أما الآيات التي جاءت بشأن البيعة فقد جاءت تالية للبيعة وليس قبلها، لتوافق عليها،
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (الفتح: 18)، أو
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (الفتح: 10). ليس هنا أيضا دولة ولا ديمقراطية ولا مؤسسات ولا هيئات، لا شيء، هي برقيات تهنئة وتبريكات سماوية ليس أكثر، وليس فيها فرض للبيعة على المسلمين حتى ينشئوا مجتمعا سياسيا إسلاميا كما يريد زيدان. يعني المسلمون عملوا بيعة، جاءت الآيات وقالت إن ما فعلوه هو عمل حميد، ليس أكثر.
كل هذا كان عندنا، بينما روسو كان هيمان في غيبيات العقد الاجتماعي؟ لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله زيدان وإخوانه بلا طائل، لماذا؟ لماذا يكون الدين هو معيار الديمقراطية؟ كل هذا الجهد لأن أهل الدين كأصحاب مصالح لن يتنازلوا بسهولة، لكني أعتقد أن هذا اللون من الخطاب الذي بين أيدينا هو زفرتهم الأخيرة.
انظر اختياره للألفاظ للتعبير عن دلالات لا تعنيها بالمرة؛ فالبيعة هي «ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى».
عندما يقول رجل أكاديمي قولا فلا بد أن يعنيه، لا أن يعتمد على انتشاره في المخيلة الجماعية لكثرة الترديد والتكرار. فإذا كانت البيعة ميثاقا فلا بد أن يكون هذا الميثاق مكتوبا، خاصة مع تعلقه بأمر مصيري يمس تأسيس المجتمع الإسلامي السياسي، يمتد بامتداد الإسلام، وأن يكون هذا الميثاق موضحا به كل ما قدم الدكتور زيدان، خاليا من الغموض ومبينا لأسس ذلك المجتمع وعوامل قيامه بالتفصيل الدقيق، وقد قرأنا المكتوب في كتب السير ونصوص القرآن دون أن نجد لهذا الميثاق ذكر. إن نفس الكتب تعرف ما هو الميثاق لذلك دونت بنود المواثيق للتاريخ حتى اليوم، مثل ميثاق صلح الحديبية بندا بندا وشرطا شرطا، وكان لهذا الميثاق مدة زمنية وليس أبديا، فكانت مدته عشر سنوات فقط، ومع ذلك دونه لنا التاريخ الإسلامي، فإذا كانت البيعة ميثاقا ونظاما أبديا في السياسة الإسلامية فلماذا لم يتم تدوين بنود هذا الميثاق بالمرة في أي مرجع إسلامي؛ لأن هناك فرقا بين الحديبية ووثيقة البيعة، البيعة هي الأهم، ومع ذلك ذكرت تفاصيل الحديبية بكل دقة رغم أننا لن نطبق الحديبية اليوم وهي المدونة بندا بندا، ونريد أن نطبق البيعة، وليس لدينا وثيقتها لا في القرآن ولا في حديث ولا في كتب الروايات الإسلامية التي يدعيها الدكتور زيدان، لماذا لم يخبرنا الله بتفاصيل هذا الميثاق إذا كان له كل هذه الأهمية في دين المسلمين.
لماذا لم ينزل على نبيه آية الميثاق أو سورة الدستور؟ إن قوله إن البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وبما أن هذه البيعة قد تمت في الخبرة الإسلامية زمن الرسول، فالنتيجة المحتمة هو أن ما لدينا الآن مجتمع سياسي إسلامي، وهو ما يرد طلبه إنشاء هذا المجتمع؛ لأنه قد تم إنشاؤه بتلك البيعة، لكن لو أسمينا مجتمعنا بالمجتمع السياسي الإسلامي فعليه يمكن لنا افتراض مجتمع مسيحي سياسي، ومجتمع بوذي سياسي، ومجتمع هندوسي سياسي، ويكون لهذه المجتمعات خصوصياتها المغايرة لخصوصيات المجتمع الإسلامي، وحتى لا يحدث أي خلط يشوب مغايرة مجتمع المسلمين ومخالفاته للمجتمعات الدينية الأخرى، خاصة مع وصف مجتمعنا تمييزا له بالمسلم، لم يضع د. زيدان تعريفا دقيقا لهذا المجتمع، ولا وضعه غيره من متأسلمين أو إخوان، حتى يمكن للمجتمع إجراء عمليات الفرز والتجنيب للمجتمعات لمعرفة مسلميها من غير المسلمين. لنعرف مثلا موقع المسلمين الذين يعيشون في الغرب الكافر والشرق الوثني وهي ديار حرب جميعا، هل يشكل هؤلاء جزءا من المجتمع الإسلامي المقصود؟ أم إنهم مواطنون يعيشون في أوطان؟ أم إنهم يعيشون جاليات بدون هوية؟ وهل ستنطبق قواعد المجتمع المسلم كالبيعة والشورى على تلك الجاليات؟ هل يذهبون للتصويت في بلادهم حسب الأنظمة المعمول بها في الديمقراطية، أم سيعطون الرئيس بوش البيعة؟ أم تراهم سيبايعون ابن عاكف وابن قرضاوي بغض النظر عن الأوطان؟ أم يجب عليهم الانتظار حتى يقوم سدنة الإسلام بالاستقرار على تسمية الخليفة المقبل للمجتمع الإسلامي وساعتها يبايعونه؟ أم تراهم سيختارون فيما بينهم من يبايعونه ويعطونه الولاء؟ أم سيختارون هاني السباعي أو أبا حمزة المصري أو أبا قتادة أو أبا فصادة؟ أم سيعيشون في الغرب ويعطون ولاءهم لخليفة من بلادنا جاري البحث عنه؟ وعلينا انتظار اتفاق الفرق الإسلامية ربما ألف وأربعمائة عام أخرى ضائعة كالتي ضاعت. كل هذه الأسئلة بلا إجابة لأن الألفاظ بلا معنى وبلا ضابط، كلها كلام نظري لطيف لا علاقة له بواقع، كلها خيلاء وشعر وفخر بمجتمع غير موجود ولم يوجد قط.
البيعة كالتزام بالإسلام
هنا يتضح لنا أن الدولة المطلوبة باسم البيعة هي دولة الاستبداد عينه، إنهم من الآن وقبل أن يستبدوا بنا مرة أخرى، يقومون بتقديس وسائل الاستبداد وأدواته ليسلم بها المسلمون بحسبانها دينا وإسلاما. ألا ترونه يقول إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع، لا بل وهي «أداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»!
ألا ترون معي أن البيعة لا يصح أن تكون أداة إعلان الالتزام بالمنهج والشريعة بمنطق الإسلام نفسه؟ لأن إشهار الإسلام والنطق بالشهادتين يحمل ذلك الالتزام ويتضمنه؛ فهو جزء في مبناه، بمجرد الدخول في الإسلام يعني الالتزام بمنهجه وشريعته وأحكامه. والحاجة لبيعة لتحقيق ذلك الالتزام بالإسلام يعني شعورهم أن هناك من سيرفض حكمهم ودولتهم، وهنا يتم اعتبار هذه المعارضة عدم التزام بالإسلام؛ لذلك يكون النكوص عن البيعة نكوصا عن الإسلام.
نامعلوم صفحہ