سبیل الحیات
سبيل الحياة
اصناف
فرغت من عملي، فوضعت القلم، ونهضت عن المكتب ورحت أتمشى، فلقيني زميل فسألني: «كيف ترى الخبر الفلاني؟»
قلت: «عظيم. وقد جعلته موضوع مقالي اليوم».
قال: «أنا جئت به».
قلت: «أهنئك. فمن أعطاكه؟»
قال: «قد والله سرقته!»
فضحكت وقلت: «اللص الشريف!»
وهممت بالانصراف عنه، بعد أن أثنيت عليه بالذي هو أهله. فقال: «بودي أن أعرف رأي الوزير فيما صنعت، وما أظن إلا أنه مغيظ محنق».
فقلت: «إن الخبر للنشر على كل حال، والخلاف بينك وبين الوزير على موعد النشر، وليس هذا الخلاف بالذي يثير الغضب».
وأقبل في هذه اللحظة زميل آخر فألقيت إليه خلاصة الحديث وقلت: إن الجريمة ليست في ارتكابها، بل في افتضاحها. ونحن اليوم نحرم السرقة، وتقول قوانيننا إنها محظورة، وإن عقابها كيت وكيت، ولكن (ليكرغ) في إسبارط القديمة كان يذهب مذهبا آخر فيقول بأن لك أن تسرق على ألا ينكشف أمرك، فإذا انكشف كان عقابك صارما. والنتيجة واحدة، فإن السارق الذي يستطيع أن يستر فعله لا يصيبه شيء. وما يعاقب إلا الذي يعجز عن إخفاء ما صنع، ويثبت عليه ارتكاب الفعل.
ووجه آخر للمسألة: زميلنا هذا قد سرق شيئا، لم يسرق خبزا ليأكل، ولا مالا لينفق على نفسه وعياله، أو يوسع رزقه، ولكنه مع ذلك سرق شيئا في سبيل رزقه، فإن رزقه يتطلب منه أن يوافي الجريدة بطائفة صالحة من الأخبار التي تعني القراء، وصاحب الجريدة لا يكلفه السرقة، ولو فعل لكان هذا منه شططا غير مقبول، وأمرا لا يطاع، ولكن الزميل مع ذلك رأى أن قيامه بواجبه يبيح له استقاء الأخبار بهذه الطريقة العوجاء، وهو - كما تعلم - سني متدين، غير أن كونه سنيا ومتدينا لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفا أو بيضة لكان جزاؤه ما بينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت «معدة ثعلبها لا حس، وتارة أرنبها ضاغب» كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع له ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحب عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، أو سارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء لكان للمحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرىء سارق المذكرة. وقد نرى القاضى أن الفاقة «ظرف مخفف» - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده «ظرفا مبرئا».
نامعلوم صفحہ