عزيز نصري
شهد بذلك خليل مجدي، شهد بذلك الدكتور يوسف رأفت. - إن هذا الصك غير صريح يا طاهر أفندي؛ يحتمل التأويل. - يجب أن يكون كذلك؛ لأن الأموال التي يدفعها إنما هي رشوات فلا يمكن تعيين وجوه الإنفاق في الصك. - إذن كيف تطلب منه حسابا؟ - أطلب منه حسابا سريا. - تعني: أن كلا منكما يثق بأمانة الآخر؛ أي أنك أنت تثق بصحة الحساب الذي يقدمه لك وهو يثق بأنك تسلم بصحة حسابه. - كذا، كذا. - إذن ما فائدة هذا الصك ما دامت الثقة متبادلة؟ - ألا آخذ صكا بمبلغ كبير كهذا ؟ - ولكن هذا الصك لا يفيد؛ لأنه في وسعه أن يقدم لك حسابا غير حقيقي ما دمت مستعدا أن تقبل منه كل حساب يقدمه.
فضحك طاهر أفندي، وقال: لا بأس، أرجو منك أن ترسل إليه كتابا موصى عليه في البريد بإمضائك، باعتبار أنك محام موكل من قبلي، وتطلب منه أن يقدم لنا: إما صورة الحساب، أو المبلغ. - أؤكد لك أنه يقدم حسابا بالمبلغ كله على الاستعدادات التي لزمت للمشروع، وربما قدمها لك بموجب وصولات. - بل أظن أنه يجاوب أنه دفع لي المبلغ، وبعد ذلك لا يستطيع أن يعدل عن هذا الجواب، ويقدم حسابا ملفقا - كما تظن. - عجيب كيف يجسر أن يجيب هذا الجواب والصك لم يزل بإمضائه وإمضاء الشهود عليه. - لا بأس، اكتب له - كما قلت لك - وسنرى ماذا يجاوب؟ وثم نفعل ما نراه موافقا، ويكفي أن تقول له: «نرجو منكم أن تقدموا حسابا عن الخمسين ألف جنيه التي أخذتموها بموجب صك وشهود؛ لكي تنفقوها في سبيل الاستعدادات لمشروع الترامواي، أو أن تردوها قبل نهاية هذا العام.» - يستحيل إلا أن يقدم حسابا ملفقا، وإني أؤكد لك يا طاهر أفندي أن عزيز باشا بلع الخمسين ألف جنيه، ومن الصعب تحصيلها منه. - لا بأس اكتب له، وسنرى.
فتململ حسن من إصرار طاهر أفندي، الذي استدل منه على جهالة ومكابرة وعناد في غير محله، ولكنه أذعن مكرها ممتعضا ووعد أن يكتب، قائلا: سأفعل ما تريد ونرى النتيجة. والآن دعنا نتحدث قليلا في موضوع مشروعنا المهم. - متى يمكننا أن نقابل حمد بك، الذي هو واسطة المسألة؟ - غدا - إن شاء الله. - هل مهدت السبيل إلى ذلك؟ - فهم المسألة مبدئيا، وقد توسمت من محادثته خيرا. - هل يمكن لهذا الرجل أن يضمن لنا النجاح؟ - لي أمل وطيد أنه يستطيع. - عجيب، من أين لهذا الإنسان كل هذا النفوذ؟ - له علائق مهمة جدا مع كبار رجال الحكومة، وليس في وسع أحد سواه أن يفيدنا شيئا. - إذن نزوره في منزله. - بالطبع، ولا بد أن يكون الحديث ابتدائيا في أول الأمر؛ لكي نرى ماذا تكون مطاليبه. - تظننا نستطيع أن نرضيه ونرضي غيره؟ - لا أدري الآن، على أننا غير مضطرين أن نرضيهم كل الإرضاء بالنقود فقط، بل يمكنا أن ندفع لهم بعض الترضية نقودا وبعضها أسهما، متى أنشأنا الشركة. - عليك إذن أن تهيئ صورة الطلب وتقريرا بالمشروع حسبما استفدت من دراسته في أوروبا. - إني لا أكف عن الاشتغال بهذه المهمة في كل فرصة موافقة. - على الله الاتكال. - إلى الغد إذن. - إلى الغد - إن شاء الله.
الفصل السابع عشر
في عصر ذلك اليوم زار يوسف بك رأفت طاهر أفندي في منزله، فتلقاه بالترحاب وجلسا معا في القاعة، فدار بينهما الحديث الآتي: - تذكر يا طاهر أفندي أني ألمحت في أحاديثي السابقة معك - ونحن في باريس - إلى أمر جوهري أود أن أباحثك فيه صريحا الآن. - أي حديث؟
فابتسم يوسف بك قائلا: حديث يختص بشأن السيدة عائدة، فلا أظنك نسيت. - أتريد أن تتخذها زوجة؟ - نعم.
ففكر طاهر أفندي هنيهة وهو مطرق ثم رفع نظره وقال: ليس عندي مانع البتة يا يوسف بك، نعم، إني ربيت عائدة أفضل تربية وعلمتها ما أمكنها أن تتعلم، وقد رأيتها ذكية جدا وعاقلة، ولينة الخلق ولطيفة المزاج بحيث إنها تليق بأن تكون زوجة أمير، على أني من الجهة الأخرى أرى أنك تستحق مثل عائدة وأفضل منها يا يوسف بك؛ لأني عرفتك جيدا ودرست أخلاقك وأميالك فرأيتك أفضل مما ينظر الناس إليك ... - إني أشكر لطفك يا طاهر أفندي ... - لا تظن أني أجاملك أو أطريك بهذا القول، بل إني أعتقد ما أقول؛ ولهذا لا تظن أني أضن عليك بعائدة بل أفضل أن تكون أنت بعلها على أن يكون آخر سواك؛ وذلك لأني أثق تمام الثقة أنها تكون سعيدة معك جدا، ولكن أمرين يحولان أو يحول أحدهما دون هذه الأمنية. - وما هما؟ - الأول: أن تأبى عائدة، وأنا لا أضطرها؛ لأني أطلق لها الحرية تمام الإطلاق بهذا الأمر، فلو آثرت حقيرا على أمير لآثرته أنا أيضا واجتهدت أن أجعله أميرا لأجل خاطرها ... - إذا أبت عائدة فلا حيلة، بل أعد إباءتها شؤما، على أنه يثبت لي حينئذ أني سيئ البخت. إني لا أظنها تأبى إذا أظهرت لها رغبتك أنت أولا؛ لأنها لا تجسر أن تعلن لك ميلها إلي ما دامت تجهل ميلك، وما اجترأت على أن أفاوضك بهذا الأمر إلا لأني لاحظت من سلوكها معي في عشرتنا السابقة في أوروبا، وفي هذين اليومين الذين تسنى لي فيهما أن أراها أنها تميل إلي بعض الميل، وأظنها لا ترفض طلبي إذا علمت به. - يسرني أنها تقبل، وسنسألها رأيها في حين آخر، إذا رأينا أن المانع الثاني ليس مانعا. - وما هو المانع الثاني؟ - الثاني هو نسب عائدة. - أظنك أدركت من عشرتي السابقة لك أني لست من رأي أسلافنا الذين يحفلون بالنسب، وعندي أن أوضع فتاة تليق أن تكون زوجة أمير إذا استوفت جميع شروط الزوجية وكان الحب بينها وبين طالبها متبادلا، فمهما كان نسب عائدة حقيرا فلا يحط من قدرها الشخصي؛ لأن عقلها وآدابها يجعلانها في مقام الرفيعة النسب، وربما يميزانها في كثير من الاعتبارات. - عائدة فتاة وضيعة الأصل على أني أعرف أبويها؛ ولهذا اتخذتها وربيتها وتبنيتها لما تيتمت.
فهز يوسف بك رأسه وقال: لا بأس، لا يشينها كونها وضيعة الأصل، ومع ذلك حسبها رفعة وشرفا أنها تربت عندك، وأنها تنتمي إليك. - ولكن هب أن أصلها هذا عرف بعدئذ، أفلا يعز عليك أن يقال: في مصرانك بعل ابنة وضيعة الأصل؟ - كلا، دع الناس يقولون ويتقولون ما يشاءون؛ فما أنا ممن يكترث بأقوال الناس إذا كانت زائغة عن محجة الصواب، والرجل لا يعاب بزوجته ولو فسدت، فكيف يعاب بها إذا كانت وضيعة؟ إني أتأكد أن عائدة أفضل من كثير من الزوجات المحصنات. - إني أعجب جدا برجاحة عقلك وسداد رأيك يا يوسف أفندي، وأمدح لك هذه الحرية التي تجاهر بها، فإذا كان نوع مولد عائدة لا يغير من اعتبارك لشخصيتها فالعقبة الكبرى قد ذللت، وما بقي علينا إلا أن نرى ماذا تريده عائدة نفسها، ولهذا أعطيك الجواب الشافي بعد ما أخابرها بهذا الأمر، فأمهلني بضعة أيام. - فإذن أنت رضيت تمام الرضى، ولم يبق إلا أن تعلم إرادة عائدة. - نعم ولي الأمل أنها ترضى - إن شاء الله - فقد يجوز لك أن تعد نفسك في منزلة الصهر العزيز. - أشكر فضلك جدا يا طاهر أفندي. - انتهينا من هذا الموضوع، فلنتحدث قليلا عن مشروعنا. - كيف تظنه هل ينجح؟ - أرجح جدا أنه ينجح؛ لأن البلد كبير وهو - على ما ظهر لي - يحتمل المشروع، وإذا كانت الأجرة زهيدة يتهافت الناس على الترام، ولا سيما في أشهر الصيف، ولا بد أن تكون أرباحه وفيرة، وإنما العقدة في نيل الامتياز. - حسن أفندي لا يدخر وسعا في السعي وراء هذه الغاية. - إني أعجب بهمة هذا الشاب وإقدامه يا يوسف بك، فلا ريب أنه نابغة وسيكون مستقبله باهرا جدا. - نعم، ولأجل ذلك أحبه جدا. وماذا تم على يده إلى الآن؟ - لقد قابل بعض رجال الحكومة وفاوضهم في الأمر والتمس منهم المساعدة فوعدوه، ولكنه يقول: إن أهم من يترتب نجاح المشروع على مساعدتهم حمد بك الذي هو الواسطة الوحيدة بيننا وبين رجال الحكومة، فإذا أمكننا استرضائه نلنا الامتياز - على الغالب ... - لقد فاوضت بعض رجال الحكومة بهذا الشأن، فقيل لي إن بعض المتمولين عرضوا طلبات لمثل هذا المشروع فحفظت ولم يمنحوا الامتياز، فسألت في سبب ذلك فقيل لي إن الحكومة فحصت عن مقدرتهم المالية فلم تجدها كافية للقيام بالمشروع. - لعل ذلك هو السبب الحقيقي، ولكن ليس كل السبب وربما لم يكن سببا في بعض الأحوال للضن بالامتياز، على أني فهمت من مفاد محاورات حسن أفندي مع رجال الحكومة أن أهم الأسباب في نيل الامتياز إرضاء ذوي الحل والعقد. - نعم نعم، هذا أهم الأسباب. - ولذلك سأضحي بجانب كبير من رأس المال الذي أعددته للمشروع، ومتى حصلنا على الامتياز فلا يتعذر علينا أن نسترد ما ضحيناه من الأسهم التي نعرضها للبيع، وإني أتوقع إقبالا عظيما على تلك الأسهم؛ ولهذا تراني أجازف الآن بالمال. - أنت أخبر منا يا طاهر أفندي بهذه الأعمال؛ لأنك تعرف أهم مدن أوروبا ، وقد درست هذه المشروعات - إما عمدا وإما اتفاقا - أكثر منا. - صدقت، على أني اعتمدت - بالأكثر - على تقرير حسن الأخير الذي جمعه من اختباره ودراسته الشخصية لشركات الترام في حواضر أوروبا، وحسن أشد ثقة مني بنجاح المشروع. - أما أنا فبناء على ثقتكما بنجاحه اشترك معكما فيه. - الاتكال على الله، وسنرى ماذا تكون نتيجة مقابلتنا لحمد بك غدا. - خير - إن شاء الله.
الفصل الثامن عشر
نامعلوم صفحہ