أحس بالنار تلسع إبهامه وبقية أصابعه، ابتسم والتقط سكينا من فوق عارضة الخشب، وبدأ في قشط القشر الأسود من اليام المحمرة، فتلوثت يداه وراح ينفض ما علق بهما، ثم قام بتقطيع اليام ووضعها داخل الطاسة الخشبية القريبة منه، وانتظر حتى تبرد.
حين بدأ في الأكل راحت «أوبياجيلي» تغني مع نفسها بصوت منخفض؛ فقد كانت تعرف أن أباها عند ظهور كل قمر جديد لا يأكل أبدا حتى ولو فتاتة صغيرة من اليام دون زيت النخيل، لكنها لم تتوقف عن الأمل.
تناول طعامه في صمت ثم ابتعد عن النار واستند بظهره على الحائط، صوب نظراته نحو الخارج. وكعادته في مثل هذه المناسبات كان يفكر كثيرا، وربما كانت أشياء محددة تلك التي ترهق تفكيره. كانت «أوبياجيلي» قد عادت إلى كوخ أمها فور تناوله آخر قطعة من الطعام. وجاء «وافو» بإناء الكالاباش ذي الماء البارد فشرب «إيزولو» حتى الارتواء، ووضع «وافو» الطاسة الخشبية وإناء الكالاباش بعيدا، ثم أعاد السكين إلى مكانها فوق العارضة الخشبية.
كانت العصا المسطحة خلف الحائط الرئيسي عند المدخل يبلغ طولها ذراع رجل ولها قرن حيوان طويل مثل قبضة الإنسان. حمل «إيزولو» العصا بعد أن نهض من فوق جلد الماعز ومضى خارجا.
بالنظر إلى العصا لم يجد «وافو» صعوبة في التعرف عليها. إنها عصاه التي صنعت من أجله عندما كانت تصيبه الرجفة.
جلس «إيزولو» ممددا كلتا قدميه إلى الأمام مثل امرأة، وأمسك بإحدى نهايات العصا بيده اليمنى، وضرب بنهايتها الأخرى الأرض كي يحدد مكان صلاته: «أولو»، أشكرك يا إلهي أنك جعلتني أرى قمرا جديدا، ربما أراه مرة ثانية بل أكثر من مرة ثانية، فيكون هذا البيت العائلي صحيا ومتيسرا. وبما أن هذا هو قمر الزرع فربما تنبت المحاصيل في القرى الست وربما لا نقطع الساق بالفأس، «أولو» .. دع زوجاتنا تحمل لنا أطفالا من الذكور ليزيد عددنا في التعداد القادم للقرى، ونقدم لك عندئذ بقرة كقربان وليس دجاجة كما فعلنا في عيد اليام الأخير. دع القمر يا إلهي يظهر هناك عند أولئك القوم الذين يعيشون عند ضفة النهر وفي الغابات.
ترك العصا وراءه ومسح فمه بظهر يده ثم عاد إلى مكانه. كان «إيزولو» في كل صلواته من أجل «أوموارو» يمتلئ مرارة، ويجتاحه غضب كبير كلما تذكر ما فعله أعداؤه من تقسيم للقرى الست .. لماذا؟ ولأي سبب؟ هل لأنه قال الحقيقة قبل أن ينطق بها الرجل الأبيض؟ .. ولكن كيف استطاع الرجل الذي أمسك عصا «أولو» المقدسة أن يتحدث بشيء يعرف أنه مجرد أكذوبة؟ كيف فشل في سرد الحكاية كما سمعها من والده؟ حتى «وينتابوتا» ذلك الرجل الأبيض - الذي لا يعرف أحد من أي أرض - جاء وقال إن «إيزولو» هو الشاهد الوحيد، وكانت قولته تلك هي ما أثارت غضب أعدائه. لقد غضبوا لأن رجلا أبيض لا يعرف أحد شيئا عن أمه أو أبيه هو الذي أخبرهم بالحقيقة التي يعرفونها ويكرهون سماعها، حتى إنهم راحوا يرددون: إن في ذلك نهاية العالم.
اقتحمت أصوات النساء أفكار «إيزولو» وكان الظلام منتشرا بالخارج، فلم يستطع رؤيتهن رغم ما تركه القمر الجديد من ضياء قبل أن يعاود الاختفاء. كانت زيارة القمر قد أضفت نوعا من الطمأنينة فلم يكن الظلام كما كان في الأيام الأخيرة.
سمع النساء وهن يزعقن واحدة وراء الأخرى: «إيزولو» .. «إيزولو».
استطاع رؤية ظلالهن وبادلهن التحية، ثم غادرن الكوخ، واتجهن يمينا إلى قطعة الأرض الداخلية من المدخل الوحيد عبر الباب العالي المنقوش باللون الأحمر. - أليس هؤلاء هم الناس الذين رأيتهم يندفعون نحو الجدول قبل غروب الشمس؟
نامعلوم صفحہ