سبیل الحیات
سبيل الحياة
اصناف
هذه هي القاهرة كما عرفتها في حداثتي، وهي صورة مجملة، وموجزة ناقصة للحياة فيها. أما القاهرة الحديثة فلا حاجة بي إلى وصفها لأن كل قارئ يراها ويعرفها.
الفصل الثاني
أمي
لا أعرف الأمهات كيف يكن، ولكني أعرف أمي كيف كانت، وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول: أنها كانت «رجلا» وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن، وإن سرهن ما فيه من معنى الاكبار ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلى شيء من هذا؛ فقد اضطرت أن تمحق أنوثتها في سن يبدأ فيها النساء - أو معظمهن - يعرفن معنى الأنوثة الكاملة؛ فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها؛ وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها وأنساها أنها امرأة كالنساء، وكان أبي - رحمه الله - مزواجا، وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين، ومن فرط حبه لهن كرهتهن أنا؛ وكان يذهب كل بضعة أعوام إلى الآستانة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي غيرها، فيسرحها بإحسان ويردها ويجيء بغيرها، وهكذا.
وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر - أعني أنه أنفقه باليمين وبالشمال حتى أتى عليه - فلولا لطف الله لتسولنا، أو على الأقل لما أمكن أن نتعلم، ولكان المازني الآن - على الأرجح - نجارا غير حاذق، أو شيئا من هذا القبيل، ولكن أمي كانت حازمة مدبرة، فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب.
ولست أذم أبي أو أنتقصه، وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه، ولا تني تذكره بالخير؛ ولم تنقطع قط عن زيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنة عاشتها بعده؛ وكنت ربما مازحتها فأقول لها: «وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟»
فتبتسم وتزجرني بلطف، ثقة منها بأني أهزل ولا أتكلم جادا؛ فأتعمد الإثقال عليها وأقول: «صحيح والله! - ماذا كان يعجبك فيه؟»
فتقطب وتقول: «عيب يا ولد!» وتنظر إلى سبحتها بين أصابعها.
فأقول: «ولكنه كان مزواجا».
فتقول: «يا بني هذا قضاء الله وقدره؛ وما كنت أكره له هذا إلا خوفا عليه».
نامعلوم صفحہ