وتريد أن تعود إلى كتابها لولا أن يستمر هو في الحديث، ويتحدث عن عمه الحبيب، ويمضي في الذكريات، وكأنه يقرأ في كتاب ... يسعفه خياله بصور عشرات الحوادث، حوادث البر والإشفاق والحنان التي لم تحدث له فينسبها لعمه ... وتستمع هي لهذا الحديث، وتفهم منه أنه فلان ... المحامي الذي ورد اسمه في النعي قبل كل الأسماء ... أحب أبناء الأخ إلى المتوفى ... ويقف الحديث الحزين، وتبدأ أحاديث أخرى تبدأ من عنوان الكتاب الذي تقرؤه هي، ويتشعب نحو عشرات الكتب والكتاب ... وينسى هو عمه الميت، وتنسى هي أن له عما قد مات، ويتضاحكان أكثر من مرة، ويمضي الوقت سريعا، ويصل القطار إلى الإسكندرية، وينزلان سويا حتى باب الخروج، ويقول وقد عاود الظهور بمظهر من فقد عمه منذ ساعات: إلى أين تذهبين ... ربما أستطيع توصيلك؟
وتقول له عنوانا، ولكنها تعتذر له عن ظروفه قائلة في إغراء: لكنك ربما لا تسلك نفس الطريق ... ثم إنك مضطر للذهاب لمنزل عمك ...
ويقاطعها ملحا، وفي إصرار: إنك في نفس طريقي تفضلي ...
وينادي سيارة وتركب هي أولا ... ويلحظ أن متاعها كمتاعه سواء بسواء مجرد حقيبة صغيرة، فيحاول أن يحملها، ولكنها تقول متضاحكة: إنك تحمل هموما فضلا عن حقيبتك.
وتسير السيارة بعد أن تلقي بالعنوان للسائق، وتميل السيارة يمينا ويسارا، وتنحرف إلى شارع ضيق، وتقف فجأة، ولا يحاول هو أن ينظر إلى ما حواليه، وإنما ينظر إلى وجهها الضاحك في بلاهة كوجهه تماما ... هل نسيت أنه حزين، وتجمع حقيبتها ومجلاتها، ويحاول أن يسبقها للنزول فترده قائلة: لا ... ربما رآك أحد.
وتمد يدها لتصافحه في حين تهبط من السيارة قائلة: ربما رآك أولاد عمك ... إنه كما ترى، منزل عمك رحمه الله، إنه عمي أيضا.
وتهرول نحو الباب، ويحملق هو فيرى حركة في الشارع، وسرادقا ينصب، ويرى أقدامها تخطر صاعدة السلم حتى تختفي، وتبدو غيرها هابطة.
ويتنبه هو فيفتح الصحيفة، ويقرأ مرة أخرى نعي العم الحبيب حتى يصل إلى العنوان ... ويتبين كيف فاته أن يعرف أين مات عمه، ومن أين يشيع جثمانه العزيز ... ولو أنه قرأ لاختار عما آخر ...
في طريقه إلى القاهرة لا يكاد يصل إلى طنطا حتى يهبط من القطار مسرعا إلى مكتب التلغراف ليبعث ببرقية لصديقه ابن العم العزيز ... ابن العم الحقيقي يعزيه في مصابه ببرقية يبدؤها قائلا: «أعزيكم ...» ثم يخطر له تعبير أدق فيمزق البرقية الأولى، ويبدأ الثانية هكذا: «أعزيكم والأسرة فردا فردا ...» ويستمر في الكتابة حتى يملأ صفحة البرقية بعبارات الرحمة والعزاء، وعندما يصعد إلى القطار مرة ثانية يقول لعقله المجنون: أظننا قد عزينا فأحسنا العزاء ... كانت هذه رغبتك ... هل آمنت الآن بأن منطقك هو منطق المجانين.
ويرتمي عقله في إعياء.
نامعلوم صفحہ