1
ولا بدع في هذا الرأي؛ فقد حدثنا التاريخ بأن الملك حموربي - العربي النجار في مذهب بعض المحققين - كان يذيع أوامر عماله وموظفي مملكته في الأقاليم بأن يحضروا إلى بابل احتفاء بموسم جز الغنم، وهو من أعيادهم، وصدف في إحدى السنوات أن الشهر القمري لم يوافق الموعد الشمسي المعين لجز الغنم، فأذاع الملك في ممثليه كلهم موعزا إليهم بأن يسموا الشهر المذكور أيلول الثاني، وهذا نوع من المراسيم الملكية قد نشرت عندئذ في لون من «الوقائع العراقية».
وإذا كان عماد العمل الصحفي في هذا العصر الدعاية للسياسات والأفكار والمبادئ، فقد وجدت في ودائع خزانة الإمبراطور آشور بانيبال في نينوى سجلات مفصلة ومنسقة بحسب تواريخها وحوادثها، ولا سيما ما اتصل بحروب الملوك وفتوحهم وما شيدوه وعمروه. ويرى المؤرخ بريستد أن معظم تلك الأخبار - كأكثر الأخبار الرسمية - كان يقصد بها إلى نشر دعوة أو ترويج لمبدأ، بحيث يفهم معاصروهم أن ليس هناك قوة تستطيع أن تقارعهم.
وهذا يقر في أذهاننا أن سكان العراق القدماء كانت لهم صحافتهم على تلك الطريقة. ونجد صحيفة من هذه الصحف الخالدة تحوي جانبا من «قصة الطوفان» مكتوبة على رقم الطين المشوي في المتحف البريطاني بلندن. وقد أخذت من المكتبة الإمبراطورية المشيدة قبل ما يزيد على الألفين والخمسمائة سنة.
ومن أحدث ما كشفت عنه مديرية الآثار في بغداد في أيامنا، وهي تنقب في أطلال عقر قوف، رقم من الطين المشوي مقسم إلى اثني عشر جدولا يبين أسماء الأشهر البابلية الاثني عشر مبتدئا بنيسان (أبريل) معرفا كل يوم من حيث السعد والنحس وما يجب على الشعب عمله، وهذا أشبه ما يكون بما تذيعه الصحف في هذه الأعوام من بلاغات وزراء الداخلية في تطبيق القوانين والمراسيم المختصة بالأمن وسلامة الدولة، أو بيانات وزراء الاقتصاد والتموين حول المواد المعاشية وبيعها وشرائها.
وللآشوريين في هذه الصحافة الحجرية أو الطينية سبق آخر، فهم أول من ابتدع الصحافة المصورة، فكانوا يرقمون حوادث انتصاراتهم وبجانب الرقم يصورون بالألوان صور الأسرى من ملوك ورعايا، بينها بعض مشاهد تصور التمثيل بهم، ويعرضونها في قصورهم وأبهائهم العامة وشوارعهم الكبرى، ويلقى المرء نماذج من هذه الرقم المصورة في متحفي بغداد ولندن.
وقد اجتازت الصحافة أطوارا قبل اختراع المطبعة، حيث كانت تلقى الأخبار والآراء مشافهة ثم طفق أصحابها ينسخون هذه الأحاديث، وهي مرحلة الصحف الخطية في تاريخ الصناعة، وللشعوب العربية ومنها العراق تاريخ طويل عريض في الرواية وتناقل الأشعار.
كما أن الصحافة السياسية والمصاولات الحزبية في أنهر الجرائد في هذا العصر قد تجسمت بشكل بارز فيما هدرت به ألسنة الشعراء من المفاخرة والمنابزة والهجاء والمنافحة عن القبائل والأسر، بل هناك من استخدم إنشاد الشعر العربي للإعلان التجاري.
وإذا كانت الصحافة الخطية قد شاعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر فصناعة النسخ والوراقة قد ازدهرت كل الازدهار في العصور الوسطى في البصرة والكوفة وبغداد، وتعاطاها نبغاء ذوو مواهب فياضة، أذكر منهم واحدا هو أبو حيان التوحيدي. وأبو حيان لم يتفوق في نسخ الصحف فحسب، بل يصفه تاريخ الأدب على رأس الكتاب في أسلوب ابتكره وهو من صميم الفنون الصحفية؛ فقد تفرد بإبداعه في الصور القلمية للشخصيات التي عرفها وعاشرها، وفي وصف الحلقات والأندية في مجتمعه.
هذا استطراد لا مناص منه عند التطرق إلى الصحافة في التاريخ. وها نحن أولاء ندخل في موضوع الصحافة بمعناها الحديث، والتي عرفت بعد اختراع المطبعة.
نامعلوم صفحہ