فرجع ثانية إلى بيته ينتحب، فدخل بيته، وأغلق بابه، وافتقده النبي ﷺ فسأل عنه أبا مسعود الأنصاري، فأخبره خبره، فأرسل إليه، فقال: إن الله أنزل عليك: (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) [الحجرات: ٢] وإني أخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال النبي ﷺ: (إنك لست منهم إنك تعيش حميدًا، وتدخل الجنة شهيدًا) فكان ثابت يتوقع الشهادة في حياة النبي ﷺ: فلما توفي وارتدت العرب، وبعث أبو بكر الصديق ﵁ خالد بن الوليد إلى اليمامة، انتدب ثابت بن قيس، فعقد له أبو بكر لواء على الأنصار، ثم مع خالد إلى أهل الردة، فشهد وقعه طلحة في أصحابه، ثم شهد اليمامة، فلما رأى انكشاف المسلمين.
قال ثابت وسالم، فحفر لنفسيهما حفرتين، فقاما فيهما، مع سالم راية المهاجرين ومع ثابت راية الأنصار، حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع كانت لآبائه، فمر بها رجل من الصحابة فأخذها، فأري بلال بن رباح ثابت بن قيس في منامه، وهو يقول له: إني أوصيك بوصية إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس جاء رجل من ضاحية نجد وعليّ درعي، فأخذها فأتي بها منزله فألقى عليها برمة.
وجعل على البرمة رجلًا وخبأه في أقصى المعسكر على جانب خيامه فرس يسير في طوله، فأتى خالد بن الوليد فخبره فليبعث إلى درعي فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله ﷺ فأخبره أن علي دينٌ، وهو كذا وكذا، ولي من الدين كذا وكذا فليستقصنّ لي وليقض عني، ومبارك وسعد غلماني حران لوجه الله تعالى، فلما أصبح بلال أتى خالد فخبره الخبر فبعث خالد نفرًا إلى الدرع فوجدها.
كما قال، فلما قدم بلال المدينة صار إلى الصّديق أبي بكر فأخبره بوصية ثابت، فأجازها، فلا نعلم أحد من المسلمين أجيزت وصيته بعد موته إلى ثابت بن قيس الأنصاري رحمة الله عليه، قرئ على دار أبي عبد الله بن مقلة بعد خرابها: [البسيط]
كانوا بأنعم عيشٍ في منازلهم ... أخلا المنازلَ من سكانها البطرُ
فصحبتهم منَ الأيام داهيةُ ... صمَّاءَ عمياءَ لا تبقي ولا تذرُ
وقرئ على دار نازوك بعد خرابها: [مجزوء الكامل]
أحسبتَ أنَّ معقِّبا ... تكَ منجياكَ من حمامكَ
هذا الذي صنعت يمين ... كَ قد تصرّمَ بانصرافكَ
قيل إنّ أعرابيًا دخل على أبي عبد الله، وهو إذا ذاك وزير المهدي، وقد كان للأعرابي عليه وعد فقال: أيها الشيخ السيد إني، والله لأنسحب على كرمك، وأستوطي فراش مجدك، وأستعين على نعمك بقدرك، وقد مضى لي موعدان، فاجعل النجح ثالثا أفدك شكرا في العرب شادخ الغرّة بادي الإفصاح، فقال أبو عبد الله: يا هذا ما وعدتك تقديرًا، ولا أخرتك تقصيرًا، ولكن الأشغال تعطي، وتأخذ بأوفر الحظ مني، وأنا أبلغ لك حمد الكفاية ومنتهى الوسع بأوفر مأمول، وأحمد عاقبة، وأقرب.
فقال الأعرابي يا جلساء الصدق قد أحضر لي الجواب، فهل من معين منجد، ومساعد منشد؟، فقال بعض أحداث الكتاب لأبي عبد الله: والله أصلحك الله لقد قصدك، وما قصد، حتى أملك، حتى أجاد النظر، وآمن الخطر، وأيقن بالظفر، فحقق أمله بتهيئة التعجيل فإن الشاعر يقول: [الطويل]
إذا ما اجتلاهُ المجدُ عن وعدِ أملِ ... تبلجَ عن بيسٍ ليستكملَ الشّكرا
ولم يسلهُ مطلَ الغداة عن الذي ... يصونُ الحمدَ الموّقرَ والأجرا
فأحضر للأعرابي عشرة آلاف درهم، فقال الأعرابي للفتى: خذها، فأنت سببها، فقال الفتى: شكرك أحب إلي منها، فقال أبو عبيد الله: خذها، فقد أمرت للكاتب بمثلها، فقال الأعرابي الآن كملت النعمة، وتمت المنّة أحسن الله جزاك، وأدام نعماك.
قصد بعض الشعراء للفضل بن الربيع، فقال له قصدتك أيها الأمير بيتين من الشعر أسأل استماعهما مني، فقال له: أنشد فقال: [السريع]
صارمني النَّاس وصارمتهم ... فصرتُ أحفا من جميعِ الجهاتِ
وأنتَ لي وحدكَ من بينهم ... وقد تكلّفتَ برزقي فهاتِ
ومد يده إليه فأطلق عشرة آلاف درهم، فأخذها وانصرف. في ذم أبخر: [البسيط]
ألقى ابنُ عجلانَ خبزًا كانَ يأكلهُ ... إلى سنانيرهِ في الدّارِ من فيهِ
فشمَّمتهُ فظّنت أّنها خريت ... فأقبلت نحوهُ في التّربِ تخفيهِ
ولبعضهم في معناه: [المتقارب]
1 / 18