سعد زغلول زعیم الثورہ
سعد زغلول زعيم الثورة
اصناف
وامتنعت حوادث السرقة على سهولتها بين ذلك اللجب اللاجب؛ فخلت محاضر الأقسام من حوادث الطرارين واللصوص، التي لم تكن تمتنع ساعة من أيام الشح والضيق ووفرة المال في جانب وندرته في جانب آخر، ومشى أعظم الناس وأصغرهم على السواء في مظاهرات واحدة لا يتوقر عنها العالم الهرم، ولا ينسى فيها الصغير دواعي الوقار، ولم ينغص هذه المظاهرات إلا اعتداء بعض الأرمن عليها، وشكاسة بعض الضباط والجنود البريطانيين الذين أطلقوا الرصاص على المتظاهرين المتهللين في غير عداء ولا تنكر، فقتلوا منهم أربعة وجرحوا كثيرين، ولعل هذه الحادثة وحدها كافية لبيان ما وصلت إليه فوضى القمع والإرهاب، فإن هؤلاء الضباط والجنود تطوعوا لفعلتهم دون أن يدعوهم رؤساؤهم إليها، بل لقد كانت القيادة العليا تستبشر بمظاهرات الفرح التي أعقبت الإفراج عن الزعماء؛ لأنها قد تلطف سورة الحنق والعداء وتهيئ جو السياسة للوفاق والمسالمة، وتتيح للوزراء المصريين أن يقبلوا مناصب الحكومة، ولكن الفوضى أخرجت أولئك الضباط عن طورهم فأفسدوا هذه الدلائل، وعكسوا الأمر على القيادة العليا حتى كادت أن تفشل في تأليف الوزارة التي كان يجري الكلام في تأليفها حينذاك؛ مما اضطر المارشال اللنبي إلى الاعتراف بخطأ الجنود ونشر بيانا يقول فيه:
لقد تغيرت الحالة فجأة وأطلقت الحكومة البريطانية الزعماء المعتقلين في مالطة، وأذنت للمصريين أن يرسلوا مندوبيهم إلى إنجلترا ليعرضوا شكواهم. وقد سر المصريون لذلك بالبداهة وسمح لهم أن يقيموا الاحتفالات، كما يسمح لأبناء إنجلترا بالاحتفال بأي نصر سياسي، ومن سوء الحظ أن الجنود لا يفهمون هذا على ما يظهر؛ لذلك حدث مرة أو مرتين أن نفرا من الجنود قاموا بمظاهرات ضد المصريين الذين كانوا قد أقاموا احتفالا غير موجه ضد سلطتنا بتة. وقد أدى عمل هؤلاء الجنود إلى اضطرابات خطيرة، وإلى خسارة في الأنفس من الجانبين. على أنه المأمول الآن أن يلوذ الجنود بالهدوء، ويلزموا السكينة، ويتركوا القانون والنظام للقائد العام. ومما يجب أن يفهم أن كل عمل مستقل يقوم به الجنود يضاعف صعوبة مركزنا عشر مرات.
بقي سفر الوفد فعلا بعد السماح بالسفر قولا.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية سمحت بسفره من جهة لتعرقله من جهة أخرى؛ لأنها تعللت بقلة البواخر، وزعمت أن الأماكن فيها محجوزة سلفا، وأن الأماكن المطلوبة لا تتيسر قبل ثلاثة أشهر! وعلم الوفد أن الانتظار إلى ذلك الموعد مضيع لفرصة الحضور أمام مؤتمر الصلح أو الوصول إلى باريس في إبان انعقاده؛ فالتمس الإذن بالسفر على «يخت» صاحب العظمة السلطان المسمى بالمحروسة، واتصل نبأ هذا الخبر بالإنجليز فخشوا أن يجاب بعد قيام الوزارة الرشدية التي يعلمون من سياستها الأولى أنها تشايع الوفد في طلب السفر إلى أوروبا، ورأوا أن وصول الوفد المصري إلى أوروبا على اليخت السلطاني يخوله «مظهرا رسميا» يتقونه ولا يحبون دلالته الواضحة عند أمم العالم؛ فدبروا أمر الأماكن المطلوبة على عجل، وسرعان ما استطاعوا أن يحجزوا الأماكن كلها في الباخرة «كاليدونيا»، ومعها ستة أماكن أخرى لمن يشاء السفر من خصوم الوفد إلى باريس!
برح أعضاء الوفد العاصمة في الساعة الثامنة من صباح يوم «11 أبريل» فكان توديعهم الرائع بمثابة توكيل جديد من الأمة قاطبة، فازدحمت الطرقات والميادين بعشرات الألوف من جميع الطوائف والطبقات، ووزعت محافظة العاصمة أكثر من ألف تذكرة لعلية القوم ورؤساء الدين والسروات الذين رغبوا في توديع الوفد على المحطة، فلم تكف هذه التذاكر لتلبية جميع الرغبات، وبلغ عدد المودعين أضعاف العدد المقدور، وأوشك الناس ما بين العاصمة وبورسعيد أن ينظموا موكبا واحدا للحفاوة بالوفد وتأييده وإظهار الابتهاج بسفره، وما كانوا يعلمون بالسفر في يومها لصعوبة المواصلات وانقطاع أسلاك البرق في بعض الجهات، ولكنهم كانوا يرون القطار المزين بالرايات والأزهار وعليه التحيات التي كتبها المودعون في محطة العاصمة، فيعلمون الخبر ويتسامعون به في لحظات معدودات، ويهرولون إلى لقائه داعين هاتفين.
ولما وصل القطار إلى بورسعيد، خرجت المدينة تستقبله وترحب به وتصحبه إلى الباخرة التي بات فيها ليلته، وأضاءت بورسعيد كلها في المساء، وحفت بالباخرة عشرات الزوارق المضاءة الصادحة بالموسيقات والهتافات الوطنية طول الليل، وانثالت الرسائل البرقية من المدينة ومن أنحاء كثيرة في القطر تشيع الأعضاء بالرجاء والتأييد.
وفي اليوم الذي أقلعت فيه الباخرة - وهو اليوم التالي - تألفت في القاهرة لجنة مركزية كبرى تنوب عن الوفد في غيابه، وتتولى إنشاء اللجان التي تنوب عنه في الأقاليم. •••
ويلي هذا الفصل فصل انتقادي عن العيوب التي لوحظت في تأليف الوفد، ثم فصل عن خطة الوفد في مسألة الامتيازات الأجنبية التي أراد بها التفرقة بين بريطانيا العظمى والدول صواحب الامتيازات، ثم ينتقل الكلام إلى عمل الوفد في أوروبا كما يلي.
الفصل الخامس
الوفد في أوروبا
نامعلوم صفحہ