کتابوں کے درمیان گھنٹے
ساعات بين الكتب
اصناف
فالحق أن «التهيؤ» ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا بد لإلقاء الأثر البليغ في نفس المشاهد من «تهيئة» خاصة تنسيه الحياة الدارجة، وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»، وتحضير الذهن لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك في ذلك التهيؤ، الذي لا غنى عنه وأن تشعر المشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية، ويحرم فيه الابتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين، أو يرى الأمير الحاكم في غير سمته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها «تهيؤ » اللغة التي يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب إلى مكان غير البيت وغير الطريق، وليس من حسن التخريج أن تظهر اللغة على المسرح بغير طلائها الذي يناسب ذلك المقام.
ثم أين هي محاكاة الطبيعة «الحرفية» في روايات الغناء، ومفاجآت الضحك والفكاهة؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في رجل فرنسي تنطقه على مسارح القاهرة بالعربية البلدية؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في إخلاء المسرح من لوازم الأحاديث والمعيشة، من سعال وتثاؤب ونوم وخلع ولبس وما إلى ذلك مما نراه في الحياة ولا نراه في الروايات؟ كل أولئك نتسامح فيه مرضاة لدواعي «التهيؤ» التي يتم بها جمال الحقيقة، وتشرف بها أغراض الفنون فإذا نحن تسامحنا في الحكاية اللغوية بعض هذا التسامح، فقد يكون ذلك أبر بالأدب الذي ينتمي إليه التمثيل، وأبر بالحقيقة وأبر بالفنون.
إنما يعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل الألفاظ وحكاية النبرات، وليس من المعقول أن تنشأ في نفس السوقي المصري حالة معنوية لم تنشأ قبل اليوم مرات في نفس رجل متكلم باللغة العربية، فالقول بان أطوار بعض الناس لا يعبر عنها بلغة فصيحة أو قريبة من الفصيحة قول ينم على جهل وعجز ورغبة في الشعوذة باسم المحاكاة الصادقة والتمثيل المطبوع، ونحن مع هذا لا نمنع اللغة العامية على المسرح بتاتا؛ لأنها قد ترد مورد المجانة فتملح في الذوق وتظرف في مواضعها من بعض الروايات، ولكنا نقول إن إنطاق العامي بالفصحى البليغة خير من إنطاق جميع الناس بلغة العامة، وعبارات المواقف التي لا سمو فيها ولا صيانة. •••
أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية، ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة، ويتكلمون من غير تجربة ولا روية، فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء، ولسنا نشترط أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو الفن، فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان. ولكنا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة، وسياسة الجماهير وأشباه هذه المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة العامة على لغة الخاصة إنسان له معرفة بالاثنتين.
أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد، وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك تكتب العامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار، فلا تؤدي مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل.
إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق، فلن يأتي اليوم الذي يكتب فيه فردوس ملتون بلغة العامل الإنجليزي، وفلسفة كانت بلغة الزارع الألماني، ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين، ويختلج في ضمائر النفوس، ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!
التاريخ1
إدوارد جيبون مؤرخ كبير، صائب الحكم، جميل النسق، واضح الأسلوب، ألف تاريخه المشهور في تداعي الدولة الرومانية وسقوطها، فكان أثرا لتلك الدولة باقيا ما بقي لها ذكر على لسان، وآية في عالم الأدب من أمتع ما كتب كاتب في تاريخ أو رواية، وسجلا للحوادث يتجلى فيه صدق الرجل وصبره، وطول أناته وحسن تخريجه وتعديله.
وكنت أقرأ هذا الكتاب فألمس فيه جلال القياصرة، وجلال العظماء، وأجمع فيه بين لذة القصص، وعبرة التاريخ، ثم قرأت عن مؤلفه قصة مضحكة فما زلت بعدها أتصفحه فيحضرني الابتسام، ويبدر إلي العبث بذلك المؤلف العظيم، ودولته البائدة ووقاره المهيب؛ وذلك أن مؤلفنا هذا كان مفرط السمنة ثقيل الجسم، ولكنه كان لا ينكر على نفسه حظها من الحب والغزل، فاتفق له مرة أن جلس إلى مليحة يكاشفها الحب، ويشكو إليها الوله والصبابة، ثم تمادى فخطر له أن يصنع كما يصنع العشاق من ذوي الكيس والرشاقة فركع بين يديها وأفاض في التذلل لها والتهافت عليها، ثم فرغ من شكايته، وحاول أن ينهض فأعياه النهوض ورزح بذلك الحمل الثقيل الذي ألقاه هو والدولة الرومانية معا تحت قدمي تلك المليحة اللعوب، فاستلقت ضحكا ولم تشفق على رصانة التاريخ ورصانة الحكمة أن تغرقهما في السخر والدعابة وتردهما بالخجل والخيبة، وكتب هربرت سبنسر مقالة عن «الضحك» فلم يجد هذا العالم الرزين مثلا يضربه للمفاجأة المضحكة غير هذا التناقض بين السمنة التي يحملها الأستاذ جيبون، والخفة التي يدعيها، والمجانة التي يتورط فيها، فكان ضحك العالم الحكيم بتلك العثرة الغرامية التاريخية مضاعفا لما فيها من الدعابة والهزل البريء.
تناولت جزءا من تاريخ الدولة الرومانية وفي ذهني هذه القصة، وعلى شفتي ذلك الابتسام، فجعلت أقرأ فيه فصلا بعد فصل، وحكما بعد حكم، وأتمثل جيبون بين أطلال الرومان يستملي العبر، ويستجلي الحقيقة، ثم أتمثله بين يدي تلك المليحة يتلقى الضحك، ويبوء بالخيبة فيخطر لي بين حين وآخر أن أداعبه وأداعب تاريخه الطويل، ودولته العريضة وأسأله: وما يدرينا يا مولانا جيبون أن الحقيقة كما وصفت والأمر كما يدعون؟
نامعلوم صفحہ