کتابوں کے درمیان گھنٹے
ساعات بين الكتب
اصناف
أيها القارئ، إننا نظلم الصورة إذا حسبنا عليها فضلا نمن به عليها من مشابهة الخواطر وتهييء الشعور، فالحق أنها هي في ذاتها وافية المعاني غنية بفضل إتقانها عن فضل تلك الصبغة التي يصبغها بها من ينظر إليها، وهي واحدة من الصور القلائل التي تجيء بها القريحة الملهمة على أتم مثال يبلغ إليه متأمل أو يطرأ على الخيال، فإن شئت دليلا على ذك فانظر كيف كان يمكن أن يصور هذا الموقف على وجوه كثيرة يتخيلها المتخيل قبل الشروع فيها، ثم انظر كيف اهتدى مصورها البارع إلى الوجه الوحيد الذي هو أجمع لمعانيها، وأليق بموضوعها، وأشبه بحظها من الوقار والجمال.
فقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يبدي لنا الفتاة الحزينة في صورة التفجع والقنوط، ويكون ذلك في بادئ الرأي أقرب إلى المقصود، وأقمن أن يلعج الحزن ويستدر الدموع، فلو أنه فعل ذلك لأبلغ في رأي السذاجة والذوق الغرير، ولكنه يضل محجة الإلهام، ويذهب بهيبة المقام، ويحد الخيال عن الاسترسال فيما وراء ذلك المنظر الذي تناهى به الحس إلى نهايته، وانصرف فيه إلى غاية منصرفة! وكان يحرمنا جلال هذا الصبر الذي كأنما يعتب على المقدار ولا يثور عليه، وكأنما يحلم بالحزن في غفوة التسليم، ولا يعالج كربته في عالم المنظور والمسموع، وكأنما يشفق أن يتوله بالألم في حضرة ذلك المزور الذي يأبى أن يظهره على غير التجمل والسكون، فكان جهد ما يرتقي إليه المصور أن ننظر إلى الفتاة فنقول: مسكينة هذه الفتاة الجزوع! وأين هذا من نظرة نرفعها إليها الساعة فنطامن الأنظار، ونحني الرءوس، وتتراجع لديها بين يدي حرم مهيب من الصيانة والوقار.
وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يجعل الفتاة على الضريح، أو مستندة إليه، أو جالسة إلى جواره، فلو أنه فعل ذلك لما تعدى حدود الواقع الذي نشهده في بعض هذه المواقف، ولكنه كان يقضي على الخوف الذي نراه ها هنا يحف بمدخل الفتاة إلى ضريح العزيز الفقيد، وكان يمحو عن الموقف هيبة تلك الحركة تقترب بها في حذار وشجو إلى قبلة خطواتها المثقلة ومطمح طرفها الكليل، والتي هي بحركات النفوس المعنوية أشبه منها بحركات الأقدام والأجسام، وعلى البعد السحيق الميئوس منه أدل منها على القرب الماثل الميسور، بل هو كان يطمس معالم تلك الخطوة المتروكة التي هي على قربها تمثل لك بعد الهاوية المستحيلة بين الحياة والموت وبين الحزين القائم على الثرى والفقيد المغيب تحت التراب.
وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يضع المنديل على عيني الفتاة فذلك هو موضع المنديل في حيث يكون البكاء، ولو أنه فعل ذلك لما لامه أحد من الذين يطالبونه بحرف التصوير ولفظه، ويغفلون عن غرضه ومعناه، ولكنه كان يحجب عنا وجها حزينا ليرينا قطعة من القماش المبلول، وكان يرينا البكاء عملا ماديا قوامه الجفون والأهداب وقطرات الدموع، ولا يرينا إياه حالة في النفس يستحضرها الخيال بما يقارنها من الأشجان والحسرات والإجهاش والانتظار، أي حالة لا يكون المنديل والدموع معها إلا علامة تشير إليها كعلامات النقوش الفرعونية تلوح أو لا تلوح على حد سواء، وفي مثل هذا البكاء يقول أبو الطيب:
ورب كئيب ليس تندى جفونه
ورب ندي الجفن غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته
سكون عزاء أو سكون لغوب
هذا هو البكاء الذي رسمه لنا صاحب الصورة بغير دموع ولا زفرات، وهذا هو السكون الذي تراه على تلك الطلعة الباكية فلا تدري أسكون عزاء هو أم سكون لغوب.
بل لقد كان يسع المصور أن يبدي لنا الفتاة في شارة غير هذه الشارة، وإطراقة غير هذه الإطراقة، ونظرة غير هذه النظرة، ووقفة غير هذه الوقفة، فلا يطالب بنقص ولا يحتج عليه بخلاف، ولكنه اختار في كل شيء فأحسن الاختيار، وقاس المناظر والضمائر فاهتدى إلى أتم قياس، ومثل لنا الشخوص البادية، ومثل لنا ما وراء الشخوص من قصة محجوبة، وتاريخ مجهول، فأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علما لا شك فيه أن الفتاة لم تقف على ذلك القبر موقف البنت على قبر الوالد، أو الأخت على قبر الشقيق، وإنما هي وقفة حليلة على قبر حليل تذكر له عشرة الروح، ومودة القلب، وتفي له وفاء من فقد الأليف والزميل، وأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علما لا شك فيه أن الحزن فيها حزن قديم، والرقدة في ذلك القبر المستور رقدة من مضت عليه أيام وأيام وشهور وشهور، وأن حنينا يدوم بعد فقيده هذا الدوام لهو الحنين الشريف الذي لا تعفي عليه دواعي الحس ولا تنسيه غواية الأجساد، ولا تمليه إلا ذكرى تعلق بالقلب الكسير والروح المشطور، وماذا نريد من مصور يعرض لك صورة فتاة حيال ضريح فإذا أنت أمام قصة وأمام تاريخ، وأمام وصف لا يعرفه العارفون إلا بالخبرة والسؤال؟ بل ماذا نريد من مصور يعرض لك رقعة صامتة، فإذا هو يقول لك فيها كل ما يمكن أن يقال في موضوعها بالريشة والألوان، وإذا هو يعرض لك في مساحة تلك الرقعة أقوى جبارين يجدون ويلعبون في رقعة الحياة، وأقدر ممثلين يتناوبون بيننا مصارع الغابرين والحاضرين، يعرض لك الجمال والشباب، والحزن والموت، يحدثك كل منها حديثه، ويفضي إليك كل منها بنجواه، ويقف من الرقعة موقفه الذي لا عي فيه ولا إسراف، تلك هي الغاية من التصوير، بل هي الغاية من كل فن جميل، وتلك هي الغاية التي اهتدى إليها مصورنا الألمعي القدير.
نامعلوم صفحہ