Safar Nama
سفر نامه
تحقیق کنندہ
د. يحيى الخشاب
ناشر
دار الكتاب الجديد
ایڈیشن نمبر
الثالثة
اشاعت کا سال
١٩٨٣
پبلشر کا مقام
بيروت
اصناف
سفر نامه نَاصِر خسرو
1 / 1
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذَا مَا يَقُول أَبُو معِين الدّين نَاصِر خسرو القبادياني الْمروزِي تَابَ الله عَنهُ كَانَت صناعتي الْإِنْشَاء وَكنت من المتصرفين فِي أَمْوَال السُّلْطَان وأعماله واشتغلت بالديوان وباشرت هَذَا الْعَمَل مُدَّة من الزَّمن وذاع صيتي بَين أقراني وَفِي ربيع الآخر سنة ٤٣٧ أَيَّام أبي سُلَيْمَان جغري بيك دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق حَاكم خُرَاسَان ذهبت من مرو فِي عمل للديوان وَنزلت فِي بنج ديه مرو الرود كَانَ ذَلِك يَوْم قرَان الرَّأْس وَالْمُشْتَرِي وَيُقَال إِن الله تَعَالَى وتقدس يستجيب فِيهِ إِلَى مَا يطْلب النَّاس من حاجات فَذَهَبت إِلَى زَاوِيَة وَصليت رَكْعَتَيْنِ ودعوته تَعَالَى وتبارك أَن ييسر لي أَمْرِي فَلَمَّا عدت لأصدقائي وأصحابي وجدت أحدهم ينشد شعرًا فارسيا فجال بخاطري أَبْيَات فكتبتها على ورقة لأعطيه إِيَّاهَا حَتَّى ينشدها فَإِذا بِهِ ينشد مَا كتبت من شعر وَلما أعْطه الورقة فتفاءلت بِهَذِهِ الْحَال وَقلت فِي نَفسِي إِن الله تَعَالَى وتبارك قد قضى حَاجَتي ثمَّ ذهبت إِلَى جزجانان فَمَكثت بهَا حوالي شهر وظللت أشْرب الْخمر
1 / 33
قَالَ النَّبِي ﷺ ﴿قُولُوا الْحق وَلَو على أَنفسكُم﴾ حَتَّى إِذا كَانَت ذَات لَيْلَة رَأَيْت فِي الْمَنَام رجلا يَقُول لي إِلَى مَتى تشرب هَذَا الشَّرَاب الَّذِي يسلب لب الرِّجَال خير لَك أَن تصحو فأجبت إِن الْحُكَمَاء لَا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئا غير هَذَا يقلل هموم الدُّنْيَا فَأجَاب إِن التسرية عَن النَّفس لَا تتأتى بفقد الشُّعُور وَالْعقل والحكيم لَا يَسْتَطِيع أَن يَقُول إِن الرجل المسلوب الْفُؤَاد يصلح هاديا للنَّاس بل يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَن يبْحَث عَمَّا يزِيد الْعقل وَالْحكمَة قلت وأنى لي هَذَا قَالَ من جد وجد ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقبْلَة وَلم يقل شَيْئا فَلَمَّا صحوت من النّوم كَانَت هَذِه الرُّؤْيَا ماثلة بأكملها أَمَامِي وَقد أثرت فِي فَقلت لنَفْسي صحوت من نوم البارحة وَيَنْبَغِي أَن أصحو من نوم أَرْبَعِينَ سنة خلت وأمعنت الْفِكر فوجدتني لن أسعد مَا لم أعدل عَن كل سلوكي
وَفِي يَوْم الْخَمِيس من جمادي الآخر سنة ٤٣٧ (٢٠ ديسمبر ١٠٤٥) منتصف شهر دي من السّنة الفارسية ٤١٠ من التَّقْوِيم اليزدجردي اغْتَسَلت وَذَهَبت إِلَى الْجَامِع فَصليت ودعوت الله ﵎ أَن يُعِيننِي على أَدَاء الْوَاجِب وعَلى ترك المنهيات والسيئات كَمَا أَمر الْحق سُبْحَانَهُ تَعَالَى
1 / 34
ثمَّ تَوَجَّهت من هُنَاكَ إِلَى شبورغان وَفِي الْمسَاء كنت فِي قَرْيَة بارياب وَمِنْهَا سرت إِلَى مرو الرود عَن طَرِيق سنكلان وطالقان فَلَمَّا بلغت مرو طلبت إعفائي مِمَّا عهد إِلَيّ من عمل وَقلت إِنِّي عازم على الْحَج ثمَّ أدّيت مَا عَليّ من حِسَاب وَتركت أَمْوَالِي عدا الْقَلِيل الضَّرُورِيّ مِنْهَا
وَفِي الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان (٦ مارس ١٠٤٦) عزمت على السّفر إِلَى نيشابور فسرت من مرو إِلَى سرخس وَهِي على ثَلَاثِينَ فرسخا مِنْهَا وَمن سرخس إِلَى نيشابور أَرْبَعُونَ فرسخا وَقد بلغتهَا يَوْم السبت الْحَادِي عشر من شَوَّال (٢٢ ابريل ١٠٤٦) وَيَوْم الْأَرْبَعَاء آخر هَذَا الشَّهْر كسفت الشَّمْس وَكَانَ الْحَاكِم حِينَئِذٍ طغرل بيك مُحَمَّد أَخُو جغري بيك وَكَانُوا يشيدون مدرسة بِقرب سوق السراجين أَمر ببنائها وَقد ذهب أثْنَاء ولَايَته لأوّل مرّة للاستيلاء على ولَايَة اصفهان
وَفِي الثَّانِي من ذِي الْقعدَة (١٢ مايو ١٠٤٦) غادرت نيشابور فِي صُحْبَة الْأُسْتَاذ الْمُوفق الَّذِي كَانَ مؤدبا للسُّلْطَان فَبَلغنَا قومس عَن طَرِيق كوان وزرت الشَّيْخ بايزيد البسطامي قدس الله روحه
وَفِي الْجُمُعَة الثَّامِن من ذِي الْقعدَة (١٨ مايو ١٠٤٦) سرت إِلَى دامغان
1 / 35
ثمَّ بلغت سمنان عَن طَرِيق آنجوري وجاشت خواران فِي غرَّة ذِي الْحجَّة سنة ٤٣٧ (٩ يونيو ١٠٤٦) وَقد مكثت هُنَاكَ زَمنا وتعرفت بِأَهْل الْعلم وَقد دلوني على رجل اسْمه عَليّ النَّسَائِيّ وَهُوَ شَاب يتَكَلَّم الفارسية بلهجة الديالمة كَانَ شعر رَأسه مُرْسلا وَكَانَ وَهُوَ يتَكَلَّم يَقُول إِنِّي قَرَأت كَذَا على الْأُسْتَاذ أبي عَليّ سينا ﵀ وَهَكَذَا سَمِعت عَنهُ لكَي أعرف أَنه تلميذ ابْن سينا وَلما ناظرته قَالَ إِنِّي قَلِيل الْمعرفَة بِكُل علم وَأحب أَن أَقرَأ مَعَك قَلِيلا فِي الْحساب فَخرجت مُتَعَجِّبا قلت مَاذَا يعلم الآخرين وَهُوَ لَا يعلم شَيْئا
وعدت من بَلخ إِلَى الرّيّ ثَلَاثمِائَة وَخمسين فرسخا وَيُقَال إِنَّه من الرّيّ إِلَى ساوه ثَلَاثُونَ فرسخا وَمن ساوه إِلَى هَمدَان كَذَلِك وَمن الرّيّ إِلَى أصفهان خَمْسُونَ فرسخا وَإِلَى آمل ثَلَاثُونَ وَبَين الرّيّ وآمل جبل دماوند وَهُوَ كالقبة وَيُسمى لواسان وَيُقَال إِن بقمته بِئْرا يسْتَخْرج مِنْهُ النوشادر وَيُقَال والكبريت أَيْضا فيصعد عَلَيْهَا رجال يحملون جُلُود الْبَقر ويملئونها بالنوشادر ثمَّ يدحرجونها من قمة الْجَبَل لتعذر إِيجَاد طَرِيق لنقلها
وَفِي الْخَامِس من محرم سنة ٤٣ ﴿١٣ يوليو ١٠٤٦) الْمُوَافق الْعَاشِر من شهر مرداد سنة ٤١٥ من تَارِيخ الْفرس تَوَجَّهت نَاحيَة قزوين فبلغت قَرْيَة قوهة وَكَانَ بهَا قحط حَتَّى بيع الْمَنّ من خبز الشّعير بِدِرْهَمَيْنِ وَقد غادرتها فِي التَّاسِع من محرم (١٧ يوليو) فبلغت قزوين وَهِي آهلة بالحدائق الَّتِي لَا تحدها أسوار أَو أشواك فَلَا يحول دون دُخُولهَا عائق رَأَيْت قزوين مَدِينَة عَظِيمَة ذَات حصن مكين عَلَيْهِ شرفات وَبهَا أسواق جميلَة إِلَّا أَن المَاء بهَا قَلِيل وَهُوَ يجْرِي فِي قنوات تَحت الأَرْض وَكَانَ حاكمها رجلا من العلويين ويشتغل مُعظم صناعها بصناعة الأحذية
وَفِي الثَّانِي عشر من محرم سنة ٤٣ ﴿٢٠ يوليو ١٠٤٦) غادرت قزوين عَن طَرِيق بيل وقبان وهما من ضواحيها وسرت إِلَى قَرْيَة تسمى خرزويل
1 / 36
كَانَ مَعنا أَنا وَأخي وَغُلَام هندي كَانَ يصحبنا زَاد قَلِيل فَذهب أخي للقرية ليَشْتَرِي شَيْئا من الْبَقَّال فَقَالَ لَهُ أحدهم مَاذَا تُرِيدُ أَنا الْبَقَّال فَقلت كل مَا عنْدك يناسبنا فَإنَّا غرباء وعابرو سَبِيل فَقَالَ لَيْسَ عِنْدِي شَيْء أبدا وَبعد ذَلِك كنت أَقُول إِنَّه بقال خرزويل عَن كل شخص فِي أَي مَكَان يَقُول كلَاما من هَذَا النَّوْع
بعد مغادرة هَذِه الْقرْيَة جزنا منحدرا صعبا وَبعد مسيرَة ثَلَاثَة فراسخ بلغنَا قَرْيَة تسمى الْخَيْر من أَعمال طارم كَانَ جوها حارا وَبهَا شجر كثير من الرُّمَّان والتين ومعظمه بري وَمن هُنَاكَ اجتزنا نَهرا يُسمى شاه رَود عَلَيْهِ قَرْيَة تسمى خندان تجبى فِيهَا المكوس من قبل أَمِير الْأُمَرَاء وَهُوَ من مُلُوك الديلم وَحين يخرج النَّهر مِنْهَا يلتقي بنهر آخر اسْمه سبيدرود ثمَّ يدْخل النهران وَاديا شَرْقي جبال جيلان ويمر النَّهر بجيلان ثمَّ يصب فِي بَحر آبسكون بَحر قزوين وَيُقَال إِن ألفا وَأَرْبَعمِائَة نهر تصب فِي هَذَا الْبَحْر الَّذِي يُقَال إِن محيطه ألف وَمِائَتَا فَرسَخ وَإِن فِي وَسطه جزائر آهلة بالسكان وَقد سَمِعت هَذَا من كثرين
والآن أَعُود إِلَى رحلتي وَمَا كَانَ فِيهَا
وَمن خندان إِلَى شميران ثَلَاثَة فراسخ من صحراء صخرية كلهَا وشميران قَصَبَة ولَايَة طارم وعَلى حافة الْمَدِينَة قلعة مُرْتَفعَة مشيدة على صَخْر صلد محاطة بِثَلَاثَة أسوار وَقد حفرت فِي وَسطهَا قناة تجْرِي حَتَّى شاطىء النَّهر وَمِنْهَا يستخرجون المَاء ويحملونه إِلَى القلعة وَيُقِيم بهَا ألف رجل مُخْتَار من أَبنَاء عُظَمَاء الْولَايَة وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يضل أَو يثور وَيُقَال إِن لهَذَا الْأَمِير قلاعا كَثِيرَة فِي ولَايَة الديلم وَإِن الْعدْل والأمن مستتبان بهَا فَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يغتصب شَيْئا من غَيره بل إِن النَّاس هُنَاكَ يدْخلُونَ مَسْجِد الْجُمُعَة ويتركون أحذيتهم خَارِجَة فَلَا يَأْخُذهَا أحد وَيكْتب هَذَا الْأَمِير اسْمه هَكَذَا مرزبان الديلم جيل جيلان أَبُو صَالح
1 / 37
مولي أَمِير الْمُؤمنِينَ واسْمه جستان إِبْرَاهِيم وَقد رَأَيْت فِي شميران رجلا طيبا من دربند اسْمه أَبُو الْفضل خَليفَة بن عَليّ الفيلسوف كَانَ رجلا فَاضلا أضافنا وَأَكْرمنَا وَقد تناظرنا مَعًا واتصلت بَيْننَا الصداقة سَأَلَني علام عزمت فَقلت أَنِّي أنوي الْحَج قَالَ أُرِيد أَن تمر بِنَا فِي عودتك حَتَّى أَرَاك
وَفِي السَّادِس وَالْعِشْرين من محرم (٣ أغسطس ١٠٤٦) غادرت شميران وَفِي الرَّابِع عشر من صفر (٢١ أغسطس) بلغت مَدِينَة سراب وغادرتها فِي السَّادِس عشر (٢٣ أغسطس) ثمَّ مَرَرْت بِسَعِيد آباد وَبَلغت تبريز فِي عشْرين صفر ٤٣ ﴿٢٧ أغسطس ١٠٤٦) وَكَانَ ذَلِك فِي الْخَامِس من شهر يور الشَّهْر الْقَدِيم وتبريز قَصَبَة ولَايَة آذربيجان وَهِي مَدِينَة عامرة وَقد قست طولهَا وعرضها فَكَانَ كل مِنْهُمَا الْفَا وَأَرْبَعمِائَة قدم وَكَانَ ملك ولَايَة آذربيجان يذكر هَكَذَا فِي الْخطْبَة الْأَمِير الْأَجَل سيف الدولة وَشرف الْملَّة أَبُو مَنْصُور وهسودان بن مُحَمَّد مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وحكوا لي أَنه فِي لَيْلَة الْخَمِيس السَّابِع عشر من ربيع الأول ٤٣٤ (٥ ديسمبر ١٠٤٢) فِي الْأَيَّام المسترقة بعد الْعشَاء زلزلت الأَرْض فخرب جُزْء من الْمَدِينَة وَلم يصب الْجُزْء الآخر بِسوء وَيُقَال إِنَّه هلك فِيهَا حِينَئِذٍ أَرْبَعُونَ ألف نسمَة وَرَأَيْت فِي تبريز شَاعِرًا اسْمه قطران يَقُول شعر
1 / 38
جميلا وَلكنه لم يكن يجيد الفارسية وَقد زارني وَمَعَهُ ديواني منجيك والدقيقي وَقَرَأَ عَليّ مِنْهُمَا وسألني عَمَّا أشكل عَلَيْهِ من الْمعَانِي فَكنت أُجِيبهُ وَهُوَ يكْتب مَا أَقُول ثمَّ تلى عَليّ شَيْئا من أشعاره
فِي الرَّابِع عشر من ربيع الأول (١٩ سبتمبر) غادرت تبريز عَن طَرِيق مرند مَعَ جمَاعَة من جَيش الْأَمِير وهسودان فسرنا حَتَّى بلغنَا خوى وَمن هُنَاكَ سرنا إِلَى بر كري بِصُحْبَة رَسُول وَمن خوى إِلَى بركزي ثَلَاثُونَ فرسخا وَقد بلغناها فِي الثَّانِي عشر من جُمَادَى الأولى (١٦ نوفمبر) وَمن هُنَاكَ ذَهَبْنَا إِلَى وان ثمَّ إِلَى وسطان وَكَانَ لحم الْخِنْزِير يُبَاع فِي سوقها كَمَا يُبَاع الضَّأْن وَيجْلس نساؤها ورجالها أَمَام الحوانيت وَيَشْرَبُونَ بِغَيْر حَيَاء
وَمن هُنَاكَ بلغنَا مَدِينَة أخلاط فِي الثَّامِن عشر من جُمَادَى الأولى (٢٢ نوفمبر) وَهِي على الْحُدُود مَا بَين بِلَاد الْمُسلمين والأرمن وَبَينهَا
1 / 39
وَبَين بركري تِسْعَة عشر فرسخا وَعَلَيْهَا أَمِير اسْمه نصر الدولة نَيف على الْمِائَة وَله أَبنَاء كَثِيرُونَ أعْطى كلا مِنْهُم ولَايَة ويتكلمون بهَا ثَلَاث لُغَات الْعَرَبيَّة والفارسية والأرمنية وأظن أَنَّهَا سميت أخلاط لهَذَا السَّبَب والمعاملة هُنَاكَ بالنقود النحاسية ورطلهم ثَلَاثمِائَة دِرْهَم
فِي الْعشْرين من جُمَادَى الأول (٢٤ نوفمبر) غادرنا أخلاط ونزلنا فِي رِبَاط كروانسراي كَانَت السَّمَاء تمطر ثلجا وَالْبرد قارسا وَقد غرسوا فِي جُزْء من الطَّرِيق عمدا ليسير المسافرون على هديها أَيَّام الثَّلج والضباب ثمَّ بلغنَا مَدِينَة بطليس وَهِي وَاقعَة فِي وَاد وَقد اشترينا مِنْهَا عسلا الْمِائَة من بِدِينَار حسب مَا باعونا وَيُقَال إِن بهَا من يجني فِي السّنة الْوَاحِدَة ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعمِائَة جرة عسل
وَخَرجْنَا مِنْهَا فَرَأَيْنَا قلعة تسمى قف انْظُر وتركناها إِلَى مَكَان بِهِ جَامع يُقَال بناه اويس الْقَرنِي قدس الله روحه وَرَأَيْت النَّاس عِنْد حُدُوده يطوفون بِالْجَبَلِ ويقطعون أشجارا تشبه السرو فَسَأَلت مَاذَا تَعْمَلُونَ بهَا فَقَالُوا نضع طرفا من الشَّجَرَة فِي النَّار فَيخرج هَذَا القطران من طرفها الآخر فنجمعه فِي الْبِئْر ثمَّ نضعه فِي أوعية ونحمله إِلَى الْأَطْرَاف وَهَذِه الولايات الَّتِي ذكرت بعد أخلاط وَقد اختصرنا ذكرهَا هُنَا
1 / 40
تَابِعَة لميافارقين
ثمَّ سرنا إِلَى مَدِينَة أرزن وَهِي مَدِينَة عامرة وجميلة فِيهَا أَنهَار جَارِيَة وبساتين وأشجار وأسواق جميلَة وَيبِيع البرسيون هُنَاكَ المائتا من عنبا بِدِينَار وَاحِد فِي شهر آذر نوفمبر وديسمبر ويسمون هَذَا الْعِنَب رز إرمانوش
وانتقلنا إِلَى مَدِينَة ميافارقين الَّتِي يفصلها عَن أخلاط ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ فرسخا وَمن بَلخ إِلَيْهَا عَن الطَّرِيق الَّذِي إجتزناه إثنان وَخَمْسُونَ وَخَمْسمِائة فَرسَخ وَقد دخلناها يَوْم الْجُمُعَة السَّادِس وَالْعِشْرين من جمادي الأول ٣٣ ﴿٢٣ نوفمبر ١٠٣٦) وَكَانَت أوراق الشّجر حِينَئِذٍ لَا تزَال خضراء وميافارقين محاطة بسور عَظِيم من الْحجر الْأَبْيَض الَّذِي يزن الْحجر مِنْهُ خَمْسمِائَة من وعَلى بعد كل خمسين ذِرَاعا من هَذَا السُّور برج عَظِيم من الْحجر نَفسه وَفِي أَعْلَاهُ شرفات وَهِي من الدقة بِحَيْثُ تَقول أَن يَد بِنَاء ماهر أكملتها الْيَوْم ولهذه الْمَدِينَة بَاب من نَاحيَة الغرب لَهُ عتبَة عَلَيْهَا طاق حجري وَقد ركب عَلَيْهَا بَاب من حَدِيد لَا خشب فِيهِ وَيطول وصف مَسْجِد الْجُمُعَة بهَا لَو ذكرته وَلَو أَن صَاحب الْكتاب شرح كل شَيْء أتم الشَّرْح وَقد قَالَ إِن للميضأة الَّتِي عملت بِهَذَا الْمَسْجِد أَرْبَعِينَ مرحاضا تمر أمامها قناتان كبيرتان الأولى ظَاهِرَة ليستعمل مَاؤُهَا وَالثَّانيَِة وَهِي تَحت الأَرْض لحمل الثفل وللصرف وخارج هَذِه الْمَدِينَة فِي الربض أربطة كروانسراها وأسواق وحمامات وَمَسْجِد وجامع آخر يصلونَ فِيهِ الْجُمُعَة ايضا وَفِي نَاحيَة الشمَال سَواد آخر يُسمى المحدثة بِهِ سوق وَمَسْجِد
1 / 41
جَامع وحمامات وكل مَا يَنْبَغِي لمدينة من مهمات وَيذكر اسْم سُلْطَان الْولَايَة فِي الْخطْبَة هَكَذَا الْأَمِير الْأَعْظَم عز الْإِسْلَام سعد الدّين نصر الدولة وَشرف الْملَّة أَبُو نصر أَحْمد وَقد بلغ الْمِائَة من عمره وَيُقَال إِنَّه حَيّ والرطل هُنَاكَ أَرْبَعمِائَة وَثَمَانُونَ درهما وَقد بنى هَذَا الْأَمِير مَدِينَة على مَسَافَة أَرْبَعَة فراسخ من ميافارقين سَمَّاهَا الناصرية وَمن آمد إِلَى ميافارقين تِسْعَة فراسخ
فِي السَّادِس من شهر دي الْقَدِيم (٢٢ ديسمبر ١٠٣٦) بلغنَا آمد الَّتِي شيدت على صَخْرَة وَاحِدَة طولهَا ألفا قدم وعرضها كَذَلِك وَهِي محاطة بسور من الْحجر الْأسود كل حجر مِنْهُ يزن مَا بَين مائَة وَألف من وَأكْثر هَذِه الْحِجَارَة ملتصق بعضه بِالْبَعْضِ من غير طين أَو جص وارتفاع السُّور عشرُون ذِرَاعا وَعرضه عشر أَذْرع وَقد بني على بعد كل مائَة ذِرَاع برج نصف دائرته ثَمَانُون ذِرَاعا وشرفاته من هَذَا الْحجر بِعَيْنِه وَقد شيدت فِي عدَّة أَمَاكِن دَاخل الْمَدِينَة سلالم من الْحجر ليتيسر الصعُود إِلَى السُّور وَقد بنيت قلعة على قمة كل برج ولهذه الْمَدِينَة أَرْبَعَة أَبْوَاب كلهَا من الْحَدِيد الَّذِي لَا خشب فِيهِ يطلّ كل مِنْهَا على جِهَة من الْجِهَات الْأَصْلِيَّة وَيُسمى الْبَاب الشَّرْقِي بَاب دجلة والغربي بَاب الرّوم والشمالي بَاب الأرمن والجنوبي بَاب التل وخارج هَذَا السُّور سور آخر من نفس الْحجر ارتفاعه عشر أَذْرع وَمن فَوْقه شرفات فِيهَا ممر يَتَّسِع لحركة رجل كَامِل السِّلَاح بِحَيْثُ يَسْتَطِيع ان يقف فِيهِ ويحارب بسهولة وَلِهَذَا السُّور الْخَارِجِي أَبْوَاب من الْحَدِيد شيدت مُخَالفَة لأبواب السُّور الداخلي بِحَيْثُ لَو اجتاز السائر أَبْوَاب السُّور الأول وَجب عَلَيْهِ اجتياز مَسَافَة لبلوغ أَبْوَاب السُّور الثَّانِي وَهَذِه الْمسَافَة تبلغ خمس عشرَة ذِرَاعا وَفِي وسط الْمَدِينَة عين يتفجر مَاؤُهَا من الْحجر الصلب وَهَذَا المَاء من الغزارة بِحَيْثُ يَكْفِي لإدارة خمس طواحين وَهُوَ غَايَة فِي العذوبة وَلَا يعرف أحد من أَيْن يَنْبع وَفِي الْمَدِينَة أَشجَار وبساتين تَقِيّ من هَذَا المَاء وأمير الْمَدِينَة وحاكمها هُوَ ابْن نصر
1 / 42
الدولة الَّذِي مر ذكره وَقد رَأَيْت كثيرا من المدن والقلاع فِي أَطْرَاف الْعَالم فِي بِلَاد الْعَرَب والعجم والهند وَالتّرْك وَلَكِنِّي لم أر قطّ مثل مَدِينَة آمد فِي أَي مَكَان على وَجه الأَرْض وَلَا سَمِعت من أحد أَنه رأى مَكَانا آخر مثلهَا ومسجدها الْجَامِع من الْحجر الْأسود وَلَيْسَ مثله متانة وإحكاما وَقد أقيم فِي وَسطه مِائَتَا عَمُود ونيف من الْحجر كل عَمُود قِطْعَة وَاحِدَة وَفَوق هَذِه الأعمدة عُقُود من الْحجر وَقد نصبت فَوْقهَا أعمدة أقصر من تِلْكَ وَجَمِيع أَسْقُف الْمَسْجِد على هَيْئَة الجملون وَقد كملت نجارة ونقارة ونقشا ودهنا وَفِي ساحته صَخْرَة كَبِيرَة عَلَيْهَا حَوْض كَبِير مستدير من الْحجر يبلغ ارتفاعه قامة رجل ومحيط دائرته ذراعان وَفِي وسط الْحَوْض أنبوبة من النّحاس يتفجر مِنْهَا مَاء صَاف لَا يظْهر مدخله أَو مخرجه وبالمسجد ميضأة عَظِيمَة جميلَة الصنع بِحَيْثُ لَا يُوجد أحسن مِنْهَا وَقد بنيت عمارات آمد كلهَا من الْحجر الْأسود وَأما ميافارقين فعماراتها من الْحجر الْأَبْيَض
وبالقرب من الْمَسْجِد كَنِيسَة عَظِيمَة غنية بالزخارف مَبْنِيَّة كلهَا من الْحجر وَقد فرشت أرْضهَا بالرخام المنقوش وَقد رَأَيْت فِيهَا على الطارم وَهُوَ مَكَان الْعِبَادَة عِنْد النَّصَارَى بَابا من الْحَدِيد المشبك لم أر مثله فِي أَي مَكَان
وَمن آمد إِلَى حران طَرِيقَانِ أَحدهمَا لَا عمرَان فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فرسخا وَالثَّانِي بِهِ أَمَاكِن معمورة وقرى كَثِيرَة مُعظم أَهلهَا من النَّصَارَى وَهُوَ سِتُّونَ
1 / 43
فرسخا وَقد سرنا مَعَ الْقَافِلَة فِي هَذَا الطَّرِيق وَكَانَت الصَّحرَاء غَايَة فِي الاسْتوَاء إِلَّا أَن بهَا أحجارا كَثِيرَة بِحَيْثُ لَا تَسْتَطِيع الدَّوَابّ أَن تخطو خطْوَة وَاحِدَة من غير أَن تعثر بِحجر وَقد بلغنَا حران يَوْم الْجُمُعَة الْخَامِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الآخر سنة ٣٣ ﴿٢٨ ديسمبر ١٠٤٦) الْمُوَافق اثْنَيْنِ وَعشْرين من شهر دي الْقَدِيم وَكَانَ هواؤها فِي ذَلِك الْوَقْت كهواء خُرَاسَان أَيَّام النوروز
وسرنا من هُنَاكَ فَبَلغنَا مَدِينَة تسمى قرول حَيْثُ أضافنا رجل كريم فِي بَيته وَهُنَاكَ دخل أَعْرَابِي فِي السِّتين من عمره فاقترب مني وَقَالَ حفظني الْقُرْآن فلقنته ﴿قل أعوذ بِرَبّ النَّاس﴾ فَكَانَ يقْرؤهَا معي فَلَمَّا وصلت إِلَى آيَة ﴿من الْجنَّة وَالنَّاس﴾ قَالَ أَقُول أَيْضا سُورَة أَرَأَيْت النَّاس فَقلت هَذِه السُّورَة لَيست قبل تِلْكَ فَقَالَ مَا سُورَة نقالة الْحَطب وَلم يعرف أَنه قيل فِي سُورَة ﴿تبت﴾ حمالَة الْحَطب لَا نقالة الْحَطب وَلم يسْتَطع هَذَا الْأَعرَابِي المشرف على السِّتين فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أَن يحفظ سُورَة ﴿قل أعوذ﴾ مَعَ تكراري لَهَا مَعَه
وَفِي يَوْم السبت الثَّانِي من رَجَب سنة ٣٣ ﴿٢ يناير ١٠٤٧) بلغنَا مَدِينَة سروج واجتزنا الْفُرَات فِي الْيَوْم التَّالِي ونزلنا فِي منبج وَهِي أول مدن الشَّام وَكَانَ هَذَا أول بهمن الْقَدِيم يناير فبراير والطقس هُنَاكَ معتدل جدا وَلم يكن خَارج الْمَدِينَة عمارات قطّ وَقد سرت مِنْهَا إِلَى حلب وَمن ميافارقين إِلَيْهَا إِلَى حلب مائَة فَرسَخ
وَرَأَيْت مَدِينَة حلب فَإِذا هِيَ جميلَة بهَا سور عَظِيم قست ارتفاعه فَكَانَ خمْسا وَعشْرين ذِرَاعا وَبهَا قلعة عَظِيمَة مشيدة كلهَا من الصخر وَيُمكن مُقَارنَة حلب ببلخ وَهِي مَدِينَة عامرة أبنيتها متلاصقة وفيهَا تحصل المكوس عَمَّا يمر بهَا من بِلَاد الشَّام وَالروم وديار بكر ومصر وَالْعراق
1 / 44
وَيذْهب اليها التُّجَّار من جَمِيع هَذِه الْبِلَاد وَلها أَرْبَعَة أَبْوَاب بَاب الْيَهُود وَبَاب الله وَبَاب الْجنان وَبَاب أنطاكية وَالْوَزْن فِي سوقها بالرطل الظَّاهِرِيّ وَهُوَ أَرْبَعمِائَة وَثَمَانُونَ درهما وَتَقَع حما جنوبي حلب بِعشْرين فرسخا وَمن بعْدهَا حمص وَمن حلب إِلَى دمشق خَمْسُونَ فرسخا وَإِلَى أنطاكية اثْنَا عشر فرسخا وَإِلَى طرابلس كَذَلِك وَيُقَال إِن من حلب حَتَّى الْقُسْطَنْطِينِيَّة مِائَتي فَرسَخ
وَفِي الْحَادِي عشر من رَجَب سنة ٤٣ ﴿١١ يناير ١٠٤٧) خرجنَا من حلب وعَلى مَسَافَة ثَلَاثَة فراسخ مِنْهَا قَرْيَة تسمى جند قنسرين وَفِي الْيَوْم التَّالِي سرنا سِتَّة فراسخ وبلغنا مَدِينَة سرمين الَّتِي لَا سور لَهَا وَبعد مسيرَة سِتَّة فراسخ أُخْرَى بلغنَا معرة النُّعْمَان وَهِي مَدِينَة عامرة وَلها سور مَبْنِيّ وَقد رَأَيْت على بَابهَا عمودا من الْحجر عَلَيْهِ كِتَابَة غير عَرَبِيَّة فَسَأَلت مَا هَذَا فَقيل إِنَّه طلسم الْعَقْرَب حَتَّى لَا يكون فِي هَذِه الْمَدِينَة عقرب أبدا وَلَا يَأْتِي اليها وَإِذا أحضر من الْخَارِج وَأطلق بهَا فَإِنَّهُ يهرب وَلَا يدخلهَا وَقد قست هَذَا العمود فَكَانَ ارتفاعه عشر أَذْرع وَرَأَيْت أسواق معرة النُّعْمَان وافرة الْعمرَان وَقد بني مَسْجِد الْجُمُعَة على مُرْتَفع وسط الْمَدِينَة بِحَيْثُ يصعدون اليه من أَي جَانب يُرِيدُونَ وَذَلِكَ على ثَلَاث عشرَة دَرَجَة وزراعة السكان كلهَا قَمح وَهُوَ كثير وفيهَا شجر وفير من التِّين وَالزَّيْتُون والفستق وَالْعِنَب ومياه الْمَدِينَة من الْمَطَر والآبار
وَكَانَ بِهَذِهِ الْمَدِينَة رجل أعمى اسْمه أَبُو الْعَلَاء المعري وَهُوَ حاكمها وَكَانَ وَاسع الثراء عِنْده كثير من العبيد وَكَانَ أهل الْبَلَد خدم لَهُ
1 / 45
أما هُوَ فقد تزهد فَلبس الكلتم وَاعْتَكف فِي الْبَيْت وَكَانَ قوته نصف من من خبز الشّعير لَا يَأْكُل غَيره وَقد سَمِعت أَن بَاب سرايه مَفْتُوح دَائِما وَأَن نوابه وملازميه يدبرون أَمر الْمَدِينَة وَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْأُمُور الهامة وَهُوَ لَا يمْنَع نعْمَته أحدا يَصُوم الدَّهْر وَيقوم اللَّيْل وَلَا يشغل نَفسه مُطلقًا بِأَمْر دُنْيَوِيّ وَقد سما المعري فِي الشّعْر وَالْأَدب إِلَى حد أَن أفاضل الشَّام وَالْمغْرب وَالْعراق يقرونَ بِأَنَّهُ لم يكن من يدانيه فِي هَذَا الْعَصْر وَلَا يكون وَقد وضع كتابا سَمَّاهُ الفضول والغايات ذكر بِهِ كَلِمَات مرموزة وأمثالا فِي لفظ فصيح عَجِيب بِحَيْثُ لَا يقف النَّاس إِلَّا على قَلِيل مِنْهُ وَلَا يفهمهُ إِلَّا من يقرأه عَلَيْهِ وَقد اتَّهَمُوهُ بأنك وضعت هَذَا الْكتاب مُعَارضَة لِلْقُرْآنِ يجلس حوله دَائِما أَكثر من مِائَتي رجل يحْضرُون من الْأَطْرَاف يقرءُون عَلَيْهِ الْأَدَب وَالشعر وَسمعت أَن لَهُ أَكثر من مائَة ألف بَيت شعر سَأَلَهُ رجل لم تعط النَّاس مَا أَفَاء الله ﵎ عَلَيْك من وافر النعم وَلَا تقوت نَفسك فَأجَاب إِنِّي لَا أملك أَكثر مِمَّا يُقيم أودي وَكَانَ هَذَا الرجل حَيا وَأَنا هُنَاكَ
وَفِي الْخَامِس عشر من رَجَب سنة ٣٣ ﴿١٥ يناير ١٠٤٧) سرنا إِلَى كويمات وَمِنْهَا إِلَى حما وَهَذِه الْمَدِينَة جميلَة عامرة على شاطىء نهر العَاصِي وَيُسمى هَذَا النَّهر بالعاصي لِأَنَّهُ يذهب إِلَى بِلَاد الرّوم فَهُوَ يخرج من بِلَاد الْإِسْلَام ليدْخل بِلَاد الْكفْر وَقد نصبوا عَلَيْهِ سواقي كَثِيرَة وَمن حما طَرِيقَانِ أَحدهمَا بِجَانِب السَّاحِل غرب الشَّام وَالْآخر فِي الْجنُوب وَهُوَ يَنْتَهِي إِلَى دمشق فسرنا عَن طَرِيق السَّاحِل وَقد رَأينَا فِي الْجَبَل عينا قيل إِن ماءها يتفجر فِي الثَّلَاثَة أَيَّام التالية لنصف شعْبَان من كل سنة ثمَّ ينضب فَلَا تخرج مِنْهُ قَطْرَة وَاحِدَة حَتَّى السّنة التالية وَيذْهب الكثيرون
1 / 46
لزيارة هَذِه الْعين تقربا إِلَى الله ﷾ وَقد بنيت هُنَاكَ عمارات وأحواض وَلما سرنا من هُنَاكَ بلغنَا سهلا كَسَاه النرجس ثوبا أَبيض وذهبنا بعد ذَلِك إِلَى مَدِينَة تسمى عرقة وَبعد مسيرَة فرسخين مِنْهَا بلغنَا شاطىء الْبَحْر فتبعناه نَاحيَة الْجنُوب حَتَّى بلغنَا مَدِينَة طرابلس بعد مسيرَة خَمْسَة فراسخ
وَمن حلب إِلَى طرابلس أَرْبَعُونَ فرسخا عَن هَذَا الطَّرِيق وَكَانَ بلوغنا إِيَّاهَا يَوْم السبت الْخَامِس من شعْبَان (٦ فبراير) وحول الْمَدِينَة الْمزَارِع والبساتين وَكثير من قصب السكر وأشجار النارنج والترنج والموز والليمون وَالتَّمْر وَكَانَ عسل السكر يجمع حينذاك ومدينة طرابلس مشيدة بِحَيْثُ أَن ثَلَاثَة من جوانبها مطلة على الْبَحْر فَإِذا ماج علت أمواجه السُّور أما الْجَانِب المطل على الْيَابِس فبه خَنْدَق عَظِيم عَلَيْهِ بَاب حديدي مُحكم وَفِي الْجَانِب الشَّرْقِي من الْمَدِينَة قلعة من الْحجر المصقول عَلَيْهَا شرفات ومقاتلات من الْحجر نَفسه وعَلى قمتها عرادات لوقايتها من الرّوم فهم يخَافُونَ أَن يُغير هَؤُلَاءِ عَلَيْهَا بالسفن ومساحة الْمَدِينَة ألف ذِرَاع مربع وأربطتها أَربع أَو خمس طَبَقَات وَمِنْهَا مَا هُوَ سِتّ طَبَقَات أَيْضا وشوارعها وأسواقها جميلَة ونظيفة حَتَّى لتظن أَن كل سوق قصر مزين وَقد رَأَيْت بطرابلس مَا رَأَيْت فِي بِلَاد الْعَجم من الْأَطْعِمَة والفواكه بل أحسن مِنْهُ
1 / 47
مائَة مرّة وَفِي وسط الْمَدِينَة جَامع عَظِيم نظيف جميل النقش حُصَيْن وَفِي ساحته قبَّة كَبِيرَة تحتهَا حَوْض من الرخام فِي وَسطه فواره من النّحاس الْأَصْفَر وَفِي السُّوق مشرعة ذَات خَمْسَة صنابير يخرج مِنْهَا مَاء كثير يَأْخُذ مِنْهُ النَّاس حَاجتهم وَيفِيض بَاقِيه على الأَرْض وَيصرف فِي الْبَحْر وَيُقَال إِن بهَا عشْرين ألف رجل ويتبعها كثير من السوَاد والقرى ويصنعون بهَا الْوَرق الْجَمِيل مثل الْوَرق السَّمرقَنْدِي بل أحسن مِنْهُ وَهِي تَابِعَة لسلطان مصر قيل وَسبب ذَلِك أَنه فِي زمن مَا أغار عَلَيْهَا جَيش الرّوم الْكفَّار فحاربه جند سُلْطَان مصر وقهروه فَرفع السُّلْطَان الْخراج عَنْهَا وَأقَام بهَا جَيْشًا من قبله على رَأسه قَائِد لحمايتها من الْعَدو وَتحصل المكوس بِهَذِهِ الْمَدِينَة فتدفع السفن الْآتِيَة من بِلَاد الرّوم والفرنج والأندلس وَالْمغْرب الْعشْر للسُّلْطَان فَيدْفَع مِنْهُ أرزاق الْجند وللسلطان بهَا سفن تُسَافِر إِلَى بِلَاد الرّوم وصقلية وَالْمغْرب للتِّجَارَة وسكان طرابلس كلهم شيعَة وَقد شيد الشِّيعَة مَسَاجِد جميلَة فِي كل الْبِلَاد وَهُنَاكَ بيُوت على مِثَال الأربطة وَلَكِن لَا يسكنهَا أحد وَتسَمى مشَاهد وَلَا يُوجد خَارج طرابلس بيُوت أبدا عدا مشهدين أَو ثَلَاثَة من الَّتِي مر ذكرهَا
وغادرت طرابلس وسرت على شاطىء الْبَحْر نَاحيَة الْجنُوب فَرَأَيْت على مَسَافَة فَرسَخ وَاحِد قلعة تسمى قلمون فِي داخلها عين مَاء وسرت من هُنَاكَ إِلَى طرابزون وَمن طرابلس إِلَيْهَا خَمْسَة فراسخ وَمِنْهَا بلغنَا مَدِينَة جبيل وَهِي مُثَلّثَة تطل زَاوِيَة مِنْهَا على الْبَحْر ويحيطها سور حُصَيْن شَاهِق الِارْتفَاع وحولها النخيل غَيره من أَشجَار المناطق الحارة وَقد رَأَيْت فِي يَد غُلَام بهَا وردة حَمْرَاء وَأُخْرَى بَيْضَاء ناضرة وَكَانَ ذَلِك فِي الْيَوْم الْخَامِس من استدارمذ الشَّهْر الْقَدِيم (فبراير) سنة ٣١٥ من تَارِيخ الْعَجم
وَمن هُنَاكَ بلغنَا بيروت فَرَأَيْت بهَا طاقا حجريا شقّ الطَّرِيق فِي وَسطه وَقد قدرت ارتفاعه بِخَمْسِينَ ذِرَاعا وجانباه من الْحجر الْأَبْيَض
1 / 48
تزن كل قِطْعَة مِنْهُ أَكثر من ألف من وعَلى جانبيه بِنَاء من الطوب النيىء ارتفاعه عشرُون ذِرَاعا وَقد نصبت على قمته أعمدة من الرخام طول كل مِنْهَا ثَمَانِيَة أَذْرع وَهِي سميكة بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع رجلَانِ أَن يحيطاها بأذرعهما إِلَّا بصعوبة وعَلى رَأس هَذِه الْعمد عُقُود على الْجَانِبَيْنِ كلهَا من الْحجر المنحوت الَّذِي لَا يفصله عَن بعضه حص أَو طين وَفِي الْوسط تَمامًا الطاق الْكَبِير يعلوها بِخَمْسِينَ ذِرَاعا وَقد قست كل حجر مِنْهُ فَإِذا بِهِ ثَمَانِيَة أَذْرع طولا وَأَرْبَعَة عرضا وأظن الْحجر الْوَاحِد يزن سَبْعَة آلَاف من وَقد نقشت هَذِه الْحِجَارَة بدقة ومهارة بِحَيْثُ يقل مَا يشابهها مِمَّا ينقش على الْخشب وَلم يبْق هُنَاكَ أبنية غير هَذَا الطاق وَقد سَأَلت أَي مَكَان هَذَا فَقيل لي سمعنَا أَنه بَاب حديقة فِرْعَوْن وَهُوَ بَالغ فِي الْقدَم والوادي المجاور لهَذِهِ النَّاحِيَة مَمْلُوء بأعمدة الرخام تيجانها وجذوعها وَهِي من الرخام المدور والمربع والمسدس والمثمن وَهِي من الصلابة بِحَيْثُ لَا يُؤثر فِيهَا الْحَدِيد وَلَيْسَ فِي هَذِه الْجِهَة جبل حَتَّى يُقَال إِنَّهُم جلبوها مِنْهُ وَهُنَاكَ حِجَارَة تبدو كَأَنَّهَا معجونة جرانيت وَهِي تفل الْحَدِيد وَفِي نواحي الشَّام أَكثر من خَمْسمِائَة ألف من أعمدة وتيجان وجذوع وَلَا يعرف أحد مَاذَا كَانَت وَلَا من أَيْن نقلت
ثمَّ بلغنَا مَدِينَة صيدا وَهِي على شاطىء الْبَحْر أَيْضا يزرع بهَا قصب السكر بوفرة وَبهَا قلعة حجرية محكمَة وَلها ثَلَاث بوابات وفيهَا مَسْجِد جُمُعَة جميل يبْعَث فِي النَّفس هَيْبَة تَامَّة وَقد فرش كُله بالحصير المنقوش وَفِي صيدا سوق جميل نظيف وَقد ظَنَنْت حِين رَأَيْته أَنه زين خَاصَّة لمقدم السُّلْطَان أَو لِأَن بشرى سعيدة أذيعت فَلَمَّا سَأَلت قيل لي هَكَذَا عَادَة هَذِه الْمَدِينَة دَائِما وفيهَا حدائق وأشجار منسقة حَتَّى لتقول إِن سُلْطَانا هاويا غرسها وَفِي كل من هَذِه الحدائق كشك وأغلب شَجَرهَا مثمر
1 / 49
وَبعد مسيرَة خَمْسَة فراسخ على شاطىء الْبَحْر بلغنَا مَدِينَة صور وَهِي ساحلية أَيْضا وَقد بنيت على صَخْرَة امتدت فِي المَاء بِحَيْثُ أَن الْجُزْء الْوَاقِع على الْيَابِس من قلعتها لَا يزِيد على مائَة ذِرَاع وَالْبَاقِي فِي مَاء الْبَحْر والقلعة مَبْنِيَّة بِالْحجرِ المنحوت الَّذِي سدت فجواته بالقار حَتَّى لَا يدْخل المَاء من خلله وَقد قدرت الْمَدِينَة بِأَلف ذِرَاع مربع وأربطتها من خمس أَو سِتّ طَبَقَات وَكلهَا متلاصقة وَفِي كثير مِنْهَا نافورات وأسواقها جميلَة كَثِيرَة الْخيرَات وتعرف مَدِينَة صور بَين مدن سَاحل الشَّام بالثراء ومعظم سكانها شيعَة وَالْقَاضِي هُنَاكَ رجل سني اسْمه ابْن أبي عقيل وَهُوَ رجل طيب ثري وَقد بني على بَاب الْمَدِينَة مشْهد بِهِ كثير من السجاجيد والحصير والقناديل والثريات المذهبة والمفضضة وصور مشيدة على مُرْتَفع وتأتيها الْمِيَاه من الْجَبَل وَقد شيد على بَابهَا عُقُود حجرية يمر من فَوْقهَا إِلَى الْمَدِينَة وَفِي الْجَبَل وَاد مُقَابل لَهَا إِذا سَار السائر فِيهِ ثَمَانِيَة عشر فرسخا نَاحيَة الْمشرق بلغ دمشق
بعد أَن سرنا سَبْعَة فراسخ من صور بلغنَا عكة وتكتب هُنَاكَ مَدِينَة عكة وَهِي مشيدة على مُرْتَفع بعضه من أَرض وعرة وَبَعضه سهل وَلم تشيد الْمَدِينَة فِي الْوَادي المنخفض مَخَافَة غَلَبَة مَاء الْبَحْر عَلَيْهَا وخشية أمواجه الَّتِي تعج على السَّاحِل وَمَسْجِد الْجُمُعَة فِي وسط الْمَدِينَة وَهُوَ أَعلَى مبانيها وأعمدتها كلهَا من الرخام وَيَقَع قبر صَالح النَّبِي ﵇ خَارجه على يَمِين الْقبْلَة وساحته بَعْضهَا من الْحجر وَبَعضهَا الآخر مزروع وَيُقَال إِن آدم ﵇ كَانَ يزرع هُنَاكَ ومسحت الْمَدِينَة فَكَانَ طولهَا ألفي ذِرَاع وعرضها خَمْسمِائَة وَلها قلعة غَايَة فِي الإحكام يطلّ جانباها الغربي والجنوبي على الْبَحْر وعَلى الْأَخير ميناء ومعظم مدن السَّاحِل كَذَلِك والميناء اسْم يُطلق على الْجِهَة الَّتِي بنيت للمحافظة على السفن وَهِي تشبه الاسطبل وظهرها نَاحيَة الْمَدِينَة وحائطاها داخلان فِي الْبَحْر وعَلى امتدادهما مدْخل مَفْتُوح طوله خَمْسُونَ ذِرَاعا وَقد شدت السلَاسِل بَين
1 / 50
الحائطين فَإِذا أُرِيد إِدْخَال سفينة إِلَى الميناء أرخيت السلسلة حَتَّى تغوص فِي المَاء فتمر السَّفِينَة فَوْقهَا ثمَّ تشد حَتَّى لَا يَسْتَطِيع عَدو أَن يقصدها بِسوء وَعند الْبَاب الشَّرْقِي على الْيَد الْيُسْرَى عين يصلونَ إِلَى مَائِهَا بنزول سِتّ وَعشْرين دَرَجَة وَتسَمى عين الْبَقر وَيُقَال آدم ﵇ هُوَ الَّذِي كشفها وَكَانَ يسْقِي مِنْهَا بقرته وَلذَا سميت عين الْبَقر
وَحين يذهب الْمُسَافِر من عكة نَاحيَة الْمشرق يجد جبلا بِهِ مشَاهد الْأَنْبِيَاء ﵈ وَهَذَا الْجَبَل وَاقع على جَانب الطَّرِيق الْمُؤَدِّي إِلَى الرملة وَقد عزمت على التَّبَرُّك بزيارة هَذِه الْمشَاهد والتقرب إِلَى الله ﵎ وَقد قَالَ سكان عكة إِن فِي الطَّرِيق أشرارا يتعرضون لم يرَوْنَ من الغرباء وينهبون مَا مَعَهم فأودعت نفقتي بِمَسْجِد عكة وَخرجت من بَابهَا الشَّرْقِي يَوْم السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ٣٣ ﴿٥ مارس ١٠٣٧) وَقد زرت فِي الْيَوْم الأول قبر عك باني الْمَدِينَة وَهُوَ أحد الصَّالِحين الْأَوْلِيَاء وَكنت حائرا إِذا لم يكن معي دَلِيل يرشدني وفجأة تعرفت فِي الْيَوْم نَفسه بِفضل من الله ﵎ بِرَجُل من الْعَجم أَتَى من آذربيجان للتبرك بزيارة الْمشَاهد مرّة أُخْرَى فَشَكَرت لله ﵎ هِبته وَصليت رَكْعَتَيْنِ وسجدت لَهُ شكرا على توفيقه إيَّايَ لأفي بعزمي ثمَّ بلغت قَرْيَة تسمى بروة وزرت قبر عَيْش وشمعون ﵉ وَمن هُنَاكَ بلغت مغارك الَّتِي تسمى دامون فزرت المشهد الْمَعْرُوف بِقَبْر ذِي الكفل ﵇ ثمَّ واصلت السّير إِلَى قَرْيَة أُخْرَى تسمى أعبلين وَبهَا قبر هود ﵇ فزرته وَكَانَ بحظيرته شَجَرَة الخرتوت وَكَذَلِكَ زرت هُنَاكَ قبر النَّبِي عُزَيْر ﵇ ثمَّ يممت وَجْهي شطر الْجنُوب فبلغت قَرْيَة تسمى حَظِيرَة
1 / 51