يا ممثل الدولة الإنكليزية، أتعزي المقام الروحاني ومنك الرزية، أتعزيه بقولك إن المقام يستوجب التعزية والتسليه لا التبريك والتهنئة في هذه الأيام التي انتابت العراق وسائر الممالك، فيا حضرة الحاكم العام إن ما نزل بالأمة فمن المصائب التي هيأت أنت أسبابها، فالأمة بريئة وأنت المذنب، ألست الذي سحقت الحقوق ودست القانون فخنقت الأمة بما أعددته من الجيش المجهز بالنار ووسائل الخراب والدمار، فأجهزت به على النساء والأطفال، على الشيوخ والكهول، ولوثت البلاد الطاهرة بالشرور، كل ذلك لأن الأمة أبت أن تعترف بوصايتكم، أبت أن تعيش في ظل حمايتكم؟ وأغرب من ذلك يا حضرة الحاكم أنك نسبت المصائب إلى فقيد الإسلام بقولك: وكان هذا من آراء سلفكم، آل الله. أي الاعتداءات تغفرها لك الأمة؟ أتعزيتك لشيخ الإسلام بما أنزلته من الرزايا على العرب والإسلام؟ أم نسبتك المصائب إلى الفقيد الذي طالما حذرك من الغرور وألفتك إلى عواقب الأمور، ونبهك إلى نتائج الاستهتار في ممانعة الأمة المظلومة، وعدم تمكينها من حقوقها المهضومة، وإعطائها الاستقلال التام، وكم أراك في كتابه الأبيض فجر هذا اليوم الأسود؟
والله يا حضرة الحاكم العام! كيف تطاولت إلى ذلك المقام فتحاملت على عصمته وتجاوزت على كرامته غاضا طرفك عما تركته في مهج المسلمين وأحشاء العراقيين من الجروح التي هيهات أن تلتئم، ألم يكفك إذ قتلت نفسه الكريمة بجرائر جيشك وجرائم أفعالك حتى بريت سهام تهمك إلى نزاهته، بهذا تريد أن تمكن صداقتك مع الأمة، أهذه هي السياسة الرشيدة التي تنسب إلى الفقيد مصائب أحدثها عقوقك وغرورك؟ أهذا هو السلوك وأنت مع هذا تقول في كتابك: «إنه - أي الفقيد - عبر في إحدى مفاوضاته أنه يريد الصلح بين الحكومة والملة واجتناب سفك الدماء وإزهاق النفوس.» فما هذا التناقض الغريب؟ نعم إنه طيب مثواه أرادك أن تلين فاستعصمت، وسألك أن تضع حدا للظلم والاعتداء بإعطاء الأمة الاستقلال فأغضيت وثابرت على إنزال العقاب والعذاب والأمة ساكتة، وأنت لم تسمع نصائح الفقيد ومواعظه البليغة، فكيف تريد أن تبرر أعمالك؟
ثم بعد ذلك تقول: «إن الحكومة كما هو المعلوم في أقطار العالم قد اعتمدت دائما على الأركان الثلاثة وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني.» فحبذا هذه الأركان فإنها شعار الدولة الحرة، ولو صح باعتمادك عليها لما فر العراق من وحشيتك وفر أبناؤه من وجه مظالمك، قد تظن بأن حكومتك الموقرة شادت على هذه الدعائم فخامتها، ولكنك هدمتها بمقالع جورك وقسوتك وتعصبك، فويل لكم يا ضباط الاحتلال.
أما الرحمة، وأينها منك يا قساة الرحمة! فضيلة تنحت عن قلوبكم وابتعدت عن ضمائركم، الرحمة إحدى مميزات الإنسانية التي لا تعرفون معناها ، هي اسم عندكم ومسماها ليس عندكم، وتشهد على ذلك قلوبكم بالقسوة ونياتكم بطحن العالم، فقد خلقتم من بعضه تاريخا لشدتكم مكتوبا بالدماء المراقة «في الرميثة والحمزة» وفي عرائس الفقراء، فكم بيت أوقدتم على من فيه النار فأصبح الرضيع ملتهبا، والشيخ الفاني بجنب الأعمى وقودا لنيرانكم، لا يتميزون إلا بعد أن نجمع أوصالهم التي وزعتها سيوفكم؟ وعلى هذا الحال استمرت رحمتكم «في الجربوعية وبابل» حرقا تستغيث منه النار وقتلا أظهرتم فيه ضروب التمثيل، أهذي هي الرحمة التي بنيتم عليها دولتكم، وأقمتم عليها سياستكم؟ إذن صفوا لنا قسوتكم حتى نهيئ للعراق على حدوده محلا في الجو تجاور به النسور، فإنها أرحم منكم وأرأف! هل نقابل بين رحمتنا ورحمتكم، فهي عندكم تبعيد الأبرياء من العلماء وأولاد الفقراء والزعماء، وتعذيب المنفيين، والأسراء يئنون تحت القيود الثقيلة والأغلال المؤثرة، قيود لا تصبر عليها أعناق الفهود. أما عندنا فلطف بالأسير وبر به، ونظر إلى الأجنبي ملؤه العطف فنتفقد شئونه ونرعى أحواله ونسهر لترويحه ونحرص على حياته، فالأسير عندنا غير أسير، والأجنبي كالوطني نساويه في الحقوق ونواسيه في كل شيء، أخلاق أخذناها من شريعتنا وفضائل تلقيناها من مدنيتنا، فأين مدنيتكم يا أدعياء التمدن ها فانظروا إلى رحمة رجالنا وكبارنا، واقرءوا رسائل علمائنا في الرفق بأسرائكم، والرحمة بمرضاكم، انظروا كيف أوكل المقام الروحاني أمره إلى من لزمه بذلك من المشاهير، فكتب إليه الرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليك وثناء على إخلاصك، وبعد؛ فغير خفي على نباهتك أن للأسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية، فالعناية بهم فرض، والتوجه إلى إكرامهم حتم، وإني أوصيك أطال الله حياتك بتعهدهم على الاتصال، وتفقد أحوال صحتهم ومعاشهم، ما داموا وديعة مقدسة وأمانة محترمة، فيلزمك البذل لهم والتوفير عليهم، ويجب تصديك لتحقيق راحتهم أكثر من الأيام الماضية، وإني قوي الأمل بأنك تنشط إلى هذا التكليف؛ لأنه شرعي مدني إنساني، فواظب على الإنفاق عليهم حتى يتعين إلى نفقاتهم مورد خاص؛ فقد اعتمدتك وأوكلت ذلك إلى عهدتك وألزمتك به ولا عذر لك، ودم مؤيدا .
شيخ الشريعة الأصبهاني
هذا مثال صغير من رحمتنا، فهل أظهرتم لنا شيئا من رحمتكم؟ نعم كفى باستمراركم على الفتك بالأمة وغصب حقوقها الطبيعية شاهدا على رحمتكم وصدق لهجتكم.
وأما عدلكم فقد تبيناه منذ تسلمتم أزمة البلاد التي أصبحت تئن من ظلمكم، فيا حضرة الحاكم العام، لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة التي أهلكت الحرث والنسل وأتت على الأخضر واليابس، فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر، واستخرجتم المخ من العظم وضاعفتم الخراج أضعافا على الزراع فأصبحوا يسألون الناس إلحافا، وأنتم تسألونهم فوق الجهد وتكلفون نفوسهم فوق الوسع، أهذا عدلكم؟ نعم إن السجون والمنافي والديوان العرقي شهود على عدلكم وبراهين على صدقكم، فأين العدل الذي تزعمون؟ أوفيتم بوعد أو ثبتم على عهد؟ أين البيانات الرسمية؟ أين القطوع الدولية؟ أين عهود الطائف؟ أين الاستقلال؟ أين الإدارات الوطنية؟ أين منشور «مود» وأين وثائق «مكماهون»؟ أكان من العدل يا حضرة الحاكم أن تكموا الأفواه التي طالبت بالحق وتدفعوا طلاب الاستقلال إلى المنفى؟ عقاب صارم وعذاب دائم وجرائر وجرائم، ثم تريدون الالتئام مع الأمة وأنتم تريدون نفوسها للقتل وأموالها للاغتنام وأعراضها للفتك وأوطانها للاستيلاء، أهذه هي العدالة؟ سلام الله على ظلم الفراعنة.
وأما التسامح الديني أو الدعامة الثالثة التي قام عليها بناء حكومتكم فدعوى كاذبة تشهد عليها المعابد والمساجد وقبور الأئمة المقدسة، ولئن تقادم عهد حادثة النجف، فحادثة مسجد الكوفة غضبة في أول النهضة. أما صيرتم ساحته هدفا لمقذوفات الطيارات؟ أما خلطتم ترابها بلحوم المترهبين والمترهبات؟ أما داخلتم رءوس الأطفال بصدور الأمهات؟ ألم تمنعوا مجالس المواليد وسائر الشعائر؟ أكان من التسامح في الدين رمي جوامع المسلمين وحصر مجامعهم ومنع أعيادهم ومراسيمهم؟ هل الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية تسامح وتساهل؟ إذا كان هذا هو التسامح، إذن ما هي معاني التعصب الأعمى؟ تحية على غلادستون، وثناء على الحروب الصليبية.
نامعلوم صفحہ