أحدهما: الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات متنوعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجا، وكان لا بد من عمل على الصعيد العلمي يؤكد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والستة وكان لابد من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الاطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنة بروح المجتهد البصير والممارس الذكي الذي يسطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كل ما يستجد له من حالات كان لابد إذن من تأصيل للشخصية الاسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد وهذا ما قام به الامام علي بن الحسين عليه السلام فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله يحدث الناس بصنوف المعرفة الاسلامية من تفسير وحديث وفقه ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرن النابهين منهم على التفقه والاستنباط وقد تخرج من هذه الحلقة عدد مهم من فقهاء المسلمين وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأبعد ذلك من مدارس الفقه والاساس لحركته الناشطة. وقد استقطب الامام عن هذا الطريق الجمهور الاعظم من القراء وحملة الكتاب والسنة حتى قال سعيد بن المسيب «إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب».
وأما الخطر الاخر: فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الاسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل، لان موجات الرخاء تعرض أي مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذات الدنيا الاسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب باقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الاخر وبما تضعه هذه الصلة أمام الانسان من أهداف كبيرة وهذا ما وقع فعلا وتكفي نظرة واحدة في كتاب الاغاني لابي الفرج الاصبهاني ليتضح الحال.
وقد أحس الامام علي بن الحسين بهذا الخطر وبدأ بعلاجه واتخذ من الدعاء أساسا لهذا العلاج. وكانت الصحيفة السجادية التي بين يديك من نتائج ذلك. فقد استطاع هذا الامام العظيم بما أوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الانسان بربه ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات.
أقول قد استطاع الامام علي بن الحسين بما أوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جوا روحيا في المجتمع الاسلامي يساهم في تثبيت الانسان المسلم عندما تعصف به المغريات وشده إلى ربه حينما تجره الارض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية لكي يظل أمينا عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أمينا عليها وهو يشد حجر المجاعة على بطنه.
وقد جاء في سيرة الامام أنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظهم ويزهدهم في الدنيا ويرعبهم في أعمال الاخرة ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنية من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثل العبودية المخلصة لله سبحانه وحده لا شريك له.
وهكذا نعرف أن الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الامام إضافة إلى كونها تراثا ربانيا فرايدا يظل على مر الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب وتظل الانسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمدي العلوي وتزداد حاجة كلما ازداد الشيطان إغراء والدنيا فتنة.
فسلام على إمامنا زين العابدين يوم ولد ويوم أدى رسالته ويوم مات ويوم يبعث حيا.
النجف الاشرف
محمد باقر الصدر
صفحہ 3