سبیل الحیات
سبيل الحياة
اصناف
ويتفق أحيانا أن نرى في الطريق رجلا يستوقف آخر لا لأنه يريد أن يفضي إليه بشيء ولا لأنه أوحشه - فلعله كان معه أمس أو قبل ساعات - بل لغير سبب ظاهر، ويقول أحدهما وهو يهز يد صاحبه: «كيف الحال؟» وكأنه يرجو أن يكون قد حدث شيء. فيقول الآخر: «الحمد لله» أو «لا بأس» أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهو يشعر بأن للفراغ الذي في رأسه مشبها لما في رأس سائله. وتعلو ذلك فترة صمت وجيزة تتلاقى في خلالها العيون متكلفة الابتسام وتتضاغط في أثنائها الأكف إذا كانت لم تفترق، ثم يرسل أحدهما نفسا طويلا وينظر إلى يمينه، ويذهب صاحبه ينظر إلى الناحية الأخرى وتكون الكفان قد ارتدتا إلى الجانبين، والرأسان مشغولين بالبحث عن كلام يصلح أن يقال وإذا بأحدهما يقول فجأة، وكأنه ذكر شيئا: «أستأذن» فيقول الآخر: «تفضل» ويفترقان ليكررا هذه السخافة كلما التقيا. وقد اتفق لي أنا مثل ذلك. ولكن سوء حظي كان يطيل الوقفة حتى كان يخيل لي أن الأمر قد صار يتطلب أن يدعى «البوليس» ليفصلنا. وقد علمتني التجربة أن خير وسيلة للفكاك من هذا الأسر في وسط الطريق العام أن تلقي إلى آسرك بنكتة، ولا تجعل بالك إلى قيمة النكتة ولا تعن نفسك ببراعتها أو موافقتها فإنه يكفي أن تقول شيئا وأن تضحك ليضحك صاحبك فتخلص يدك وتستطيع بعد ذلك أن تفر.
على أن هذه العادة مغتفرة إذا لم تكن متخذة سلما إلى غرض خفي، فقد وجدت البعض يستوقفني ويمطرني وابلا من الأسئلة يشغلني بالإجابة عنها، ولاحظت في كل مرة أنه كان في أثناء تجشمي تعب الإجابة، يلقي بالنظرة تلو النظرة إلى نافذة أمامه ويحني رأسه ويستر هذا الإحناء بحركات شتى، فلما أيقنت أنه يتخذ من وجودي مسوغا لوقوفه قبالة النافذة صرت أتعمد كلما لقيته هناك أن أحاوره وأداوره حتى أواجه أنا النافذة وأتركه هو بظهره إليها، وبذلك استأثرت بالنظر دونه.
وعلى ذكر العيون والنظر أقول إني بينت لإبني أن في وسع الإنسان أن يعرف حظ من يلقاهم في الطريق، من حسن التربية والتهذيب، وذلك من طريقة نظرهم إليك أو اجتنابهم النظر. فالرجل المهذب تراه هادئ النظرة ساكنها، وهو ليس شاردها ولكن في عينه ما ينم على شخصيته وما يكفي للدلالة على قدرته على الانصراف إلى التفكير في النفس، من غير أن يمنعه ذلك من أن يلاحظ كل ما يجري أمامه. وهو لا يحدج الناس بنظره ولا يتكلف أن يتهرب من مواجهتهم. إنما يحملق في الوجوه المتنطع أو المغرور، ولا يهرب من النظر سوى الحيي أو الخبيث. ومن الناس من إذا لقيته تغيرت نظرته عما كانت قبل بضع ثوان، ولعل هذا راجع إلى فرط الشعور بالذات أو إلى توهم المرء أن نظرته السابقة تشي بما في نفسه وهو يؤثر أن يكتمه.. ومنهم من يرد على نظرتك متحديا، وهذا أيضا ينبئ بالشعور بالذات.
ومن الناس من يأبى أن يسير إلا في منتصف الطريق غير متق أن يصادم أكتاف المارة فهذا رجل لا يتحرج أن يأكل ما أمامك. ومنهم من يمشي متحككا بالبيوت مؤثرا المواضع السهلة اللينة أو الخالية، فهذا ممن يعالجون أن يسيروا في حياتهم على هذا النحو مجتنبين فرائضها المتعبة. وآخرون لا يزالون يتلوون في الطريق وقد يقف أحدهم في وجهك وهو موليك ظهره فترتد حتى لا تصطدم به فيلقيك ارتدادك المباغت على صدر من يكون سائرا خلفك فيضطرب نظام الشارع كله. فهذا على الأرجح رجل لا يبالي أن يصنع مثل ذلك في ميدان السياسة أو الاجتماع.
وثم أناس يحلو للواحد منهم إذا رأى اثنين يتحادثان في الطريق ن أن يتلكأ ويقصر خطوه ليسترق السمع فهذا امرؤ ألفت عينه ثقوب الأبواب ولا يستغرب منه أن يتنزى إلى كل سوء. وهناك الصاخب الذي يتكلم في الطريق وكأنه يخطب حشدا عظيما، فهذا الأناني المقتحم، وأخيرا هناك الذين يكلمون أنفسهم وهم لا يشعرون، ولهم مع الكلام تلويح وتشوير. وقد حدث لي أن كنت سائرا فإذا برجل يقول في وجهي: «يا حفيظ! يا مغيث!»
فبهت ولكنه مضى عني كأن لم يرني.
بحسبي أن أفتح لابني عينيه لينظر، فإذا كان في رأسه خير فأخلق به أن ينفذ إلى الأعماق.
الفصل السابع
من ذكريات عابر سبيل
كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» فيقول - بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها - إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة - أي الزوجة - فإني لم أعد أدري أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟ ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت نفسي على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوبا عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوما أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج - كما هو معروف - من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أني كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين، فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا، فرأت زوجتي معطفا من الفرو ثمينا جدا فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكني نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية. فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضربا من الصرع أو التشنج أو لا أدري ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الإحصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلى أن أهلي - في حداثتي - خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جدا، فأنا من ذلك الحين أضطرب جدا جدا إذا وقعت عيني على الفرو ... فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت - سألته عن العلاج فقال: «أوه.. لا شيء.. لا داعي للقلق.. ولكن يجب ألا يرى الفرو أبدا..» والحق أقول إنه كان طبيبا بارعا جدا، فغن مرضي العصبي لم يعاودني بعدها أبدا.. والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو..
نامعلوم صفحہ