فبقيت كمن يسمع رطانة لا يفهمها، والشيخ محملق باصرتيه كأنه يحسبني جننت، فقلت: هون عليك أنا مريض تعاودني الحمى إغبابا، وانسللت من جانب الشيخ لأنظر ما سيقع، فإذا سمو الأمير نزل من قصر عابدين يماشيه قائد جيش الاحتلال ووراءه نظاره الكرام، فساروا حتى بلغوا موضع العلمين، فصعد قائد الجيش المحتل على المنبر وخطب الحاضرين فقال:
نحن الآن يتنازع قلوبنا عاملان؛ واحد للفرح وآخر للحزن، فأما عامل الفرح فبأن أثمرت مساعينا لإصلاح مصر حتى لتستطيع أن تعيش وحدها، وأما عامل الترح فبأن سنودع وادي النيل وأبناءه بعد أن طاب لنا المقام واستحكمت في قلوبنا الألفة، ألا وإن كل عارية يوما ستسترد، وما بعد المقام إلا الزماع، على أن لنا في مودات هذه القلوب لذكرى نستعيد بها عذب ما فات، وإني ومن أقود من جنود بريطانيا العظمى لنسلم على أمير مصر المعظم سلام وداع، ونهدي مثله لبني مصر المحبين، فليحي سلطان العثمانيين فليحي ملك بريطانيا فليحي أمير مصر.
فما أتم القائد خطبته إلا عزفت الموسيقى العسكرية بالألحان الملكية الثلاثة، ثم نزل وصافح أمير البلاد وركب عربته وإلى يساره ناظر النظار بالنيابة عن سمو الأمير، وسارت الجنود تؤم المحطة، فرأيت ما لم أره وجعلت أتبع هذه الجمع الذي تلمع في جوانبه الأسنة وتخفق في خلال عثيره الأعلام، وقلت الآن ننظر ما سيكون من أمر الفائزين بهذا اليوم المحجل الأغر.
فإذا شرذمات من أهل الضوضاء وسكان الأعشاش، قد عصبوا رءوسهم بمناديل حمر وبأيديهم العصي، تتقدمهم عربات فيها رجل كالخيار الشنبر، له شارب أسود يخاله على البعد رائيه غمد خنجر، على رأسه طربوش أعوج، وإلى جانبه آخر مثله ولكنه منتفخ البطن كالبرنية، وفي يده شيء يشير به لم أتبينه جيدا وأحسبه سوطا، وأمام العربة بين هؤلاء الجموع رجل أسود الشاربين، طويل القامة، معمم مكمم، يحمل على كتفه مشعلة مغطاة «بكوفية» من كوفيات المحلة الكبرى، وقد جمح أيما جماح، فكان ينظر يمنة ويسرة ويصيح بملء فيه قائلا: «ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي.» فتأملته فإذا هو أحد مشاهير الكتاب والخطباء عزيز القدر بين أشياعه، فتركته وحبله على غاربه وقلت أنظر إلى غيره، فسمعت أحد من في العربة يقول لجماعة من الماشين: إذا ركب الجنود القطار وسار بهم حتى غاب عن الأبصار، تذهبون من ساعتكم في جماعة من الشداد إلى إدارة كذا، فتهدمونها على من فيها ثم تفعلون ذلك بإدارة كذا، ثم استعلموا لنا عن هذا الخبيث الملعون الذي يسمي نفسه زهيرا، فاجعلوا في عنقه حبلا وجروه على وجهه ثم ألقوا به في النيل. فهممت أن أصيح بذلك المتكلم وأقول له غريمك قريب منك يسمع كلامك وها هو أمامك، ولكن أمسك بذراعي رجل، فالتفت فإذا هو صاحبنا «نقاد»، وكأنه عرف ما أريد فقادني إلى خارج تلك الجموع، فقلت: أهلا وسهلا بالصديق، ما جاء بك إلى هذا المزدحم؟ - كنت مارا في شغل لي، فلما رأيتك أتيت لأخرج بك.
فأخبرته بما سمعت، وقلت: يخيل إلي أن هذا الرجل وصاحبيه سيخطبون فهلم بنا نسمع رطانتهم، فقال نقاد: أما وعيد القوم فكما قال صاحبك أحد الشعراء الغابرين:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا
أبشر بطول سلامة يا مربع
وأما خطبهم فقد سئمناها ولا حاجة بنا إلى سماعها حين تستعاد، ولكني أماشيك إلى ميدان الأوبرا على أن تعود معي، قلت: لك علي ذلك. فسرنا، فلما بلغنا الميدان إذا بتمثال البطل المغوار إبراهيم باشا وثب بجواده إلى الأرض ووقف أمام الجنرال، ثم أشار بيده إشارة استوقفت تلك الجموع، فاشرأبت الأعناق وجالت فيه الأبصار، ثم غلبت سورته على النفوس واستولت هيبته على الأفئدة، وهو كما هو في تمثاله مشيرا بيمناه وعيناه يتطاير منهما الشرر، فقال بصوت يملأ الصدور:
قفوا. قفوا. مثل هذا الجمع من أهل وطني قدته حتى وطأت بلادا لها علي حق السمع والطاعة، ومصر كالسبية بين المتقاتلين، فلما أتيت بمهرها وقد خطبها لي عدل أبي، ورددت دونها أكف المتطاولين، وأقمت لها طول مجرى النيل مهرجانا من العز ما فاته إلا عز أبناء الشمس، وعهدي وهي في عزتها يكب لديها الجبابرة على أذقانهم، وانتقلت إلى طيب من أخلافي، هب أناس يغالبون الطيب حتى صار ما صار، وحمي الحمى بهذه البواتر، ونامت الأعين في أمن هاته الأعلام، وتريدون اليوم أن تخرجوا من مصر ليصبح عاليها سافلها وليجري هذا النيل أحمر قانيا. كلا ثم كلا. لأصيحن صيحة تخرق حجب الأزل وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدا على العذارى في خدورهن وليأخذن بغدائرهن، وليقومن بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.
فما بلغ هذا الموضع من خطبته إلا بدأت شئون عينه تخضل تلك اللحية التي طيبها العثير في مواقف الحفاظ، فقلت: يا لك من يوم ما حسبتني أعيش إليه.
نامعلوم صفحہ