذي يجعل الأمة متمكنة من الدولة وليست خاضعة؟ من سن هذا من الخلفاء؟ راشدون أو غير راشدين؟ أو أين يمكن أن نجد هذا، في كتب السيرة أم التاريخ الإسلامي أم الفقه؟ أين تحديدا؟ لن تجد شيئا بين يديك يدل على هذا المعنى ولو من باب التأويل. إنه يقصد تمكين أهل الدين؛ فهم كل الأمة، هم حراس الدين، ومن يؤتمن على الدين يؤتمن على الحياة بالضرورة. أما حكاية «الأمة» التي يرددونها طوال الوقت فإن زيدان لا يعرف معناه، ولا الصحابة عرفوا معناه، ولا النبي قال لنا شيئا عن معناه، ولا أحد منهم شرح لنا وقال ما هي الأمة المقصودة، وأين هي؟ وأين تقيم؟ الغريب هذا الاجتراء على مستقبل البلاد والعباد، بينما لا توجد قاعدة واحدة واضحة ثابتة مدونة بدقة قانونية لتمكين الأمة في تنصيب الخليفة أو خلعه؟ ولو كانت مثل تلك القاعدة موجودة ما حدثت الفتنة الكبرى؛ لأنه بموجبها كان الجميع، الصحابة وعثمان، يعرفون ما يجب فعله، إما خلعه وإما بقاؤه واستسلام كل المسلمين للقاعدة مع خليفتهم وطاعتها دون قتل وقتال وفتن.
لم تكن هناك قاعدة توضح هذا أو ذاك. إذا كانت دولة كما يزعمون فالمعنى أنها كانت دولة بلا نظام؛ لأن الإسلام لم يقصد إقامة نظام دولة، بل قصد الدين وحده، ولذلك كان لكل خليفة من الراشدين رأي يختلف عن الآخرين في طريقة استلام الحكم وفي علاقته بالمحكومين. كل شيخ وطريقته في الشغل، ولم يكن هذا الشغل تنويعا مفيدا كما يقول لنا أهل الدين، إنما كان ارتباكا عشوائيا، ولم تنتظم الدولة إلا بعد الراشدين وأخذ الخلافة بالنظام الرومي وبعض الفارسي، وفق ملكية وراثية منتظمة إلى حد ما، فلم توجد في الإسلام عمليا في الواقع أية قواعد لوصول أي حاكم لكرسيه؛ الإمام علي كان يريدها دينا وسياسة، معاوية لم يشغله لا الدين ولا السياسة وأخذها بيعة متغلب. من تمت مبايعته عن رضا من الناس هو علي ولم تمكنه البيعة من الحكم، ومن تمكن هو معاوية، إذن البيعة لا بتهش ولا بتنش.
يضع زيدان البيعة ليس مقابل العقد الاجتماعي عند روسو ، إنما في مكان أرقى سبق في عمق التاريخ وأنها تحققت في واقع الخبرة النبوية، ومع ذلك فإن أصحاب الخبرة في عمق التاريخ هم اليوم في الدرجات السفلى في رتبة الكائن الإنساني، بينما أصحاب العقد الاجتماعي الوهمي الغيبي هم من يمثلون رتبة جديدة في فرع الإنسان هي العالم المتمدن الراقي بحضارته التي ننفس الغرب عليها، وهي الحضارة التي قامت على تهويم العقد الاجتماعي المتخلف الغيبي! والفكرة الأساسية في عقدهم الاجتماعي هي التي دفعت زيدان وإخوانه لإعادة فحص ركامنا لاستخراج ما يكون بديلا لها، أو ينافسها، أو يعادلها، أو حتى يشبهها كلاما، وهذا أضعف الإيمان! فلما لم يجد شيئا قام يقيم مدينته الفاضلة تخيلا ووهما، ودليل أنها مجرد أخيلة وهلاوس هو عدم توصل هذا الخطاب إلى أي جديد يمكن تطبيقه حتى هذه اللحظة.
نامعلوم صفحہ