هذي خطوب ليس يحملها
جلد وينفد عندها الصبر
بطرس غالي في موكبه الأخير
مشى بعاصمة مصر يوم الثلاثاء 22 فبراير سنة 1910 مشهد لم تشهد مثله، ذاك مشهد بطرس غالي العظيم، من كرسي الرئاسة إلى مضجع الأبد. لله درك من ظاعن.
ألقى يراعه الذي سيره منذ كان في تدبير مهام القطر، وطوى صحائف نمقها بما أملته عليه مصلحة البلاد، وقام مسرعا لداعي حمامه. كذلك كان يسرع إلى داعي نخوته. لك الله من شهيد قوم مضرجا بدمه وكأنه مضمخ بطيبه. كرمت حيا وميتا، فما أبكيت عينا إلا يوم مصرعك، ولا أشكيت لسانا إلا يوم فراقك. إن أفصح الأفواه شكاية من غدر لهي جراحاتك الدامية. كل قطرة من ذلك الدم البريء عند الله أجرها، وعلى الإنسانية والعصر العشرين عارها.
قال النعاة: قتل أحد الباغين بطرس باشا غالي، قلت: لقد قتل مصر.
ما ماد الهرمان ولا صاح بالويل أبو الهول، ولا غيض النيل ولا خسف الصعيد، ولكن قال عظماء الغرب: مصر في حالة يخشى على الأمن منها.
يا ويح هذه القلوب ما أقساها! تسرع إليها عوامل مختلفة من الشر فتتهيأ لقبولها، وإذا سرت نحوها نفحة خير قويت عليها مغاليقها. وكم من حياة طيبة هي في قبضة خبيث يختطفها. وحين تجتمع على البث قلوب تساوت في الحرقة، وتعلو النوحات من جوانب بيت أزمع غاليه، ويهال التراب على جسد نشأ في النعمة، وأقل نفسا لم تشق نفسا ماذا يستشعر أهل الاعتداء.
تهادى نعش بطرس الجليل بين عباد الله، من أجنبي ومصري ومسيحي ومسلم وموسوي، وكل امرئ أبصر ذلك التابوت علم أن فيه قتيلا شهيدا مظلوما. لا الجياد المطهمة ولا عربة المدفع ولا أكاليل الزهور ولا الأعلام ولا الجنود ولا السراة ولا الأقيال لتخفف عن النفوس هول ما راعها. تلك زخارف زادت المصاب ألما وزادته على حق عظما.
بالشرق داء عقام، لن يستأصل أو يميد سرواته ويخلي دوره ويطحطح الشم من ذراه. مبيد أهل القرون الأولى مفيض بحار الدماء، مفرق بين الآلاف مزعزع أركان الممالك.
نامعلوم صفحہ