فقال يوسف بك: كلا يا سيدي فإنا نأخذ كراسي.
فقال: نحن أولى بالكراسي وأنتم بالمقصورة؛ لأننا أتينا متأخرين.
فقال حسن: نرجو منك يا سيدي ألا ترد تقدمتنا؛ لأننا شرقيون يصعب علينا جدا رفض التقدمة.
فتناول ذلك الرجل التذكرة وحنى رأسه شاكرا ودفع ثمنها ودخل بفتاته إلى رواق المقاصير، وعند ذلك اشترى أصحابنا ثلاث تذاكر كراسي ودخلوا فاتفق أن كراسيهم كانت قريبة من المقصورة التي جلس فيها ذلك الرجل وفتاته، فكانت أبصارهم تتلاقى بأبصاره وأبصار فتاته فى خلال التمثيل.
ولما وافت فترة التمثيل التقى أصحابنا بذلك الرجل في منتصف الملعب، وتساقوا بعض الخمور وتعارفوا وتصادقوا.
وفي اليوم التالي دعا طاهر أفندي أصدقاءه الثلاثة الجدد إلى مأدبة فاخرة في أعظم مطعم أنيق في باريس، وأكرمهم لقاء مجاملتهم التي لقيها منهم في ملعب الكوميدي فرنسز، وكانت فتاته معه، ولكن لم يعرفهم بها ولا عرفها بهم فخاطبوها وخاطبتهم من غير تعارف، ولم يدع طاهر أفندي لهم مجالا للتعرف بها والتساؤل عنها، بل كانت رزانتها في معاملتها وفي كل أمر يخصها تصدهم عن أن يسألوه عنها.
ولم تطل برهة تلك الوليمة كثيرا ؛ لأن طاهر أفندي كان كمن يتحذر من التمادي في مصادقة القوم، ولكنه - مع ذلك - لم يتركهم إلا وقد ترك في أنفسهم ولعا به؛ لما صادفوه من علو نفسه وكرم أخلاقه، وحسن أدبه واستقامة مبادئه، ولطف ذوقه وعشرته، ولما تركته فتاته في قلوبهم جميعا من ثورة الهوى.
وفارقوه وهم يتقولون في حقيقة أمر فتاته، فبعضهم ظن أنها ابنته، وبعضهم حسبها يتيمة وأنه يربيها لكي يقترن بها متى بلغت السن الموافقة، ولم يجسروا أن يسألوه في شيء من ذلك؛ لأن نسق معاشرته إياهم لم يسمح لهم بمثل هذا السؤال، وجل ما دار من الأحاديث بينهم الحديث عن مصر ومحاسنها وحركة الأشغال فيها، وما ينتظر من رواج التجارة فيها، وقد دعوه إلى زيارة مصر وأظهروا استعدادهم لاستقباله فيها بالحفاوة، فأظهر رغبته الشديدة في ذلك، وقال إن في نيته الذهاب إلى مصر لتأسيس محل تجاري فيها.
الفصل الثامن
أما حسن فكان أشد من رفيقيه افتكارا بأمر طاهر أفندي وما هو عليه من الخلق الغريب، والمسلك العجيب والتحرز النادر، ولكنه أدرك أنه رجل عمل ذو همة وإقدام وحزم، فخطر له أن يسعى في الاستعانة به على مشروعاته، وبعد أن تردد قليلا في مفاوضته قصد إليه ذات صباح في فندق الكونتيننتال، وطلب مقابلته فاستقبله بكل بشاشة ولطف، وجلسا في قاعة الاستقبال وحدهما. وبعد مجاملة قصيرة دارت بينهما كما تدور بين كل المستجدين في الصداقة قال حسن: إني أعتقد فيك رجل جد وعمل، تعبأ بالجوهر دون العرض؛ ولهذا لا أرى داعيا للتمهيد بالمجاملات والمقدمات توصلا إلى الموضوع الذي أود أن أفاوضك به، فلا أخفي عليك إني قصدتك لكي أباحثك في مشروع مهم فهل تؤذن لي بذلك؟ - أسمع حديثك بكل ارتياح وسرور، وأود أن أستطيع خدمتك في كل أمر. - إنني ممتن للطفك العظيم على أن موضوع حديثي هو مشروع النفع فيه متبادل؛ ولهذا أجرأ أن أكاشفك به. - إذن المسألة مسألة شغل، وقد زدتني رغبة في السماع؛ ولا سيما لأني أتوسم فيك فتى نبيها يعدك الزمان رجلا من رجال الأعمال، فهات ما عندك. - لا يخفى عليك أن مصر سائرة بسرعة في سبيل العمران والمدنية الحديثة؛ بسبب ما دخل إليها من الأجانب الذين ينقلون معهم معالم مدنيتهم؛ وبسبب قابليتها لذلك لوفرة غناها وخصب أرضها، فلاح في بالي بعض مشروعات، لو أنشئت لها شركات في مصر لأتت بأرباح باهظة؛ ولذلك أهتم في أن أستنهض همم بعض الوطنيين عندنا لإنشاء شركة ما حتى لا تكون كل الشركات المالية في أيدي الأجانب وأرباحها لهم وحدهم؛ لأنهم ابتدءوا يتنبهون إلى ذلك، وقد خطر لي أن أستعين بك في هذا الأمر؛ لأني أعتقد أنك تكون للشركة الوطنية خير معين. - إني مصغ إلى كلامك بكل لذة وسرور يا حسن أفندي، فأي المشروعات تراه قابلا للنجاح. - خطر لي أولا نشر النور الكهربائي في مصر وإسكندرية، ولكني رأيت هذا من الكماليات التي لا يضمن رواجها والإقبال عليها. ثم خطر لي إنشاء بنك لتسليف النقود لفئة الفلاحين بطرق سهلة؛ لتخليصهم من براثن المرابي الذي يمتص دماءهم، ولكن لم ينجل لي هذا المشروع مضمون النجاح؛ لاحتمال أن البنوك الأخرى تسابق هذا البنك وتنازعه النجاح والرواج، ثم خطرت لي مشروعات أخرى لم أرجح نجاحها إلى أن انتبهت إلى مشروع الترام الكهربائي فتأملته جيدا؛ فتراءى لي أنه قابل النجاح جدا؛ لأنه أصبح من الضروريات في بلد مثل مصر يزيد سكانها على نصف مليون نسمة، وهم في ازدياد مستمر فالأقدام تتزاحم في شوارعها، وضواحيها تترامى، وحركة الإشغال فيها تستلزم تجاذب الناس بين أطرافها ومركزها.
نامعلوم صفحہ