ففكر يوسف بك هنيهة ثم قال: مشروع حسن ولكن أمامه عقبات. - لا أنكر أن أمامه عقبات، ولكن لا بد من درسه، حتى إذا ظهر أن منافعه أوفر من متاعبه جعل في حيز الفعل، فما ظنك بالعقبات التي تعترضه؟ - أولا أن شركة الغاز في مصر تنافسه، فلا يقدر أن ينازعها الرواج والانتشار؛ لأنها أقدم منه وأقوى؛ ولأن نفقة الغاز أقل من نفقة الكهرباء فلا يمكن لشركة الكهرباء أن تبيع نورا أرخص من نور الغاز إلا إذا انتشرت انتشارا متسعا.
فقاطعه حسن قائلا: لا بأس دعنا من نور الكهرباء، فما قولك بإنشاء شركة لترام كهربائي في شوارع القاهرة والإسكندرية؟ - ففكر يوسف هنيهة، وقال: إن نجاح هذا المشروع أكثر احتمالا من مشروع النور الكهربائي؛ أولا: لأن مصر مدينة كبيرة مترامية الأطراف ولا غنى للناس فيها عن الانتقال من طرف إلى طرف، أو على الخصوص من أطرافها إلى مركزها الأوسط؛ حيث معظم الحركة والاحتكاك والتواصل في المعاملة. والمشي مسافات طويلة - ولا سيما في الصيف - يكاد يكون تهلكة، فلا ريب عندي أنه إذا جرى الترام في أهم شوارع المدينة وكانت الأجرة زهيدة، لا بد أن يصادف إقبالا، وإذا لم تكن أرباحه إلا ما يربحه الحمارة وأصحاب الأمنبوس وجانب من العربات فحسبه وكفى. - بل إني أؤكد لك أن أرباحه تكون أضعاف ذلك إذا كانت الأجرة زهيدة، بحيث يسهل على كل فرد أن يدفعها، ولا يخفى عليك ما ينجم عن ذلك من سرعة الحركة العملية في المدينة؛ إذ يسهل على الناس التنقل. - والله إنه لفكر حسن جدا يا حسن ولكن ... - لكن ماذا؟ - لم تدعني أن أذكر لك السبب الثاني الذي يحول دون نجاح شركة النور الكهربائي فالآن أذكره لك؛ لأنه سبب عام يحول دون كل شركة؛ وهو عدم إقبال الوطنيين على إنشاء الشركات والاكتتاب بها، فإذا أنشئت هذه الشركة لا تجد أحدا من أغنيائنا يثق بصحة عملك لكي يشترك معك فيه مجازفا بماله. - هذه العقبة لم أغفل عنها يا عزيزي يوسف، ولا أجهل أن ارتقاءها يحتاج إلى عزم صادق وهمة قعساء وجلد عجيب في السعي والإقناع بحسن مزايا المشروع، ولكني إذا وقفت إلى اثنين أو ثلاثة مثلك يرعوون ويفهمون خلاصة درسي للمشروع وكانت لهم الجراءة على بذل المال له، فإني أذكر لك أن بقية المتمولين متى رأوا الاثنين أو الثلاثة من المتمولين الوجهاء أقدموا على المشروع تبعوهم فيه - بحكم الغيرة - ولو عن غير فهم لما ينتهي إليه.
فأول خطوة أخطوها في هذا العمل العظيم هي أن أدرس المشروع جيدا، وسأغتنم فرصة الصيف القادم للطواف في بعض عواصم أوروبا؛ حيث أزور مكاتب شركات الترامواي والنور الكهربائيين وغيرهما من الشركات التي يتراءى لي أنها لازمة لبلادنا، وأدرس أحوالها وأقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من إحصائياتها. ثم اجتهد أن أطبق ذلك على مصرنا، فإن توسمت خيرا بعد ذلك الدرس والبحث وضعت تقريرا ضافيا في المشروع وعرضته على كبار أغنيائنا الذين أتوسم فيهم الفطنة والفهم، وحينئذ أبذل كل ما عندي من قوة الإقناع، فإن أفلحت فخير، وإلا تيقنت أن الأمة في سبات عميق ولا حياة لمن تنادي.
وكان يوسف بك حينئذ يتأمل حسن ويذرعه بنظره من قدميه إلى قمة رأسه وكأنه يقول في نفسه: أفي هذا الجسم الصغير والعمر الحديث يوجد هذا الفكر العالي وهذا الإقدام العجيب وهذه النفس العظيمة؟ وبعد ما تأمله هنيهة قال: إني أرجح فوزك يا حسن، فأقدم وأنا معك. - نعم إذا كنت يا عزيزي يوسف ذا ثقة بنفسك، وتعتقد أن ما يفعله كبراء الأجانب في بلادهم - وغيرها - ليس من أعمال الآلهة وإنما هو عمل بشري في مقدور كل بشر ذي همة وإقدام وبصيرة. إذا كنت تعتقد ذلك فلا تتوقع إلا الفوز والنجاح لمشروعنا.
فنظر يوسف إلى حسن - مبتسما - وقال: يا لله ما أعظم فعل الحب! لعمري لولا عهودك المقدسة لنعيمة لما كنت أجد فيك هذه العزيمة العجيبة - على ما أظن. - لا أنكر عليك أن حبي لنعيمة يدفعني إلى ركوب متن الشدائد والعظائم ويصور لي المستحيلات ممكنة، على أن هذا الحب الجليل لم يفقدني عقلي بل أزكى نار ذكائي، فلا أدخر جهدا في سبيل الصعود على سلم العلى؛ لكي أعجب عدلي باشا وأكون فخرا لنعيمة، بحيث إنهما يؤثرانني على أي طالب آخر. - ولكن لا تنس يا حسن أن منازعك شديد البأس بأهله، فأخاف أن يفوز عليك. - يستحيل أن يفوز إذا أصرت نعيمة على أن لا تقبل يد طالب كما عاهدتني سرا، ولا سيما إذا كان حسين باشا كما نعرفه يحب ابنته ويعقل الأمور جيدا ويدرك عاقبة الإكراه، وقد جددت نعيمة ذلك العهد معي في العام الغابر لما عدت إلى مصر في فصل الصيف لكي أشاهدها وأطلعها على أخبار نجاحي، وإذا لم أفز بآمالي قبل ذلك الميعاد فلا أكون مستحقا ليد نعيمة، وفي هذه الحالة أنفي نفسي من هذا الوجود وأدعها تنعم بمن اختاره الله زوجا لها. - إني أفضل جدا أن تكون أنت نصيب نعيمة يا حسن، ولكني أخاف عليك من منازعك - كما قلت لك - فأحذرك منه. - لقد أثرت ظنوني يا يوسف بهذا التنبيه المتكرر، فهل هناك من سبب يوجب هذا التنبيه؟
فحاول يوسف أن يغالط حسن في ظنه قائلا - بلهجة باردة: كلا لا شيء، وإنما أقول لك: إن التنازع في مثل هذا الموضوع يفضي - غالبا - إلى مغبات محزنة. - لا بد أن يكون في المسألة سر فلا تخف علي يا يوسف شيئا له مساس بي؛ لئلا يحصل لي أذى بسبب إخفائه، اللهم إلا إذا كان الأمر سرا يتعذر عليك أن تبوح به. - لا أخفي عليك - وأنت الصديق الحميم - أن هناك سرا جليلا هائلا قد يكون له مساس بعلاقتك مع نعيمة، في حين أن خليل بك يعد قلبه بقلبها ؛ ولذلك أؤثر أن أسره إليك؛ لكي تكون على بينة من أخلاق خصمك وخفيات قلبه وثبات ذوي قرباه، وأنت تعلم أن خليل بك وأهله أصدقائي، ولكني في الحقيقة لا أسكن لصداقتهم ولا أرضى عن أعمالهم الخفية، ولا أجسر - من الجهة الأخرى - أن أتظاهر بالعداء لهم، بل أداريهم؛ اتقاء لشرهم. - إني لا أعرف هؤلاء القوم إلا معرفة سطحية، وإذا لم يكن بد من مناظرتهم لي فلا بد لي من الاطلاع على جميع أخبارهم وأحوالهم، واكتشاف ما يمكن من أسرارهم، فإن كنت تروي لي ما تعرفه عنهم تخدمني خدمة جليلة يا يوسف. - لا أضن عليك بشيء، فاسمع حكاية سرية أسرها إليك وأرجو أن تقسم لي بأن تكتمها.
الفصل السادس
قال أقص عليك هذه الحكاية السرية يا عزيزي حسن؛ لأن بدءها يشبه بدء قصتك مع نعيمة؛ ولهذا أخاف أن تنتهي حالتك كما انتهت الحالة في قصتي. - هات، لنرى. - هل تتذكر فتى يدعى شاكر بك نظمي بن إبراهيم باشا خيري.
ففكر حسن هنيهة، وهز رأسه، وقال: كلا لا أذكر أحدا بهذا الاسم، فمن تعني؟ - لا. لا أنتظر أن تذكره؛ لأنك كنت صغيرا جدا حينئذ، ولم يكن لك اختلاط بأمثاله، كم عمرك الآن؟ - نحو العشرين. - عجبا. إن الذي يراك يظنك في الرابعة والعشرين! فقد كنت إذن حينئذ في الثامنة من عمرك، وكنت أنا في السادسة عشرة من عمري؛ لأنه قد مضى على الحادثة نحو اثني عشرة سنة تقريبا. - ماذا تعني بقولك حينئذ؟ - أعني بها يوم فر هذا الفتى الذي أكلمك عنه. - ما قصته؟ - كان شاكر هذا فتى في ريعان الشباب، وكان يشبهك في بعض الأخلاق، وربما تشابهتما في المزاج، بيد أنه كان أرق منك جسما، وكنت أعرفه جيدا كما أعرفك، وكان صديقي كما أنك صديقي، وهو لا يكبرني بأكثر من سنتين أو ثلاث سنين.
كان هذا الفتى مغرما بزينب ابنة حمدي باشا رفعت الذي كان من بعض المقربين لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وهو - كما لا يخفى عليك - ابن عم حسين باشا عدلي. - نعم نعم، سمعت شيئا عن الموضوع، سمعت أن فتى طلب يد زينب من أبيها، ثم ظهر أنه مجرم ففر، نعم سمعت أطراف هذه الحكاية في عهد حداثتي، ولكني لم أكن حينئذ لأعبأ بها. - وكان عزيز باشا نصري - وحينئذ كان بك - أخو خليل بك مجدي مناظرك يطلب يد زينب أيضا لا حبا بها، بل طمعا بميراثها العظيم؛ لأنها الوارثة الوحيدة لحمدي باشا رفعت أبيها؛ إذ لم يكن له بنون ولا أقارب سواها، أما زينب فكانت تحب الفتى شاكر بك نظمي؛ لأنه أجمل من عزيز باشا وجها وأوفر عقلا وأرقى أدبا. وهي - كما لا يخفى عليك - من نادرات أترابها في عقلها وآدابها وجمالها، بل هي أفضل امرأة عندنا في آدابها.
نامعلوم صفحہ