اجتمع بأخيه في إحدى الحانات والدنيا مسودة في وجهه، فدهش أخوه إذ رآه قاتم المحيا مضطربا، فقال له: ماذا تم؟ أراك قلقا جدا. - كنت على شفا الهلاك، فاشتريت حياتي بالمال الذي قبضته من طاهر أفندي. - ماذا تقول؟ قل لي ماذا جرى؟
فجعل عزيز باشا يروي على أخيه تفاصيل ما حدث له مع ذلك اللص الشيطان، وخليل يضطرب تارة فرقا، وأخرى حيرة إلى أن انتهى أخوه من قصته فسأله: عجيب أمر هذا النشال، أتؤكد أنه ليس الشخص الذي رأيته أولا، وثانيا عند طاهر أفندي؟ - لا شبهة عندي أنهما شخصان متشابهان جدا؛ لأني كدت أميز الفرق بين صورتيهما، وزد على ذلك أن طاهر أفندي قال لي: أن الموسيو رينان كان لم يزل باقيا عنده لما عدت أنا إليه، فهل تظن أن طاهر أفندي يغشنا؟ - مستحيل. - إذن كيف عرف ذلك الرجيم أن معي نقودا، وأني أخذتها من طاهر أفندي لمشروع مهم، فإنه كان يكلمني في حانة أولمبيا كأنه كان معنا حين كنا نتباحث في أمر المشروع. - إن هؤلاء النشالين لأبالسة شقوا الأرض وخرجوا من بطنها، فلا تدري كيف عرف بما دار بينك وبين طاهر أفندي من الحديث؟ ولماذا لم تخبر طاهر أفندي بما حصل؟ - وما الفائدة من إخباره سوى أنه يتشبث بالصك، فيتعذر على ذلك اللص أن يسرقه ويرده لي؟ - إن كان صادقا بوعده. - هل تنتظر أن يكون ذلك اللص صادقا بوعده؟ - إني قليل الأمل جدا بصدق قوله، ولكني مع ذلك آثرت كتم الحادث عن طاهر أفندي حتى إذا لم يف اللص بوعده أنجزت أنت هذه المهمة. - أسعى في إنجازها، ولكني لا أضمن لنفسي النجاح، ولماذا لم تبلغ الشرطة بهذا الأمر في الحال؟ - ما الفائدة وذلك اللص قد تغلغل في المدينة، وصار من المحال الاهتداء إليه؟ ولكن ماذا تظن ألا يفي بوعده؟ - الله أعلم، سنصبر إلى الغد، فإن أرسله كان خيرا، وإلا نرى طريقة للتخلص من هذا الدين. - وهب أنه استحال عليك أن تسرق الصك كما يستحيل على اللص فماذا تفعل؟ أتذكر نص الصك؟ - أذكر جيدا، وهو كما يأتي: بتاريخه أدناه استلمت من طاهر أفندي عفت التاجر في فينا والتابع للحكومة النمساوية، مبلغ خمسين ألف جنيه عملة ورق دارجة كي أنفقها في مصر في سبيل الاستعدادات اللازمة لمشروع إنشاء ترام في القاهرة أشترك فيه مع طاهر أفندي المذكور، وفي أول السنة المقبلة يجب أن أقدم له حسابا عنها، أو أن أردها إليه. - لا أدري كيف كتبت هذا الصك الغامض، كيف تقدم له حسابا عن أموال تدفعها رشوة ولا تقدر أن تأخذ بها وصولات؟ وكيف تقدم الحساب عن نفقات سرية؟ - كتبته كذلك إجابة لطلبه، وعلى نية أن ألتهم من المبلغ معظمه وعلى أمل أنه لا يدقق بالحساب معي؛ ولا سيما لأني أراه طيب القلب - كما وصفته لي - فلا أظنه يستغشني إذا قدمت له الحساب غير صريح. - مهما يكن الأمر، كان يجب أن يكون الصك مشيرا إلى أشياء صريحة. - إني أرى أن الصك أميل لمصلحتي منه لمصلحة طاهر؛ لأنه لا يوجب علي أن أقدم الحساب ببينات ووصولات.
ففكر خليل بك هنيهة، وقال: صحيح، إذن هب أننا لم نستطع أن نسترد الصك فيمكننا أن نقدم له حسابا كما نشاء. - نعم وعليه أن يقبل من غير اعتراض.
وحينئذ سري عن عزيز باشا وخمد اضطرابه قليلا.
في مساء اليوم التالي كان عزيز وأخوه ينتظران البريد بفروغ صبر، وأملهما بصدق ذلك اللص أرق من خيط العنكبوت، ولكن دهشهما موزع البريد؛ إذ دفع لهما مغلفا فضاه فوجدا فيه الصك فاستولى عليهما الذهول، فتأملاه وهما لا يصدقان، وعند ذلك انفرج كل كرب عن صدر عزيز باشا وقال: «لا أبقي أثرا لهذه الورقة التي سببت لي قلقا في 24 ساعة كانت كل دقيقة منهما تساوي كل ساعات قلقي في حياتي.» وفي الحال أشعل عودة ثقاب وأحرق الصك حتى انحل إلى دخان ورماد، أما أمر ذلك اللص فبقي سرا يجهلانه ويحيرهما كلما خطر لهما.
الفصل الرابع عشر
في عصر يوم من أواخر أكتوبر إذ كان الجو صافيا في مصر، والنسيم عليلا، ومروج الجزيرة والجيزة وما بينهما كأبسطة من زمرد؛ لما كسيت من الخمائل ذلك لأن خريف مصر ربيعها؛ لما هو معلوم من أنها ترتوي من النيل، والنيل لا يفيض إلا في الصيف فيبعث في التربة الحياة في الخريف.
في عصر ذلك اليوم كانت نعيمة ابنة حسين باشا عدلي وزينب زوجة عزيز باشا مجدي في مركبة تدرج بهما في شارع الجزيرة الطويل، إلى أن وقفت بهما لدى حديقة منظمة بهية المنظر - لما حفلت به من الأزاهر - فدخلتا إلى تلك الحديقة وجلستا على مقعد وجعلتا تتحدثان: - عزيزتي زينب. - حبيبتي نعيمة. - أتشكين بأن أعدك شقيقتي الكبيرة التي لها حق المشورة علي، بل أعدك الصديقة الوحيدة التي أكشف لها قلبي إذا دعت الحال إلى كشفه؟ - لا ريب عندي في ذلك يا نعيمة، وأنت تعلمين أني أحبك حب الصديقة الحميمة لا حب القريبة؛ لأن القرابة التي بيننا مهما كانت شديدة فصداقتنا تغلب عليها، نحن ابنتي عم، ولكن قلبينا شطرا قلب واحد، ولذلك أستغرب كيف أنك تستهلين حديثك معي بمثل هذه المقدمات يا نعيمة! أتعرفين أن لي صديقة أعز عندي منك؟ - لا شك عندي بما تقولين يا حبيبتي زينب، ولا عجب في تحابنا؛ هذا لأننا متوافقتان في الأخلاق والمبادئ إلى حد أن بعض معارفنا يقولون إن نعيمة نسخة ثانية من ابنة عمها زينب، وأنا أفرح وأتهلل بأن أعلم أني شبيهة لك في حقيقتك.
فابتسمت زينب قائلة: قلما أسر بصحة التشابه يا نعيمة. - لماذا؟ - لأني أخاف أن نتشابه بكل أمر حتى في حظنا.
فوضعت نعيمة رأسها على كفها ومرفقها على ركبتها، وقالت: آه يا عزيزتي زينب انتدبتك اليوم إلى هذه النزهة لكي أكلمك بأمر ذي بال يتعلق بحظي، فإن الأحوال تنذرني بأنه سيكون سيئا جدا، فإليك ألجأ يا حبيبتي زينب عساك تسعفيني برأي أو بوسيلة أو تنشطيني إلى أمر. - هل من حادث جديد اليوم؟ - أما عرفت أن عزيز باشا زوجك يفاوض الآن أبي في أمر زواجي من خليل بك. - أعرف أن هذا الحديث جرى بينهما من زمان. - والآن يجدده عزيز باشا.
نامعلوم صفحہ