المقدمة
مقدمة المؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
المقدمة
مقدمة المؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
67
67
تأليف
صنع الله إبراهيم
المقدمة
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء، يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي. «نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!»
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة. فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
مقدمة المؤلف
في بداية صيف سنة 1968م سافرت بالباخرة إلى بيروت، وأقمت ثلاثة أشهر في منزل أحد زملائي في وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية (الذي تبينت بعد ذلك أنه كان على علاقة وثيقة بالمخابرات المصرية). وخلال تلك الفترة كنت أتكسب عيشي من ترجمة ملخصات للروايات الأمريكية لدار «النهار»، وأعمل على روايتي الثانية - بعد «تلك الرائحة» - في انتظار وثائق تعييني في القسم العربي بوكالة أنباء ألمانيا الديمقراطية «الشرقية».
أطلقت على الرواية اسم «67» ولم أفكر في محاولة نشرها بمصر لبعدي عنها ولظروف الرقابة وقتها، وشجعني جو السماح السائد في لبنان (رغم سيطرة السفارات الأجنبية على وسائل الإعلام بها) فقدمتها إلى عدة دور للنشر رفضتها جميعا، أتذكر منها الدار التي أنشأها نزار قباني لتقتصر على نشر كتبه، ودار الآداب التي أسسها سهيل إدريس. وكتب لي سهيل إدريس رأيه الرافض بخط دقيق في ورقة صغيرة للغاية - ضاعت مني للأسف خلال أسفاري - برر فيها موقفه بأن بطل روايتي مصاب بهوس الجنس. وكان سهيل قد نشر للتو روايته «الخندق العميق» التي يمكن إلصاق نفس التهمة بها.
انشغلت بعد ذلك عن محاولة نشرها بأسفاري وبالعمل في روايتي التالية «نجمة أغسطس»، التي أتممتها في موسكو مطلع عام 1973م. وعند عودتي إلى مصر في العام التالي كنت قد نسيت أمر رواية «67»، وانشغلت بمشاغل الحياة وبمحاولة كتابة رواية جديدة، كما وجدت أن الأجواء السياسية والاجتماعية السائدة لا تساعد على نشر رواية كتبت في ظروف معينة وبحرية تامة، كما أنها قد تستخدم من قبل القوى اليمينية في حملاتها ضد الناصرية والاشتراكية. وهو وضع استمر طوال السنوات التالية (45 سنة منذ كتابتها)، إلى أن قامت ثورة 25 يناير 2011م.
أسفرت هذه الثورة - رغم فشلها في تحقيق أهدافها - عن نتيجة فورية وهي اتساع مساحة التعبير بشكل غير مسبوق.
وفي مراجعتي لأحد المخابئ التي أستخدمها تحسبا لزيارة مفاجئة من رجال السلطة عثرت على مخطوطة الرواية. كنت قد نسيت أمرها تماما فقرأتها باهتمام، وداعبتني على الفور الرغبة في محاولة نشرها؛ فقد تبينت الدور الذي تمثله كحلقة من حلقات تطوري الإبداعي، وشهادة على فترة حافلة في تاريخ البلاد. ترددت طويلا قبل الإقدام على هذه الخطوة، لكن أصدقائي شجعوني بالإضافة إلى شعوري بقرب النهاية المحتومة لرحلتي.
أبقيت على النص الوارد في المخطوطة كما هو دون تغيير، فيما عدا تصويب الأخطاء اللغوية، وتدبرت القيام ببعض الإيضاحات وأساسا بالنسبة لقضية «المترو». ففي التاريخ الذي جرت فيه أحداث الرواية كان يطلق على الترام الذي يربط أنحاء حي «مصر الجديدة» اسم «المترو»؛ لما تميز به من وجاهة! والآن - في تاريخ النشر - صار هناك «مترو» حقيقي في الحي إلى جوار «الآخر» القديم، فلزم التصحيح منعا للالتباس. لكن الصديق علي الفارسي أقنعني بالإبقاء على المترو القديم والاكتفاء بهذا الإيضاح.
ص. إ.
الفصل الأول
قال
أخي إنه لن يشرب الليلة لأنه سيعمل في الصباح. وقالت زوجته: كيف يعمل المرء في أول العام الجديد؟! أفرغت كأسها كلها وقامت تحضر واحدا آخر. وقالت
سعاد
إن زوجة أخي فظيعة. غادرت مقعدي وعبرت الصالة حيث كانت
إنصاف
تجلس بمفردها بجفون منتفخة وشعر غير مرتب يملؤه البياض. قالت إنها تتمنى لي عاما سعيدا. وتأملت الحاضرين، ثم قالت: هو وحده الذي ينقصنا. وقالت: لا بد أن نبني له قبرا. كيف نتركه هكذا في قطعة أرض لا تحمل حتى اسمه؟ لماذا يحرمونه حتى من اسمه؟ ألا يكفي أنهم قتلوه بعد تعذيبه؟ كانت عيناها الآن حمراوين. قلت: لقد نسينا أن نزور قبره في ذكرى وفاته. قالت: ذهبت أنا بمفردي. لم يعد أحد يذكره الآن، والذين لم يكونوا شيئا أصبحوا كل شيء. وهو أحسنهم وأشجعهم. تأملت رجلا أنيقا في الخامسة والأربعين ذا وجه محتقن متعب قام يملأ كأسا كبيرة بالخمر. سألتها إذا كانت تريد شيئا من الشراب فقالت: لا. قلت: سأشرب أنا. تقدمت من الطاولة التي صفت عليها عدة زجاجات من النبيذ والبراندي الرخيص، تحيط بزجاجتين من الويسكي جاء بهما أحد الحاضرين، مع زجاجة ثالثة أخفتها زوجة أخي. التقت عيناي بعيني
صادق
وكان منهمكا في الحديث إلى فتاة أجنبية جاءت معه. لم تكن ترفع عينيها عنه أو يكف جسدها عن الحركة. أما هو فلم يكن يرفع يده عن بين ساقيه. أشار لي رمزي من بعيد أن أحضر له كأسا فحملت له واحدة. وعبرت الصالة عائدا فرأيت زوجة أخي ترحب بعجوز ملأت وجهها بالأصباغ. قالت لي زوجة أخي إن العجوز كلمتها في التليفون وقالت إنها تريد أن تأتي لأن ابنها خرج مع زوجته، ولو ظلت هذه الليلة بمفردها ستبكي. اتجهت العجوز إلى ركن وحملت إليها كأسا. عدت إلى
إنصاف
فوجدتها تتحدث مع زوجة
عادل . قالت إنها ما زالت تدفع إيجار شقتها في المحكمة لأن صاحب المنزل يرفض الاعتراف بالتخفيضات. وكانت عينا زوجة
عادل
المتعبتان شاردتين كأنما تفكر في شيء ما، أو تصغي لحديث داخلي. سألتها عن زوجها فهزت كتفها وقالت: ربما يأتي. قلت لإنصاف: لو جاءت ابنة أختها الليلة سأطلب منها أن تتزوجني. نظرت
إنصاف
إلى زوجة أخي وقالت إن لها ذراعين جميلتين. وكانت زوجة أخي تتحدث في استغراق مع رجل لا أعرفه. كان ذراعاها بيضاوين ممتلئتين بانسياب من حنية الكتف حتى راحة اليد، ومشدودتين مثل ساقيها. ورأيت كأسها فارغة فحملت كأسين إليها وإلى رفيقها. توقفا عن الحديث بمجرد اقترابي، وقدمته إلي على أنه صديق أخي. ناولتهما الكأسين وعدت إلى طاولة الشراب فحملت كأسا أخرى وبحثت عن أخي فوجدته في غرفته مع الرجل الأنيق ذي الوجه المحتقن المتعب وامرأة تبدو زوجته. قدمه لي أخي على أنه رئيس مجلس إدارة الشركة التي يعمل بها. وعاملته باحترام فانتفخ. عدت إلى الصالة فوجدت
سالم
وزوجته قد وصلا، وكان حاجباها مرفوعين إلى أعلى في تحد كعادتها، وبالمثل كان صدرها. أزحنا المقاعد جانبا، وبدأ البعض يرقص في خجل. جلست بجوار
فؤاد ، سألته لماذا لا يرقص مع
سعاد ؟ قال إنه لا يشعر بالرغبة في ذلك، وقال إنه أصبح في الأربعين. قلت: آن لك أن تتزوج. اقتربت
سعاد
منا وهي تحرك قدميها وتدعوه إلى أن يشاركها، ثم ابتعدت غاضبة. قال إنه يخشى هذا اليوم دائما ويشعر فيه بانقباض. وقال إنه سمع باعتقال البعض منذ أسبوع. قلت: لماذا؟ قال: لا أحد يعرف. انضم إلينا
صادق
وسألني إن كنت قرأت مقاله الأخير. قلت: إني لا أقرأ المقالات أبدا. قال إن
عادل
كف عن الكتابة من مدة وبدأ يعمل في الإعلانات. قال
فؤاد : لا أراه هنا الليلة رغم وجود زوجته. قال
صادق
إن له علاقة بواحدة أخرى صغيرة. لمحت
رمزي
واقفا بمفرده فذهبت إليه. في الطريق قذفتني العجوز ذات الأصباغ بكرات ملونة وهي تضحك ببلاهة. قال
رمزي
وهو يشير إلى الفتاة التي أحضرها
صادق
معه: لا أدري من أين يقع عليهن. وقال إنها تبدو مغرمة به، ولكن الأمر لن يتجاوز هذا الحد؛ فسيهرب في الوقت المناسب. سألته عن
عواطف
فقال إنه قضى معها وقتا سيئا بالأمس. وقال إنها مشكلته الأزلية في الفراش، فإما أن يصل قبل الوقت المناسب أو لا يصل مطلقا. وقال إن
صادق
شيء لا يصدق؛ فهو يعبث بجسمه طوال الوقت، وعندما يجلس لا يكف عن الحركة إلى أعلى وأمام. وقال إنه لم يكن يتصور زوجة أخي فاتنة هكذا. كانت كأسي قد فرغت فغادرته، ودق جرس الباب فاتجهت نحوه، لكن القادمين كانوا رجلا عجوزا وزوجته وابنته. ورحبت بهم زوجة أخي وقالت لي إنهم جيران قدامى. وكانت البنت في الأغلب صغيرة وتضع قناعا تنكريا على وجهها. وألفيت نفسي بجوار زوجة رئيس أخي فدعوتها إلى الرقص. قالت: لا أعرف ما إذا كنت سأتذكر. كانت سمراء طويلة في الأربعين. وضعت يدي حولها وألصقت جسمي بجسمها وبدأنا نتحرك. قالت: لنتحرك ببطء حتى لا نصطدم بأحد. كان هذا مناسبا لي فلم أكن خبيرا بالرقص. تحركنا ببطء وقد التصقت بها تماما دون أن تعترض. وتوقفنا عن الرقص بعد قليل بسبب ضيق المكان. وكان
صادق
ما زال مع
فؤاد
وقد انضم
رمزي
و
سالم
إليهما. ألفيتهم يتحدثون في السياسة. وقال
فؤاد
إن القائد القديم يقضي الوقت كله في تربية البط ويصفه في طابور صباحا ومساء، ويستعرضه بلا موسيقى. تركتهم وبحثت عن زوجة أخي فوجدتها تجلس بجواره. سألتهما: لماذا لا ترقصان؟ قال أخي إنه لا يعرف. وقفت زوجة أخي قائلة: سأرقص معك. أحطتها بذراعي وأرحت أصابعي على ظهرها العاري. قالت إن غرامي فيما يبدو لم تأت. حركت أصابعي على ظهرها ولمست العقد الثمين الذي أهداه لها أخي بمناسبة العام الجديد. قلت: لو عرفتك قبل أن تتزوجي أخي لتزوجتك أنا. قالت: ما كنت سأنظر إليك وقتها لأنك كنت صغيرا. ضممتها إلي حتى التصق جسدانا وأسندت خدي إلى خدها. قلت: ليس الفارق في السن بيننا كبيرا. سنتان فقط. خلال شهور قليلة سأتم الثلاثين. نظرت إلى عيني وابتسمت وقالت: ضمني أكثر. رفعت يدي عن ظهرها حتى استقرت على ساعدها الممتلئ المشدود عند الكتف، وقربت أنفي من إبطها. لم تكن لها رائحة. قذفتنا عجوز الأصباغ بالكرات الملونة وهي تضحك. وضغطت زوجة أخي يدي فجأة محذرة قائلة إن أخي ينظر إلينا. تركتها وابتعدت قائلا إني سأدخن. أشعلت سيجارة، ثم اتجهت إلى أخي الذي يكبرني بعشر سنوات وكان قد بدأ يشرب. قلت: أقررت ألا تعمل غدا؟ قال: شيء من هذا القبيل. وأمامنا كان رئيس أخي قد استند إلى الجدار وفك رباط رقبته، وبدا وجهه شديد الاحتقان وهو يحاول احتضان زوجة عادل. قال أخي إن رئيسه كان ضابطا فقيرا، وإنه الآن يلعب بالآلاف، وقال إنه التقى به لأول مرة في
فلسطين . تركته إلى جهاز الأسطوانات فأوقفته وبحثت عن أسطوانة
زوربا
فوضعتها فوقه وأدرته من جديد. اقترب مني
رمزي
وقال إن الكلمات اليونانية تبدو حزينة للغاية. قلت: سمعت أنها كتبت في السجن. انضم إلينا
فؤاد . سأله
رمزي
عما إذا كان ما يزال في نفس المكتب. قال إنهم نقلوه إلى فرع آخر من الشركة بعد التلاعب الذي اكتشفه. تطلعت حولي ورأيت زوجة أخي ترقص مع
صادق
وقد أمالت رأسها على كتفه، وكان أخي يرقبهما من مكانه. وكانت عجوز الكرات الملونة تضحك وهي تجمع الكرات من كل مكان في الصالة وتقذف بها
صادق
وزوجة أخي. مشيت إلى المائدة التي وضعنا عليها بعض الطعام. وجدت الحلوى التي يحبها أخي قد قاربت على الانتهاء. حملت إليه ما تبقى منها، وذهبت أملأ كأسي. كانت الساعة قد أوشكت على الثانية عشرة. بحثت عن زوجة أخي ووجدتها تقف إلى جواره. مشيت في بطء كي لا أهتز. طلبت من الفتاة الصغيرة ذات القناع أن تراقصني، وكانت أمها ما زالت في مقعدها لم تبارحه، أما أبوها فكان قد بدأ يضحك، وخلع سترته كاشفا عن كرشه الكبير. قالت الفتاة إنها رأتني من قبل وأنا لا أذكر. قالت إن اسمها
عفاف ، وإنها في أول سنة بالجامعة. طلبت منها أن أقابلها فأعطتني رقم تليفونها. وعندما أطفئوا النور حاولت أن أنزع قناعها لأقبلها، فتعثرت أصابعي في خيوطه ولم أتمكن من خلعه. أضيء النور من جديد. كان الجميع يضحكون فيما عدا أخي الذي بدا غاضبا لأمر ما. وذهب يملأ كأسه. وتقدمت مني زوجته. قلت لها إني رأيت أن
صادق
يجيد الرقص، ضحكت وقالت إنه خجول جدا، وفي العام الماضي ذهب معهم إلى الشاطئ وخجل أن يخلع ملابسه وينزل إلى الماء، لكن الطفلة أجبرته على ارتداء المايوه وطاردته في الماء، فبقي به عدة ساعات وكان سعيدا كالأطفال. وقالت إن زوجته تقول إنه لا يقربها إلا مرة واحدة في العام. وقالت إنه طيب للغاية. إنسان حقيقي، والوحيد الذي تجده بجوارك في محنتك. ناداها أخي فذهبت إليه. اقترب مني
فؤاد
وقال إنه يريد الانصراف لأن أمامه مشوارا طويلا إلى
المقطم . وقال: لا بد أن تأتي وترى شقتي الجديدة فهي تطل على
القاهرة
كلها. وسألني: أما زلت تقيم هنا؟ قلت: لم أجد بعد مكانا آخر. انصرف
فؤاد
ورافقته حتى الباب، وعندما عدت رأيت أخي يحاول احتضان زوجته من الخلف، فنحته عنها غاضبة. مشى مترنحا إلى ركن فارتمى على مقعد ثم انحنى إلى الأمام وأفرغ كل ما في جوفه. وقالت لي
إنصاف
إنها تود الانصراف، فقلت لها إني سأذهب بها إلى منزلها. ذهبت إلى حجرتي فأخذت معطفي، وعندما عدت إلى الصالة وجدت زوجة أخي تزيل الآثار التي خلفها أخي. صحبت
إنصاف
إلى الخارج وأمسكت بيدها أساعدها على هبوط السلم. هبطت بصعوبة شديدة كعادتها. ووقفنا في الطريق ننتظر تاكسيا. كان منزلها قريبا لكن المشي كان عسيرا عليها. ووجدنا تاكسيا أخيرا حملنا إلى منزلها. صرفت التاكسي ورافقتها إلى باب شقتها. انتظرت حتى دخلت وأضاءت النور. ورأيت الصورة الكبيرة المعلقة في الصالة والتي يبدو زوجها فيها بقامته الطويلة. ودعتها وانصرفت. وكان الهواء باردا في الطريق لكنني رغبت في السير. ارتديت معطفي وأحكمت إغلاقه حول عنقي، ووضعت يدي في جيوبي ومشيت. كانت شوارع
مصر الجديدة
هادئة كالعادة، وضجة الاحتفال بالعام الجديد تنبعث من بعض المنازل. مشيت طويلا وأنا أستنشق الهواء النقي، ثم اتجهت إلى المنزل. ووجدت الأنوار كلها مطفأة. فتحت الباب وأضأت النور، وذهبت إلى المطبخ وأضأت نوره، وعدت إلى الصالة فأضأت نورها. كانت زوجة أخي قد أزالت بقايا الطعام والشراب وأعادت شيئا من النظام إلى الأثاث. وكانت غرفة نومها مفتوحة ومظلمة، وكانت غرفة أخي مظلمة أيضا وبابها مغلقا. دخلت غرفتي وأضأت نورها. خلعت ملابسي ثم دخلت الحمام وأشعلت السخان. غسلت قدمي، ولمحت بعض الملابس الملونة في إناء الغسيل البلاستيكي. مددت أصبعي في الماء ورفعت منه قطعة صغيرة من ملابس زوجة أخي الداخلية. تأملتها في الضوء، ثم أعدتها إلى مكانها. وذهبت إلى المطبخ فشربت كوبا من الماء وأطفأت نوره وأغلقت بابه. أطفأت نور الصالة وتوقفت أنصت، كانت هناك همهمة خافتة تنبعث من غرفة أخي. ولجت حجرتي وأطفأت نورها وتمددت فوق الفراش. أشعلت سيجارة، ثم أطفأتها بعد نفسين. التففت جيدا بالأغطية واستدرت على جانبي، ونمت على الفور، ثم وجدتني أحدث
إنصاف
في التليفون وكانت تسألني عن شيء ما حدث في الماضي. انتهى الحديث ودخلت أنام في زنزانة وكان بابها محطما وقضبانه كقضبان الأقفاص. حاولت إصلاحها لأحكم إغلاقها علي خوفا من شخص ما. ونمت واستيقظت فجأة على رائحة أبي. شممتها من رذاذ فمه المتناثر على وجهي مثلما كان يحدث عندما كان يرقيني وأنا صغير؛ فقد كان يقرأ بعض الآيات ويده على رأسي، ثم يتوج ذلك بالبصق في وجهي. ورأيت جسما أسود في فرجة الباب، ثم تبينت عينين مرعبتين. صرخت، وفكرت. إنه ليس كابوسا لأن صوتي كان واضحا وفي الكابوس لا يخرج الصوت مطلقا. وبدأ أبي يرقص في فرجة الباب، ثم اتخذ صورة الشيطان. ظللت أصرخ حتى استيقظت. قمت وأضأت النور، وجلست فوق حافة الفراش وأشعلت سيجارة. وعندما انتهت السيجارة أطفأت النور وعدت إلى النوم .
الفصل الثاني
كان
الطريق قذرا موحلا وقد تلاشت معالمه من ذاكرتي. وقلت
لسعيد
إني ما كنت سأعرف المنزل لو جئت بمفردي. قال إن أمه منذ أسبوعين تلح على رؤيتي. قلت: لعلها أحسن حالا الآن. قال: ما زالت تعتقد أن أخي على قيد الحياة، وأنه سيأتي ذات يوم. أردت أن أصدق ذلك للحظة، لكنى كنت أعرف أنهم ضربوه حتى مات، ثم أخفوا جثته. وجدنا أمه متربعة على فراشها ورأسها ملفوف بلفاعة بيضاء. وكان وجهها الأبيض صبوحا. قالت إنها غاضبة مني لأني لم أزرها. قلت: لعلي أنتظر أنا أيضا عودة ابنها. قالت إنه أرسل لها منذ أسبوع أنه قادم لكنه لم يأت. نظرت إلى
سعيد ، ثم إليها وقلت: سيأتي بالتأكيد. قالت إنها أعدت لي كبدة محمرة كالعادة. قلت إني لن آكل لأن لدي عملا. ونظرت إلى ساعتي. كان أمامي ساعة على موعدي مع
عفاف . قلت إني سآتي مرة أخرى. ورافقني
سعيد
إلى أول الشارع. أخذت الأوتوبيس إلى منزل
رمزي ، وكان يقيم بمفرده في الناحية الأخرى من
مصر الجديدة . نزلت في الشارع الرئيسي وانطلقت إلى الشارع الجانبي الذي يقع منزل
رمزي
على ناصيته. كان الهواء باردا لاسعا كالعهد بشهر
فبراير . مشيت بجوار سور طويل من الآجر الأحمر تبدو منه حديقة مهجورة. وكان بالسور باب حديدي صغير عليه لافتة تحذر من الكلاب، وبجواره واجهة زجاجية عريضة كواجهات الحوانيت لا يبين شيء من ورائها بسبب مصاريع خشبية مثبتة من الداخل، وفوق الحانوت الغريب كانت هناك لافتة بالخط الكوفي تتألف من هذه الكلمات: كان يا ما كان. ولم يحدث أن رأيت ما بداخل الحانوت من قبل؛ ففي المرات التي مررت فيها من هنا كنت أجد المصاريع الخشبية مغلقة، وأنسى دائما أن أستفسر من
رمزي . بلغت المنزل الذي يسكن طابقه الثالث، وكان البواب مضطجعا كعادته أمام المدخل في مقعد من القش وقد بدت ذقنه البيضاء المشذبة أنيقة، وأمسك بالقرآن. صعدت السلم وكان المفتاح معي ففتحت ودخلت. خلعت سترتي وطفت بأرجاء الشقة، عثرت على نصف زجاجة براندي فصببت منها في كوب زجاجي ، وجلست في الصالة أدخن أمام التليفون، ودق جرس الباب فأسرعت أفتح لعفاف. كانت تلهث وقالت إنها صعدت السلم جريا، وإن البواب رماها بنظرة نكراء. أخذتها من يدها إلى الصالة وأجلستها على أريكة وجلست أمامها. قالت إنها وجدت صعوبة في العثور على المنزل، وإن وصفي له لم يكن دقيقا. انتقلت إلى جوارها واحتضنتها وقبلتها في فمها، ولم تكن تعرف كيف ترد القبلة. وتمددنا على الأريكة، وبعد لحظة قامت وخلعت ملابسها، وقالت إن الدنيا برد، فأحضرت غطاء من حجرة النوم. خلعت ملابسي ورقدت إلى جوارها، وعندما حاولت أن ألمس صدرها رفضت، لكنها تركتني أعبث بكل مكان آخر في جسمها، وقالت إنها طوع أمري لو شئت أن أجعل منها امرأة. وكنت مشدودا لكني لم أتمكن منها. كانت رائحتها نفاذة فحولت أنفي بعيدا. أجلستها أمامي وحاولت مرة أخرى لكني لم أكن قويا بما فيه الكفاية، وحاولت من جديد أن أنتهي بأي شكل ففشلت أيضا. وتمددت بجوارها متعبا. قالت إنها لا بد أن تذهب حتى لا يقلق والدها. وقامت إلى الحمام فغسلت وجهها وسوت شعرها. وذهبت أنا إلى حجرة النوم ووقفت أمام المرآة أتأمل نفسي عاريا، كنت ما أزال مشدودا. وعدت إلى الصالة فوجدتها ترتدي ثيابها، ارتديت ثيابي أنا الآخر وغادرنا الشقة، وتركت المفتاح في مكان خفي بأعلى بابها. صحبتها إلى محطة الأوتوبيس وسألتني متى سنلتقي، قلت إني سأتصل بها. وعدت أدراجي مشيا إلى منزل أخي، فاشتريت علبة سجائر من البقال المواجه، وتأملت وجهه الذي يحمل دائما تعبير من يوشك على البكاء، ولم يكن هناك أحد في شقة أخي، فدخلت غرفتي وأغلقت بابها خلفي. خلعت حذائي وتمددت على الفراش بملابسي وأشعلت سيجارة، وتطلعت إلى حقيبتي فوق خزانة الملابس، ثم رأيت الكراسة التي كنت أكتب فيها بالأمس ملقاة على المكتب. قمت وجلست إلى المكتب. قرأت آخر ما كتبته، ثم جذبت أحد الأدراج ووضعت الكراسة به وأغلقته بالمفتاح ووضعت المفتاح في جيبي. رن جرس التليفون فخرجت إلى الصالة ورفعت السماعة. كان أخي يسأل عن زوجته، قلت إني بمفردي في المنزل. طلب مني أن أسأل جيراننا فربما تكون قد تركت
نهاد
تلعب مع أولادهم. وضعت السماعة بجوار الجهاز وغادرت المسكن وطرقت باب الشقة المجاورة. قالوا لي إنهم لم يروا زوجة أخي أو ابنته اليوم. عدت إلى أخي فأبلغته بما قالوه، وأعدت السماعة مكانها فوق الجهاز. دق التليفون مرة أخرى وكانت
إنصاف
هي التي تتحدث هذه المرة، قالت إنها تريد أن تبكي. سألتها: ماذا حدث؟ قالت: لم يحدث شيء. وطلبت مني أن أذهب إليها. أعدت السماعة مكانها وذهبت إلى حجرتي فارتديت حذائي ومعطفي وخرجت. ألفيتها منحرفة المزاج وقد برزت جفونها المنتفخة. قالت إنها لا تعرف ماذا حدث لها، لكنها ضاقت فجأة بكل شيء. وكانت أختها تجلس على مقربة، وهي عجوز جافة لا تخلع السواد أبدا، وتدقق النظر من خلف عوينات قديمة في قماش تحيكه. قالت
إنصاف
إنها تريد أن تذهب إلى السينما، فأخذتها إلى فيلم «هيروشيما حبيبي»، وكانت زوجة
عادل
هناك بمفردها. وجلست
إنصاف
بجوارها وجلست أنا خلفهما. وعندما انتهى الفيلم وأضيئت الأنوار وقفت زوجة
عادل
بعينين مغرورقتين وقالت إنها لا بد أن تذهب على الفور وانصرفت. قالت
إنصاف
ونحن في التاكسي الذي حملنا إلى منزلها: كيف يمكن أن ينسى الإنسان أو لا ينسى؟ وأمام باب شقتها دعتني إلى الدخول، فقلت إني لم أذهب بعد إلى الجريدة، ونزلت إلى الشارع. سرت إلى محطة المترو ثم غيرت رأيي واتجهت إلى الشارع الذي يمر به الأوتوبيس. لمحت شابا وفتاة يسيران على مهل وقد أحاطها بذراعه. تابعتهما ببصري، ولمحت التليفون في كشك سجائر قريب، فذهبت إليه واتصلت بمنزل أخي. ردت علي
نهاد
ذات الخمسة أعوام وقالت إن أمها كانت تبحث عني، وجاءت زوجة أخي على التليفون وقالت إنها كانت تريد أن تراني، قلت إني كنت بالمنزل ولم يكن به أحد. قالت إنها ضاقت بالمنزل فجأة فأخذت
نهاد
وذهبتا إلى الكازينو المجاور. قلت إني ذاهب إلى الجريدة وربما أكلمها من هناك. صعدت إلى الأوتوبيس ووقفت بجوار فتاة ممتلئة الجسم ، ولم يكن الزحام شديدا . فككت أزرار معطفي، وانتهزت فرصة مرور المحصل فالتصقت بها، ثم ابتعدت وتطلعت حولي. لم يكن أحد ينظر إلي، وكانت هي الأخرى تتطلع حولها دون أن تنظر ناحيتي. وتوقف الأوتوبيس فجأة في إشارة مرور فطوح بنا جميعا، وانتهزتها فرصة لأعاود الالتصاق بها. استدارت هي قليلا حتى أصبح جسمها كله على ساقي، وبقينا هكذا فترة، ثم خلا المقعد المقابل فجلسنا متلاصقين وقد تلامست ركبتانا. وبعد لحظة أبعدت ساقيها في هدوء، وانصرفت إلى تأمل الطريق من النافذة. أشعلت سيجارة وأنا أنظر أمامي في لوح الزجاج المظلم المثبت خلف السائق، ونزلت أمام
الأمريكين . دخلت الحانوت وأكلت قطعتين من الحلوى، ولمحت
سلوى
تشتري صندوقا من الشوكولاتة. مشينا سويا إلى الجريدة، وكان المارة يتمهلون ليحدقوا فيها. كانت بيضاء ممتلئة، جعل الكحل عينيها في سعة الفنجان، وأوشك شعرها الأسود الفاحم أن يغطي إحداهما. وكانت تتابع من ينظرون إليها ببصرها، ورأيتها تتطلع باهتمام إلى شاب مفتول العضلات توقف في منتصف الطريق ينظر إلينا، ثم تأملت بفضول شابا وفتاة يسيران متلاصقين. كانت تكلمني وهي تتابع يد الشاب تمتد لتحيط بكتف الفتاة. وأخذنا المصعد سويا. دعتني إلى الصعود معها إلى مكتبها فقلت إني سأفعل بعد قليل، وغادرتها في الطابق الذي يقع به مكتبي. مررت بغرفة الرسامين وتطلعت داخلها بحثا عن امرأة لا أعرفها ذات عينين سوداوين لامعتين كانت قد ابتسمت لي من يومين فلم أنم ليلة بكاملها. لم أجدها، فولجت الصالة التي يقع مكتبي في نهايتها. جلست بمفردي أمام أربعة مكاتب خالية، وأتاني ضجيج المطبعة من أسفل، وخلفي أدار أحدهم جهاز راديو، وكان
عبد الحليم حافظ
يغني بحماس: مشغول وحياتك مشغول.
الفصل الثالث
أفرغت
كوب البيرة ووقفت، وتناول
رمزي
كتابه. وسأل
توفيق : إلى أين؟ قال
رمزي
إننا
وعدنا
كامل
بزيارة معرضه. وتركنا
توفيق
على رصيف المقهى، ومشينا إلى ميدان التحرير. قال
رمزي
إنه كف عن الكتابة منذ مدة؛ فلا أحد يريد أن ينشر له شيئا. عبرنا ميدان
التحرير
وانطلقنا فوق الكوبري إلى الجزيرة. لم يكن بصالة العرض أحد غير
كامل
نفسه جالسا أمام دفتر كبير أعد لتدون به ملاحظات الزائرين، وكانت لوحاته تغطي عدة جدران وكلها عن السد العالي، وبعضها كان اسكتشات صغيرة للنيل والآلات وهي تنتزع الصخر من الجبل، ولمبنى محطة الكهرباء الضخم. توقفت أمام لوحة كبيرة لم تكن بها غير خيوط ملونة كخصلة شعر هائلة تقترب من بعضها في أحد الأمكنة وتكاد تتلامس، ثم تتباعد فجأة وهي في حالة تموج وحركة طول الوقت. غادرنا المعرض أخيرا بعد أن كتبنا عدة كلمات في دفتر صاحبه. اتجهنا إلى الكوبري وكان رمزي يتحدث طول الوقت. وتوقفنا أمام أحد الأسدين اللذين يقومان على حراسة طرفي الكوبري. انحنى رمزي ليتأكد من أنه لا يوجد بين ساقي الأسد شيء. وواصلنا السير فوق الكوبري. كانت الشمس قد غابت. وعندما بلغنا الميدان قلت إني متعب وسأعود إلى منزل أخي. قال إن لديه موعدا في وسط البلد. افترقنا وسرت إلى محطة الأوتوبيس وركبت سيارة لم تمتلئ بعد، فاخترت مقعدا بجوار النافذة، ونزلت في محطتي. أخذت علبة سجائر من البقال، ثم اشتريت قطعة شوكولاتة لابنة أخي. عبرت الشارع إلى المنزل، وفتحت لي
نهاد
فأعطيتها الشوكولاتة. قالت إن بابا لم يعد بعد وإن ماما في المطبخ. مضيت إلى غرفتي فأضأت نورها وأقنعت
نهاد
بأن تتركني، ثم أغلقت الباب وجلست أمام المكتب. أخرجت المفتاح من جيبي وفتحت الدرج وأخذت كراستي. أمسكت بالقلم وجلست أتأمل الصفحة البيضاء دون أن أكتب شيئا. فتحت زوجة أخي الباب وقالت إن
إنصاف
سألت عني، وإن أخي تكلم الآن وقال إنه سيتأخر، وقالت إنه كلمها ثلاث مرات في الصباح عندما كانت في الشركة. غادرتني لحظة، ثم عادت وقالت إنها تريد أن تخرج، وسألتني إن كنت أحب أن آتي معها. أغلقت كراستي وأعدتها إلى الدرج وأغلقته بالمفتاح. وضعت المفتاح في جيبي، وأطفأت النور. وكانت
نهاد
قد نامت فغادرنا المسكن، ومشينا في الشارع. سألتها أين تحب أن تذهب. قالت: أي مكان ما دمت معك. سرت في اتجاه كازينو
ميريلاند
وقلت: ربما وجدناه مفتوحا ففيه صالة شتوية. مر بنا بائع ياسمين فابتعت حلقة منه قدمتها إليها، فجعلت منها سوارا لمعصمها. وكان المارة يتطلعون إلينا وإلى سوار الياسمين في يدها. قالت: أصبحنا نشبه العشاق. وسألتني: ماذا فعلت مع الفتاة؟ قلت: ذهبت بها إلى منزل أحد أصدقائي ولم يحدث شيء ذو بال، ولم أكن سعيدا. قالت: لماذا؟ قلت: لا أعرف. وجدنا الكازينو مفتوحا وجلسنا في صالة زجاجية بجوار بركة صغيرة. وضعت زوجة أخي يدها أعلى يدي وأشارت إلى البركة. قالت وقد ارتفع حاجباها: انظر إلى البط. سألتها عن سبب الشجار الذي نشب بينها وبين أخي منذ أسبوع. قالت: لا شيء. قلت لها إني أحبها منذ رأيتها لأول مرة، بل قبل أن أراها. قالت: كيف؟ قلت: من خطابات أخي إلي؛ فلم يكن يمل الحديث عنك. ضغطت على يدي. قلت: هيا نقوم. نهضت قائلة: تريد أن تقبلني؟ دفعت الحساب وغادرنا الكازينو. مشينا في الشارع الهادئ. أمسكت يدها في يدي وقربتها مني. سحبت يدها بعد تردد وهي تتطلع حولها. قالت: ربما رآنا أحد. كان هناك شارع مهجور إلى اليسار فاتجهنا إليه. وضعت يدي على كتفها وقربت وجهها مني لكني لم أقبلها؛ فقد ظهرت سيارة كبيرة من سيارات الشرطة. ابتعدت عني، وتابعنا السيارة وهي تمر بنا، وحدق ركابها من الجنود فينا. اختفت السيارة ودرنا عائدين. وقالت: احذر أن تذكر شيئا عنا لأحد. وتطلعت إلى ساقي، ثم قالت إنها سعيدة. قلت: أنا أيضا. تشممت الهواء بشدة وكنت أعرف كيف أميز انتهاء الشتاء ومقبل الربيع من رائحة الهواء. قالت: أريدك أن تفعل بي كل ما تريد. تطلعت في عينيها. كان فيهما شيء يهرب مني، ولم ترقني ابتسامتها، وعندما اقتربنا من المنزل طلبت منها أن تسبقني كي لا يرانا أخي ندخل سويا. وطفت أنا بالشوارع المحيطة بالمنزل عدة مرات، ثم تبعتها. وجدت أخي أمام التليفزيون في الصالة، وكان غاضبا. حييته وذهبت إلى غرفتي، ولمحت غرفة زوجة أخي مضاءة وبابها مغلقا. أغلقت باب حجرتي وخلعت ملابسي، وأطفأت النور. تمددت على الفراش أدخن في الظلام، وكان ضوء الصالة يبدو من زجاج باب الغرفة، وبعد قليل انطفأ، وأنصت لوقع أقدام أخي وهو يدخل غرفته، وساد الظلام الشقة. قمت ففتحت الباب وذهبت إلى المطبخ، وفي الطريق ألقيت نظرة على باب غرفة زوجة أخي فوجدته مغلقا والغرفة مظلمة. شربت كوبا من الماء، ثم عدت إلى حجرتي وتركت الباب مواربا. ظللت مستيقظا طوال الليل، ثم نمت قليلا قبل الفجر. واستيقظت على صوت التليفون. خرجت إلى الصالة ولم يكن هناك أحد بالشقة.
رفعت السماعة فجاءني صوت زوجة أخي، قالت إنها ستغادر الشركة مبكرة وتذهب إلى الكوافير، ثم تأخذ
نهاد
من المدرسة إلى خالتها، وسألتني إذا كنت سأخرج. قلت: لماذا السؤال؟ قالت لنتغدى سويا لأن أخي كلمها الآن وقال إنه سيأكل في الخارج ولن يعود إلا بالليل. قلت إني سأنتظرها وسأدعوها إلى أكلة سمك. قالت: لم تقل لي شيئا اليوم. قلت: أحبك. استحممت وأفطرت وألقيت نظرة على عناوين الصحف، ثم خرجت فاشتريت سمكا مشويا وسجائر وعدت إلى المنزل فأعددت كوبا كبيرا من القهوة، ثم أشعلت سيجارة وتمددت في فراشي. قمت بعد قليل فأعددت المائدة، وصنعت طبقا من سلاطة الطحينة التي أجيدها. ودق جرس الباب أخيرا دقات سريعة متتابعة، فجريت أفتح. قالت بزهو: سمعتك تجري! حاولت أن أقبلها فتخلصت مني، وقالت إنها تشعر بجوع شديد. جلسنا نأكل، ولم نأكل كثيرا، وقمت أغسل يدي. تبعتني، ثم دخلت غرفتي أبحث عن علبة السجائر. جاءت خلفي قائلة: أعطني سيجارة. وجلست على المقعد المجاور لفراشي. أشعلت لها سيجارة وجلست على حافة الفراش أدخن، وكانت ترقب ارتعاش أصابعي. قالت: حدثني عن الفتاة. ثم نظرت إلى ساعتي وقالت: الوقت يمر بسرعة. انتقلت إلى جواري. احتضنتها بساعدي وقبلتها في فمها، وكانت رائحته حلوة، ثم رقدنا فوق الفراش. قالت: هل يمكن أن ينام اثنان متجاورين دون أن يحدث بينهما شيء؟ اعتدلت جالسا، وقامت هي فخلعت بلوزتها وشدت الجونلة إلى أسفل، وظلت بقطعتين داخليتين من الدانتيلا البيضاء. طلبت مني أن أغلق باب الغرفة بالمفتاح ففعلت. وخلعت ملابسي دون أن أعطيها ظهري حتى أصبحت عاريا تماما. كانت قد استلقت على الفراش وجذبت ملاءة فوقها. جلست على حافة الفراش أتحسس وجهها بأصابعي، وقبلت شفتيها وكانتا ناعمتين ساخنتين، وقبلت ذراعيها، وشممت إبطها، وقبلت شعره وكانت رائحته نظيفة. وأردت أن أراها وأقبلها عارية، فتصلبت وقالت إنها لا تحب ذلك. وحانت اللحظة وتولت هي قيادتي. طلبت مني أن آخذ حذري لأنها غير واثقة من مواعيدها. وعندما أحسست أني أفقد السيطرة على نفسي ابتعدت عنها. قمت وأشعلت سيجارة وتحولت هي على جانبها الأيمن، ودلت ذراعها خارج الفراش. جلست بجوارها وداعبت رقبتها بيدي فنحتها في عنف. أشعلت لها سيجارة، ثم تمددت بجوارها. وعدنا من جديد. وعندما أردت أن أبقى على جانبي جذبتني حتى أصبحت فوقها، وبعد لحظة قمت ففتحت باب الغرفة وذهبت إلى الحمام، ودق جرس التليفون فجأة. سمعتها تقفز من الفراش وتنطلق إلى الصالة. مضيت وراءها ووقفت بجوارها. كان أخي هو الذي يتكلم. قالت له إنها أكلت وإني موجود. احتضنتها من الخلف وقبلت ظهرها العاري. سمعت أخي يقول إنه افتقدها طول اليوم. قالت له إنها ستتفق معي ونذهب جميعا إلى السينما. ثم وضعت السماعة وجرت إلى الفراش فتغطت بالملاءة، وقالت إنها تشعر بالبرد. تمددت بجوارها لأدفئها. وترددت على الحمام عدة مرات، وفي إحدى المرات سألتها إن كانت تحبني، فقالت إنها لا تعرف. وفي آخر مرة أحسست أني متعب للغاية، ولم أستطع الحركة. وقالت إن الوقت تأخر ولا بد أن نسرع لنلحق بأخي على باب السينما. وقامت ترتدي ملابسها بينما ظللت ممددا على الفراش، وتأملتها تثبت المشد فوق ثدييها. طلبت مني ألا أنظر إليها. وكان المشد جديدا ناصع البياض. تشممت ساعديها وقالت إن رائحتي تغطيها، وربما شعر بها أخي. قلت إن رائحة الأسرة كلها واحدة. وقالت: لماذا أنت مكتئب؟ قلت: لا شيء. انحنت أمام المرآة تتأمل عينيها وقالت: لو رآني أحد الآن لعرف أني كنت أحب. وقالت في زهو وهي تعد على أصابعها: ست مرات. قلت في صوت ضعيف: أربع فقط. قالت لا، ست. قلت إني أشعر بجوع شديد . قمت فارتديت ملابسي وذهبت إلى المطبخ فأكلت سندويتشا. تبعتني هي بعد لحظة وكانت قد سوت شعرها وصبغت شفتيها، ورفضت أن تأكل. ثم خرجنا وأخذنا تاكسيا إلى السينما. وكان أخي قد دخل وترك لنا تذكرتين عند الباب. ووجدناه غاضبا لأننا تأخرنا. وجلست زوجة أخي بيننا، وكان العرض لفيلم «الزيارة» المأخوذ عن مسرحية
دورينمات . استرخيت في مقعدي، وبعد قليل مدت زوجة أخي يدها ووضعتها في يدي. ضغطت على يدها وأنا أحاول أن أتبين وجه أخي في الظلام، ولمحته يمد يده ويتناول يدها الأخرى، ثم استغرق في متابعة الفيلم. وكان
أنتوني كوين
رائعا في دور
ميلز . والكلمة الوحيدة التي قالها دفاعا عن نفسه: إنما أنا إنسان. أما العقاب الذي أنزلته به
كارلا
فهو أن يعيش بين الناس الذين باعوه. وعندما سألني أخي ونحن نغادر السينما عن رأيي في الفيلم قلت إننا جميعا نعيش بين أقارب وأصدقاء وأحباء دون أن نعرف أنهم يمكن أن يبيعونا بسهولة. وقال أخي إنه لا يصدق أن هذا يمكن أن يحدث!
الفصل الرابع
كان
باب غرفتي مواربا كما تركته طول الليل دون جدوى. وتابعتهم من فتحته الضيقة وهم يستعدون للخروج ككل صباح. مرت زوجة أخي من أمام الباب في طريقها إلى حجرتها، وخيل إلي أنها تمهلت أمامه قليلا، وأنها ستدفعه وتدخل أو تقول شيئا لي، لكنها واصلت السير إلى حجرتها، ثم عادت بعد أن ارتدت حذاءها. سمعتها تقول شيئا لأخي. وارتفع صوت بكاء
نهاد . قالت لها زوجة أخي إن البرد لم يذهب بعد، ولا بد أن ترتدي السترة الصوفية. انضم أخي إلى ابنته وقال إن الناس لا يلبسون الصوف في شهر
أبريل . وسمعت وقع أقدامه. كفت
نهاد
عن البكاء بعد أن كسبت المعركة، وسمعت صوت حذاء زوجة أخي في الصالة، ثم صوت صفق الباب الخارجي. وساد الصمت. ظللت ممددا أتطلع إلى السقف، ثم غادرت الفراش وفتحت النافذة، وكان الجو غائما ينذر بمطر. انطلقت إلى الحمام فحلقت ذقني واغتسلت، وعدت إلى الحجرة فجففت وجهي وساويت فراشي. مضيت إلى المطبخ. وجدت إفطاري معدا على المائدة ، لكنني لم أشعر برغبة في الأكل. أعددت كوبا من القهوة حملته إلى الصالة، وجلست أحتسيها أمام التليفون. كانت الصحف ملقاة بجواره فتناولتها، ثم أعدتها مكانها، ووضعت كوب القهوة على الأرض. قمت إلى حجرة أخي فتفحصت فراشه وملاءته بدقة، وفعلت المثل بفراش زوجته، ثم عدت إلى الصالة واستأنفت احتساء قهوتي. أشعلت سيجارة، وتحركت أمعائي، فذهبت إلى الحمام، ثم عدت إلى الصالة. جلست أكمل سيجارتي، ثم قمت فأخذت قرصين من الأسبرين وعدت فأمسكت بسماعة التليفون. طلبت زوجة أخي في الشركة وقلت لها إني أريد أن أراها الآن. قالت: تعال إلى الشركة. قلت: لا، تأتين أنت. قالت: كيف؟ قلت: خذي إجازة أو اعتذري أو أي شيء. قالت: مستحيل فالمدير طلبني الآن والدنيا بدأت تمطر. قلت لا بد أن أراك الآن. قالت: لكننا سنلتقي على الغداء. قلت: سيكون أخي موجودا. قالت: إذن بالليل. قلت: سأذهب إلى الجريدة. سكتت، ثم قالت: الخادمة قد تأتي هذا الصباح. قلت: كانت هنا بالأمس. قالت: أنت مجنون. وسمعتها تضع السماعة في عنف. ظللت أنظر إلى السماعة في يدي، ثم وضعتها فوق جهاز التليفون، وبعد لحظة دق الجهاز ورفعت السماعة فقالت إنها ستأتي بعد عشر دقائق، وليس معها نقود للتاكسي. قلت إني سأنتظرها في الشارع لأدفع له. ارتديت ملابسي بسرعة ونزلت إلى الشارع، وكان خاليا بسبب المطر الذي شرع يتساقط. وقفت تحت شجرة وأنا أزيل قطرات المطر التي وقعت على ملابسي، ولمحت تاكسيا يقترب وهي بداخله. توقف التاكسي، فاقتربت منه وفتحت الباب. وجدتها تدفع أجرته للسائق، وقالت إنها عثرت على بعض النقود في حقيبتها. وغادرت السيارة. وكانت عيناها محتقنتين. قالت إني ما زلت صغيرا. صعدنا إلى المسكن ودخلت تتفقد الغسيل المعلق في شرفة المطبخ، بينما وقفت أنتظرها على بابه. ثم جلسنا في مقعدين متقابلين في الصالة. قلت لها إني ظللت مستيقظا طول الليل أنتظرها، قالت إنها بالأمس كانت متعبة، وإنها أصبحت تخشى المجيء إلى حجرتي بالليل فقد يبحث عنها أخي ولا يجدها في حجرتها. قلت إنها تغيرت في الأيام الأخيرة ، وإذا كانت تريد أن ننتهي فلننته بهدوء ودون كل هذا. قالت إنني عبيط، وإنها لو أرادت ذلك لفعلته على الفور بالطبع. ظللنا صامتين ونحن نتبادل النظرات، ثم بدا أنها شردت في شيء آخر. قامت فجأة وانحنت علي وقبلتني في فمي بشفتين باردتين. قالت إنها لم تقبل المجيء الآن إلا لأنها شعرت أني في حاجة ملحة إليها. وانطلقت إلى الداخل. قمت إلى باب الشقة وأغلقته بالمزلاج، وعندما عدت إلى حجرتي وجدتها في فراشي وقد التفت بالأغطية، وكان جسمها باردا ولم تدب فيه الحرارة إلا بعد فترة. ورقدت ساكنة على ظهرها بلا حراك، وجسدها مبسوط حتى نهايته كما تفعل دائما. انتهيت بسرعة وتمددت بجوارها. وبعد قليل ضحكت وقالت إن المدير اليوم تعمد أن يلمس ذراعيها وقال لها إنهما جميلتان. وقالت إنه يغازلها من زمن. دق جرس التليفون فسألتني ما إذا كنت سأرى من المتحدث. كنت أتطلع إلى السقف. وقلت: لا. قالت إنه ربما كان أخي وقد كلمها في الشركة ولم يجدها. قلت: ربما كان
فهمي . قالت: ماذا تعني؟ قلت: إنه يزورنا كثيرا هذه الأيام دون زوجته. قالت إنه لم يعد بينها وبينه شيء. قلت: لم تذكري لي من قبل أنه كان هناك بينكما شيء. قالت: كيف؟ ألا تعرف؟ الجميع كانوا يعرفون، وقد أوشك أن ينتحر مرة. وقالت إن أخي يحبني كثيرا. قلت: وأنا أيضا أحبه. قالت: بودي لو نذهب نحن الثلاثة إلى مكان ما سويا. استدرت بوجهي ناحيتها فضحكت. قلت: ماذا يحدث لو جاء الآن ووجدنا هكذا؟ هزت كتفيها وقالت لا أعرف. ومدت يدها وتحسستني ولكني كنت هادئا. سألتها: من الذي كان يكلمك أمس في التليفون؟ قالت: هذا شاب كان يحبني وأنا صغيرة جدا، ثم تزوج وفوجئت به يسأل عني. لا أدري كيف وجد طريقي ونمرة التليفون. وقالت إنها غضبت مني أمس لأني رفضت أن أذهب معها لتشتري حذاء. قلت: كان أخي معك. قالت: وماذا في هذا؟ قلت: أنت تريدين أن تسحبينا جميعا خلفك أينما ذهبت. سألتني عن الساعة. وكان موعد عودة
نهاد
من المدرسة يقترب، فقالت إنها لا بد وأن تقوم. وقالت: الذي يسمعك في الصباح يتصور أنك كنت ستفعل الأعاجيب. وقامت إلى الحمام. ارتديت ملابسي وساويت شعري، ثم غادرت المسكن. عبرت الشارع إلى البقال وأخذت منه علبة سجائر، وتأملت وجهه المشرع بالبكاء. سرت في الشارع وكان المطر قد توقف. مرت بي سيارة مسرعة نثرت رذاذا من ماء الطريق على ملابسي فلم أعبأ، وانطلقت إلى محطة الأوتوبيس فركبت إلى وسط البلد. شققت طريقي وسط الزحام، ووقفت إلى جوار امرأة، وكان هناك رجل قصير خلفها، وكان كثير الحركة. وبدأ الواقفون ينظرون إليه وإلى ما بين جسديهما. أعطيتها ظهري فأخفيتها بذلك عن أعين الواقفين بجواري، وبعد قليل استدار الرجل وأعطاها ظهره. لمحتها تتطلع بطرف عينها تحاول أن تفهم ما حدث. وخلا مقعد أمامها فلم تجلس، وأشرفنا على محطتي لكني لم أنزل وظللت واقفا بجوارها، وشعرت أنها ستهبط في المحطة التالية فتحركت لأهبط وراءها. وعندما أصبحت خلفها شعرت بها تبرز مؤخرتها في محاولة للمسي فالتصقت بها. حاول شخص خلفي أن يحتل مكاني لكني تمسكت بموقفي وسقتها دفعا في الزحام نحو الباب. غادرنا السيارة فعبرت الطريق، وأخذت سيارة أخرى عادت بي إلى محطتي. صعدت إلى مكتبي وكان
سامي
جالسا إلى مكتبه وقد نشر أمامه ورقة كبيرة وأخذ يرسم بعناية خطوطا متوازية بالعرض، تقطعها خطوط متوازية بالطول. أرسلت في طلب طعام. اقتربت مني
مايسة
وقالت إنها متعبة، وإنها تذهب إلى فراشها مبكرة دائما، وتظل تبكي حتى تنام. تأملت شفتيها المكتنزتين. قالت إن الزواج هو الحل، ولكن لم يعد هناك من يبغي الزواج. نادتها صديقة لها ذات عظام عريضة وقد بدت غاضبة. جاءني الطعام فأكلت. ودق جرس التليفون. كان
فؤاد
وسألني لماذا لم أذهب إليه كما وعدته، وقال إنه يريد أن يريني عدة تماثيل لقطط وأرانب انتهى منها بالأمس. اتفقنا على أن نلتقي بعد يومين. ودق الجرس مرة أخرى. وجدتها
سلوى ، قالت: إنها تتكلم بالطابق الأعلى من مكتبها، وقالت إنها تريد أن تسألني في شيء، قلت إني سأصعد إليها بعد قليل. أنهيت طعامي ووضعت أوراقي في الدرج وصعدت إليها، وكانت بمفردها وقد ارتدت ثوبا أزرق ولفت عنقها بوشاح من نفس اللون. قالت إنها أصيبت بالبرد لأنها تجاهلت نصائح أمها وارتدت أمس فستانا بلا أكمام، وقالت إنها لا تطيق الفستان إلا مرة واحدة أو مرتين على الأكثر. وقالت إن صديقة لها قد خطبت وتريد أن تنشر صورتها مع خطيبها في الجريدة، وتريدني أن أقوم بهذه العملية لأنها لا تتحدث مع
فوزي ، وقالت إن
فوزي
هذا غريب، ولأنها كانت تعامله برقة كعادتها ظن أنها مغرمة به، وأصبح يحاسبها على كل تحركاتها ومقابلاتها، بل اكتشفت أنه تعقبها اليوم في الطريق، وقالت إنها تعاني دائما من الرجال الذين يلاحقونها ولا تعرف ماذا تفعل معهم؛ فهي تحرص على ألا تمس مشاعرهم. وقالت إنني الوحيد الذي تشعر معه بالاطمئنان، وإن كاتبا مشهورا كتب عنها رواية. أزاحت خصلة من شعرها غطت عينها اليمنى، وتناولت حافظة صغيرة من درجها وغادرتني لحظة، وعندما عادت لاحظت أنها أضافت طبقة جديدة من الماكياج إلى وجهها، وضاعفت الكحل في عينيها حتى صارتا في حجم الفنجان، عرضت عليها أن نذهب إلى أي مكان، فقالت إنها اتفقت مع صديقة لها على الذهاب إلى فيلم
جيمس بوند
الجديد. قلت إني شاهدته مرتين. أخذت صورة صديقتها وخطيبها، وقلت كان يجب أن يبتسما قليلا. هبطت إلى مكتبي، وجدت
سالم
جالسا إليه، قال إنه جاء إلى الجريدة لأنه لم يجد مكانا آخر يذهب إليه، وقال إن البيت أصبح مورستان، وإن زوجته دائمة الشكوى. وجاء
مصطفى
وقال إنهم يحتفلون الليلة
بجلال ، وسيقدمون إليه كأس الأدب. وقال إن الشاعر سيكون هناك. لم أكن قد رأيته منذ عشر سنوات، وكنت ألقاه دائما بالصدفة في أماكن متفرقة من القاهرة؛ فقد كان دائم التجوال في الشوارع. ذهبت مع
مصطفى
إلى النادي، وتعرفت على الشاعر بصعوبة؛ فقد امتلأ جسده كثيرا، وأصبح له كرش بارز، وحمل في أصبعه خاتم زواج. وتلقى
جلال
كأسا فضية كبيرة ككئوس كرة القدم . وقال
مصطفى
إنه يريد أن يشرب شيئا. وبحثت عن الشاعر فوجدته قد انتحى ركنا واستغرق في النوم. شبك
مصطفى
ذراعه في ذراعي وغادرنا المكان. جلسنا في بار مزدحم بشارع
سليمان . قال إنه ضجر ولا يريد العودة مبكرا إلى البيت، وقال إن زوجته تنتظره وقد وضعت زجاجتي بيرة في الثلاجة، وقال إنه يتوق إلى
مايسة
وشفتيها الممتلئتين، وقال إنه أجدر الناس بأن يكون مسئولا عن الصفحة، وإن هذا أوشك أن يتحقق في الشهر الماضي لولا أنهم غيروا رئيس التحرير، وقال إن الرئيس الجديد لا يفهم، وقال إنه بدأ أخيرا يهتم بالسياسة بعد أن نجح في أن يبقى بعيدا عنها وعن أخطارها طوال السنوات الماضية. وشعرنا فجأة بهدوء غريب يسود البار. تطلعت حولي فوجدت عدة رجال يقفون في المدخل وفي مقدمتهم رجل أنيق يضع يديه في جيبي بنطلونه. وكانت الأنظار قد بدأت تتجه إليهم. ودفع أحد الجالسين حسابه بسرعة واتجه إلى الباب فأعاده الرجل الأنيق إلى الداخل. وقال
مصطفى
إنهم يبحثون عن شيء. واقترب الرجل الأنيق من أحد الجالسين وطلب منه بطاقته. بحث
مصطفى
عن بطاقته في جيبه وهو يقول إنها تكون كارثة لو كان قد نسيها. قلت إن بطاقتي لا تحمل غير اسمي فقط وعنوان قديم. عثر
مصطفى
على بطاقته فوضعها أمامه قائلا: ماذا سنفعل الآن؟ قلت إنهم يبحثون عن شخص محدد بالذات. حاول بواب نوبي أن يجادل فنال عدة صفعات ولكمات. قال
مصطفى
إنه كان يجدر به أن يذهب إلى زوجته المنتظرة وزجاجتي البيرة، وقال ربما لن أذهب على الإطلاق. أشعلت سيجارة، وكانت أصابعي ترتعش. واحتفظ الرجل الأنيق ببطاقة أحد السكارى وطلب منه أن يذهب معه. وغادروا البار بعد أن هددوا صاحبه بالإغلاق لأنه تأخر عن الموعد القانوني. وشرع هذا بجمع الأكواب والزجاجات بسرعة، فدفعنا حسابنا وانصرفنا.
الفصل الخامس
انتهينا
من طعام العشاء. قالت زوجة أخي إنها أعدت لنا الليلة مفاجأة، وقامت إلى الصالة وفتحت الثلاجة وأحضرت طبقا كبيرا من الحلوى يتألف من عدة أشياء تبينت منها المشمش المطهي والكريمة . قالت إنها تقضي الوقت كله في الشركة، الآن تفكر في مثل هذه الأطباق. وكانت فيما قبل توشك على البكاء أحيانا لأنه لا يوجد ما تعمله. وقالت إنها تود لو تنقطع عن العمل وتبقى في البيت فليست هناك جدوى من ورائه. كان المشمش لذيذا وأوشكنا أن نأتي عليه، فأخذت زوجة أخي جانبا منه واحتفظت به
لنهاد
كي تأكله في الغد. ووضع أخي طبقه الفارغ على المائدة وتنهد راضيا. قال إن مديره الجديد باع اليوم صفقة ضخمة لأحد تجار القطاع الخاص بأكلة سمك. كان الجو حارا على غير العادة، وكانت زوجة أخي ترتدي بلوزة بغير أكمام تكشف عن ذراعيها. قدمت سيجارة لأخي وأخرى لها وأشعلت واحدة. وغادر أخي المطبخ إلى الصالة، وحملت صحني الفارغ ووضعته في الحوض. وهممت بتنظيفه فقالت زوجة أخي إنها ستترك كل شيء للصباح لأن الخادمة ستأتي في الغد. اقتربت منها وانحنيت على ذراعها فصعدت عليه بشفتي حتى كتفها. أغمضت عينيها ومالت علي، ثم ابتعدت فجأة عندما سمعنا وقع أقدام أخي. وقف بباب المطبخ وقد ارتدى روبا فوق بيجامته. تمطى ووضع يده على بطنه وقال إنه أكل الليلة جيدا ويشعر بالسعادة. اقترب من زوجته وأحاطها بساعده وقال إنها الليلة جميلة للغاية، وكانت بلوزتها الوردية في لون خديها. غادرت المطبخ إلى الحمام فغسلت يدي وفمي وعدت إلى الصالة، وكان أخي ما زال بالمطبخ. أشعلت سيجارة جديدة، وجلست على مقعد أمام التليفزيون. كان هناك فيلم
لوالت ديزني
عن حيوان
اللمنج
والانتحار الجماعي الذي يمارسه؛ ففي كل سنة يزحف إلى حافة الجبل ويلقي بنفسه إلى المحيط تاركا بقية منه تتناسل وتحفظ النوع لتتكرر المأساة في العام التالي. جاء أخي من المطبخ، وقال إنه يشعر بالنعاس وسيدخل لينام. أطفأت الجهاز وذهبت إلى حجرتي فأضأت النور وأغلقت الباب خلفي، ثم تناولت مجلة وتمددت على الفراش، وبعد لحظة وضعت المجلة جانبا، وقمت فأطفأت النور وأشعلت سيجارة ووقفت في النافذة، ثم عدت إلى الفراش فجلست على حافته. كانت الشقة غارقة في الظلام فيما عدا المطبخ، وسمعت صوت زوجة أخي وهي تخرج صفيحة الفضلات من باب الخدم ثم تغلقه، ثم انطفأ نور المطبخ وأضيء نور الصالة، وسمعتها تتأكد من إغلاق الباب الخارجي، ثم أطفأت نور الصالة ودخلت الحمام. وتابعت صوت قدميها بعد أن أطفأت نور الحمام وألفيتها تتجه إلى حجرتها. تمددت على الفراش وألقيت برماد السيجارة بجوار الحائط، وسمعت وقع أقدام خفيفة. وضعت سيجارتي في المنفضة، ثم قمت إلى الباب وأدرت مقبضه في حذر شديد، جذبته قليلا، وسمعت همسا أمام باب زوجة أخي؛ كان يتوسل إليها أن تفتح، وسمعتها تقول إنها متعبة وإن
نهاد
مصابة ببرد. ارتفع صوت أخي ساخطا، ثم سكت، وسمعت صوت باب يفتح ثم يغلق، وساد الصمت تماما. بقيت واقفا أحدق في الظلام، ثم أغلقت باب حجرتي في هدوء وعدت إلى الفراش. تناولت السيجارة التي كانت قد أوشكت على الانطفاء واختفت جذوتها، فأخذت منها نفسين سريعين أعادا إلى الجذوة توهجها. دخنت حتى انتهت السيجارة فضغطتها في المطفأة، وبعد قليل سمعت بابا يفتح، وأضيء نور الحمام، وسمعت صوت انسياب المياه في الحوض، ثم صوت قدمي أخي في الطريق إلى حجرته. انطفأ نور الحمام بعد قليل، وسمعت صوت بابه يغلق في رفق، وتبعه باب حجرة زوجة أخي بعد لحظة. قمت إلى النافذة فأغلقتها وعدت إلى الفراش، فبسطت الملاءة ودخلت تحتها ونمت، واستيقظت في الصباح على صوت الخادمة وهي تغسل الأطباق في المطبخ. اغتسلت وارتديت ملابسي وخرجت إلى الجريدة. اشتريت قطعة بسكوت أكلتها وأنا أصعد السلم إلى مكتبي. وشربت فنجانا من القهوة. حركت التليفون بحيث أصبح أمامي مباشرة. أشعلت سيجارة وتناولت الصحف.
دق جرس التليفون فرفعت السماعة. قالت زوجة أخي: لماذا لم تتصل بي حتى الآن؟ قلت: كنت مشغولا. سكتت لحظة، ثم قالت: ماذا بك؟ قلت: لا شيء. قالت: لماذا تكلمني هكذا؟ قلت إني مشغول الآن وسأتركها. قالت: أنت وقح! ووضعت السماعة في شدة. أعدت سماعتي أنا الآخر. دق الجرس من جديد ورفعت السماعة، وعندما تبينت صوتها أعدتها إلى مكانها في عنف. أتممت قراءة الصحف وأشعلت سيجارة جديدة، ثم غادرت مكتبي إلى الطريق. مشيت إلى شارع
محمد فريد
حيث تعمل دور السينما طول اليوم. اخترت واحدة بها فيلمين؛ أحدهما اسمه «الكابتن
فراكاس »، والثاني اسمه «
ماشيست
والشيطان». وخرجت من السينما بصداع، فاشتريت أسبرين وعدت إلى الجريدة فأخذت قرصين وشربت فنجانا من القهوة، وبدأت أعمل. وجاء
مصطفى
وقال إن زوجة أخي سألت عني مرتين، فقلت إني سأتصل بها واستأنفت العمل. دق جرس التليفون وكانت هي. قالت بهدوء شديد: أريد أن أراك الآن. قلت: عندي عمل. قالت: تعال خمس دقائق وسأعطيك أجرة التاكسي. ترددت لحظة، ثم وافقت. غادرت الجريدة وأخذت تاكسيا إلى
مصر الجديدة
وصعدت إلى الشقة. طرقت الباب ففتحت لي بنفسها، وشعرت أن هناك شيئا غير عادي، ثم أدركت أن النوافذ جميعها مغلقة، وأن لا أحد آخر بالمنزل. خطوت إلى الداخل، وتنحت زوجة أخي عن الباب. ثنت ساعدها الأيسر ووضعت يدها في خصرها، ثم رفعت يدها اليمنى وهوت بها على وجهي وهي تغلق الباب خلفي في نفس الوقت. قالت إن أحدا لم يغلق تليفونا في وجهها من قبل، وإنني أحتاج إلى تربية. جلست على مقعد وأخرجت علبة سجائري فأشعلت سيجارة وقلت: ناحية واحدة لا تكفي. قالت: تمام. وصفعتني على خدي الآخر، ثم ارتمت فوقي تحتضنني وتقبلني، وقالت إنها لو لم تكن تحبني لانتهى كل شيء. حاولت الوقوف فتشبثت بي، لكني تمكنت من الوقوف وقلت إني ذاهب. قالت: سآتي معك. غادرت الشقة وتبعتني وسارت بجواري. أشعلت سيجارة أخرى، وقلت إني عائد إلى الجريدة. قالت: سآتي معك. قلت: لا. ناديت تاكسيا وفتحت الباب ودخلت وأغلقته خلفي وتركتها في الطريق. عدت إلى الجريدة فشربت فنجان قهوة، وكانت علبة سجائري قد فرغت، فأرسلت أشتري واحدة، ثم غادرت الجريدة إلى الشارع ومشيت قليلا. كان الزحام شديدا، وعبرت الطريق في مكان خطأ، فأمسكني ضابط مرور من ذراعي وطلب مني بطاقتي، أعطيتها له وأخذني إلى كشك قريب فدفعت 25 قرشا غرامة. واصلت السير، ثم بحثت عن تليفون. وجدت
رمزي
في منزله، وقلت له إني أريد أن أقضي الليلة معه. لم يعترض فاتجهت إلى محطة المترو، وركبت إلى منزله ومشيت من أمام المنزل الغريب وواجهته الزجاجية، وكانت مغطاة بباب معدني. صعدت إلى مسكن
رمزي
وفتح لي الباب. سألني عن الأخبار، قلت: لا شيء. قال: هل ستقع حرب؟ قلت: لا أعرف. قال إنه يود لو يحدث شيء يكسر هذا الروتين، وقال إنه ضاق بكل شيء ويود لو يسافر. قلت إني متعب وأريد أن أنام. أعطاني بيجامة واستلقيت على أريكة في الصالة، وفي الصباح ذهبت إلى الجريدة بعد أن أعطاني مفتاحا لمسكنه. اتصل بي أخي وسألني أين كنت؟ فقلت إني قضيت الليلة عند
رمزي ، وربما أبيت عنده هذه الليلة أيضا، وأعطيته رقم تليفون
رمزي
ليتصل بي حينما يشاء. دق التليفون بعد قليل فرفعت السماعة وقلت: أيوه. لم يأتني صوت. سمعت صوت تنفس في الطرف الآخر قبل أن توضع السماعة برفق. ظللت معلقا السماعة بأذني، ثم أعدتها إلى مكانها. وعند الظهر غادرت الجريدة وذهبت إلى منزل
إنصاف . وجدت عندها
صادق
وزوجته، وكانوا يتحدثون عن احتمالات الحرب. قال
صادق
إنها 80 بالمائة. قالت
إنصاف : الظاهر لا مفر منها. سألني
صادق
عن رأيي فقلت: لا أعرف. تناولنا طعام الغداء وكان وجه زوجة
صادق
يحمر كلما نظرت إليها. قال إنه سيبقى ليسمع الخطاب السياسي الذي سيذاع بعد الظهر. دخلت غرفة جانبية وتمددت بملابسي على أريكة ورحت في النوم. واستيقظت بعد ساعتين. كانت الخادمة قد انصرفت فأعددت لنفسي فنجانا من القهوة. وجدت
صادق
وزوجته وإنصاف في الصالة أمام التليفزيون ومعهم قريبة بعيدة لإنصاف. وعندما بدأ الخطاب تابعه
صادق
بحماس وهو لا يكف عن الحركة، وقام ليطفئ سيجارته، ونظرت إلى ساقه وفوجئت به مشدودا. انتهى الخطاب وانصرف
صادق
مع زوجته. أردت أن أذهب فطلبت مني
إنصاف
أن أبقى قليلا، وقالت إنها لا تطيق النساء وأحاديثهن. وكانت قريبتها منهمكة في مشاهدة التليفزيون. خرجت بعد قليل فمشيت إلى منزل
رمزي
ولم أجده. خلعت ملابسي وأخذت حماما ساخنا، ثم ارتديت البيجامة وأعددت كوبا من الشاي وتمددت على الأريكة في الصالة . تناولت رواية بوليسية وجدتها بجوار التليفون، وقرأت حتى جاء
رمزي
أخيرا. قال إنه متعب وإنه شرب ثلاث زجاجات بيرة، وقال إنه كان على موعد مع فتاة روسية وجاءت متأخرة وجعلت طول الوقت تتلفت حولها مذعورة خوفا من أن يراها أحد من أبناء بلدها. ودخل حجرته. أطفأت النور وتمددت فوق الأريكة أدخن في الظلام. دق جرس التليفون. رفعت السماعة، ومرت فترة صمت، ثم جاءني صوت زوجة أخي. قالت إنها لا تستطيع النوم. قلت: أنا أيضا. قالت إنها آسفة رغم أنها لم تخطئ في شيء. قلت إني أحبها وأود أن أراها على الفور. اتفقنا على أن نلتقي في الغد بمنزل
رمزي . وضعت السماعة وأكملت سيجارتي، ثم نمت. وفي الصباح ذهبت إلى منزل أخي ولم يكن هناك أحد، فحلقت ذقني وأبدلت ملابسي وأفطرت، ثم ذهبت إلى الجريدة. واتصل بي
رمزي
قبل الظهر، قال إن معه سائحة تريد أكبر عدد من الرجال، وقال إنه التقى بها في
الموسكي ، وإنها تبدو فوق الأربعين، وربما كانت سويدية. قلت إني قد آتي. وبعد ساعة غادرت الجريدة واشتريت كيلو لحم وانطلقت إلى منزل
رمزي . فتح لي بملابسه الداخلية وقال إني أستطيع الذهاب إليها الآن. كان باب غرفته موصدا فدفعته ودخلت، وكانت ممددة فوق الفراش وقد تغطت حتى ذقنها. جلست على مقعد بجوارها وقدمت لها سيجارة. كان شعرها رماديا وإن خلا وجهها من التجاعيد. سألتها عن بلدها فقالت إن هذا لا يهم، وقالت إنه يحسن بي أن أخلع ملابسي لأنها بدأت متأخرة. صعدت بجوارها ورفعت الملاءة عنها، وتمددت فوقها أتأمل شعرة وحيدة فوق شفتها، ثم أدركت أني انتهيت بسرعة، وأبقت هي علي داخلها، ثم بدأت تأتي في اهتزازات حادة وأنا أتأمل عينيها اللتين غابت الرؤية منهما، وعندما كفت ابتعدت عنها. طلبت مني أن أبعث إليها بصديقي. أخذت ملابسي إلى الصالة وألقيت بها على مقعد، ثم دخلت الحمام واغتسلت جيدا، وعندما خرجت وجدتها ترتدي ملابسها في الصالة، وبدت طويلة للغاية وثدياها متهدلين وحافة مشدهما الأبيض صفراء. تمطت وقالت إنها تشعر بالرضا التام. وصحبها
رمزي
إلى الخارج بعد أن اتفقنا على موعد عودته، ثم ذهبت إلى المطبخ ووضعت قطعة من اللحم على النار، وأعددت طبقا من السلاطة وأكلت وأنا أقرأ الصحف، ثم نمت قليلا. وقمت فصنعت فنجانا من القهوة. دق جرس الباب أخيرا، ففتحت لزوجة أخي. قالت إنها تعرفت على البيت بسهولة؛ فقد سكنت هي وأخي في هذا الشارع نفسه في بداية زواجهما. لم يكن لديهما وقتها ثلاجة أو شيء على الإطلاق. قلت إن أخي لم يذكر هذا في خطاباته لي. أغلقت الباب بالمفتاح، ثم تبعتها إلى الداخل، وأغلقت المصراع الخشبي لنافذة الصالة. طلبت مني أن أشعل لها سيجارة، فأحطتها بذراعي. قالت إنها تريد أن تذهب إلى الحمام أولا. أرشدتها إليه، وأحضرت ملاءة نظيفة من دولاب
رمزي . نزعت ساعتي ووضعتها على مائدة بجوار الأريكة، وخلعت ملابسي. تمددت على الأريكة في انتظارها. جاءت بعد لحظة، وطلبت مني أن أطفئ النور حتى تخلع ملابسها. قلت إني أريدها أن تخلعها في الضوء، فرفضت. أطفأت النور وبقي نور الحمام هو المصدر الوحيد للضوء. وانضمت إلي فوق الأريكة. حاولت أن أجعلها فوقي، قالت إنها تتألم إن لم تكن على ظهرها، ثم رقدت ساكنة وأنا فوقها. ظلت بلا حراك حتى أوشكت أن أفقد نفسي، فبدأت ترتعش، لكني كنت قد انتهيت. احتضنتني وقالت: لا تهتم. قمت وأضأت النور. اعتدلت على جانبها ونزعت خاتم الزواج الذي يحمل اسم أخي من أصبعها، وتناولت أصبعي وثبتته فيه. ظللت أتطلع إلى الخاتم في أصبعي في سكون، وقبلتني وهي تهمس: أحبك. جذبتني فوقها واحتضنتني في قوة. راقبتها وهي تتحرك ثم تتقلص وترتعش، ثم طوحت بذراعها في عنف، وأمسكت بساعدي وضغطت عليه في وحشية حتى تألمت، ثم نحتني عنها في قوة وأعطتني ظهرها. اعتدلت بعد قليل وقالت: أين كنت؟ وقالت إني كنت أتفرج عليها، وإني لن أكف عن الشك في أنها تمثل طول الوقت. وقالت: كيف يمكن أن تمثل امرأة هذه المتعة؟ مددت يدي أمامي وتطلعت إلى أصبعي فوجدت الخاتم قد سقط منه. قالت بعد قليل إنها ربما تعمدت أن تهرب مني في تلك المرة التي تشاجرنا فيها لأنها كانت تشعر بآلام في ذلك الجزء من جسمها، وقالت إن أخي يشك في أن لها علاقة بشخص ما، وإنه يفتش دولابها بحثا عن دليل، وقالت إنها أشفقت عليه أول أمس فقد شعرت أنه يحتاج إليها، وقالت إنها ربما هي التي تحتاج إليه، وقالت إنها تريد أن تترك العمل وتلزم المنزل، وإنها اليوم أعطت المدير درسا قاسيا عندما حاول أن يلمس صدرها. وقالت إن الرجل الذي يسكن الشقة المقابلة لنا ينتظرها دائما على السلم كل يوم، وقالت إنها تتمنى أن يخلدها أحد في كتاب، وقالت ضاحكة إن لديها الآن كل شيء؛ الزوج والعشيق والطفلة، ولا ينقصها غير سيارة. قلت أنا فجأة: عندما كنت صغيرا جدا دخلت غرفة أبي ذات صباح فوجدته يداعب أمي في الفراش وهما يضحكان، فتسللت إلى سترته وأخذت كل ما بها من نقود وأخفيتها، ونلت علقة ساخنة منه بعصا كان يسميها
فاطمة ، ويحتفظ بها فوق الدولاب. وقلت إن أبي كان وقتها صارما، ولا بد أنه كان قد أحيل إلى التقاعد؛ فقد كان يقضي اليوم كله في البيت، وكانت لدي سيارة صغيرة أدور بها في الشقة طول اليوم، وعندما يأتي موعد نشرة الأخبار كان أبي يجلس في الصالة أسفل الراديو، وأضطر إلى التوقف، وأنتظر في سيارتي على باب الصالة وأنا أتطلع إلى وجهه في صبر نافد حتى تنتهي النشرة ويغير المذيع نبرة صوته ويبدأ في تلاوة أسعار القطن، فأستعد للانطلاق بسيارتي، ولا بد أني كنت أحسب ذلك من المتاعب التي يواجهها أصحاب السيارات في الشوارع الحقيقية. وتوقفت فجأة عن الكلام؛ فقد شعرت بها تبحث عن شيء، ورأيتها تتناول الخاتم الذي سقط خلف الأريكة، ثم جذبت مشدها من المقعد المجاور وارتدته، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن كي تأخذ
نهاد
من عند الجيران، وقبل أن يعود أخي. ارتدينا ملابسنا، ومشطت شعرها أمام مرآة الحمام، وقالت إن أخي يريدها أن تقصه لكنها تفضله طويلا هكذا. وتناولت حقيبتها. أطفأنا الأنوار واتجهنا في الظلام إلى الباب. سألتني: ألا يحتمل أن يعود
رمزي
الآن؟ قلت إنه لن يعود قبل ساعة أخرى. فتحت الباب فأغلقته بكتفها واستدارت إلي قائلة: قبلني. قبلتها وغادرنا الشقة. أغلقت الباب خلفي وهبطنا السلم، وعند باب المنزل تقدمتها إلى الخارج بعد أن أشرت إليها بالانتظار، وخرجت إلى الشارع فتلفت حولي. كان خاليا من المارة. دققت النظر في الأركان المظلمة، ثم سرت إلى نهايته وانتظرتها حتى لحقت بي. قالت: أخشى أن يقابلنا صديقك. وانكمشت على نفسها عندما اقتربت منا سيارة وسقطت أنوارها الأمامية علينا. ناديت تاكسيا وقلت إني سألحق بها بعد قليل. انتظرت حتى ابتعدت السيارة فاتجهت إلى شارع المطار. كان خاليا تماما إلا من السيارات التي انتحت جانبيه وقد أظلمت أنوارها، بينما ظلت محركاتها دائرة. سرت طويلا وكان الهواء قد بدأ يميل إلى البرودة، وكنت ألمح برج المطار بعيدا أمامي والكشاف الدوار في أعلاه. ظللت أسير حتى شعرت بالتعب، فاستدرت عائدا وسرت إلى أقرب محطة أوتوبيس وركبت إلى منزل أخي.
الفصل السادس
استيقظت
فجأة على صوت دوي بالخارج. رفعت يدي لأرى ساعتي، وكانت التاسعة والنصف. بقيت ممددا أتطلع إلى ضوء الشمس من النافذة، وتكرر صوت الدوي، وكان أشبه بصوت القنابل، فغادرت الفراش. سمعت جرس التليفون فانطلقت إلى الصالة ورفعت السماعة. كانت زوجة أخي، قالت: ألم تسمع بعد؟ بدأت الحرب. وقالت إنها تتكلم من الشركة وستغادرها بعد قليل عائدة إلى المنزل. قلت إني سأذهب إلى الجريدة وسأكلمها من هناك. بحثت عن الراديو الترانزستور ووجدته على فراش
نهاد . أدرته فسمعت المذيع يقول إننا نسقط طائرات العدو، وأعقبته موسيقى حماسية، ثم بيان عن بدء العمليات الحربية ضدنا. أغلقت الراديو وعدت إلى الصالة وبحثت عن صحف اليوم فوجدتها في المطبخ، وكانت العناوين الرئيسية تعلن عن تدهور الموقف واقتراب ساعة الصفر. ذهبت إلى الحمام فحلقت ذقني وغسلت وجهي وأسناني، ثم عدت إلى المطبخ فشربت كوبا من اللبن وأنا أقرأ الصحف، وأخرجت بيضتين من الثلاجة وضعتهما في إناء على النار. انتظرت حتى غلت المياه جيدا فحملت الإناء إلى الحوض وفتحت عليه الصنبور، ثم تناولت البيضتين وكسرتهما. وجلست إلى المائدة وأمسكت بالصحف وقلبتها، وجعلت أقرأ أنباء الصفحات الأخيرة وأنا آكل البيض بعد أن أغمسه كل مرة بالملح. ثم ذهبت إلى الحمام فغسلت يدي وعدت فصنعت فنجانا من القهوة احتسيته مع السيجارة، وذهبت مرة أخرى إلى الحمام. ثم دخلت حجرتي وأدرت الترانزستور فسمعت بيانا عن إسقاط المزيد من الطائرات. أغلقت الترانزستور، وارتديت قميصا وبنطلونا وغادرت الشقة. كان هناك زحام أمام البقال، وفي كل مكان كان الناس يتجمعون حول أجهزة الراديو وهم يصفقون بحماس. مشيت طويلا أبحث عن سيارة تاكسي؛ فلم تكن هناك سيارات أوتوبيس، وعربات المترو متوقفة وبها بعض الركاب ينتظرون، وكان الجميع يسيرون. وجدت سيارة حملتني إلى الجريدة، ووجدت أمامها كميات من أكياس الرمال. صعدت إلى مكتبي، وجدته مكتظا وقد أحضر أحدهم راديو وضعه وسط الصالة وأداره بأعلى صوت، وكان الجميع يسألون عن آخر الأخبار. جلست أقرأ ما تقوله الوكالات الأجنبية. ودق التليفون، سألتني زوجة أخي عن آخر الأخبار، فقلت إني وصلت لتوي، وإني سأتصل بها عندما يجد جديد. أوشكت أن تضع السماعة فسألتها عن موعد عودة أخي، قالت إنها لا تعرف بالضبط، وإنه تكلم وقال إنه سيعود مبكرا. عدت أقرأ الأخبار، وكانت الوكالات تردد ما نذيعه عن إسقاط الطائرات الإسرائيلية. ودق جرس التليفون، سألتني
إنصاف
عن الأخبار فطمأنتها، ثم اتصل بي أخي وسألته من أين يتكلم؟ قال: من المنزل. سألني عن آخر الأخبار وهل صحيح ما نذيعه؟ قلت: أجل. وضعت السماعة فدق التليفون من جديد. وجدتها
عفاف ، قالت إنها لم ترني من زمن، وإنه لا يوجد أحد بمنزلها الآن وبوسعي أن أذهب إليها. قلت لها إن هذا مستحيل؛ لأني أعمل، ولأن المواصلات مقطوعة. قالت: الأخبار جيدة أليس كذلك؟ قلت: أجل رائعة. وجاء
زكي
يسأل عن آخر الأخبار فقلت: لا جديد. قال: ماذا تتوقع؟ قلت: لا أعرف. قال: سنعطيهم علقة ساخنة. وقال
صادق
إنه سيكتب مقاله القادم من
تل أبيب . وكان الراديو ما زال دائرا بأعلى صوت . وشعرت بصداع، وشرعوا يلصقون أوراقا سوداء بالنوافذ. تناولت قهوة وأكلت سندويتشا، وتابعت فم
مايسة
الممتلئ وهي تأكل هي الأخرى. وعندما حل المساء شعرت بتعب شديد، فدخلت غرفة جانبية، واستلقيت على مقعد، ثم عدت إلى مكتبي. واتصلت بي زوجة أخي، قلت إني لا أعرف متى سأعود، وأخيرا أعلنوا أن هناك سيارة ذاهبة إلى
مصر الجديدة ، فركبتها. انطلقنا في شوارع مظلمة تماما، وأنزلوني أمام المنزل، فصعدت السلم في الظلام. فتحت باب الشقة فوجدتها مظلمة، ولم يكن بها صوت. تحسست الجدران إلى حجرتي. خلعت حذائي، ثم دخلت الحمام وأشعلت النور، فصاح بي شخص من الشارع فأطفأته. استحممت في الظلام وعدت إلى حجرتي فنمت على الفور. واستيقظت متأخرا في اليوم التالي، وكان أخي وزوجته قد ذهبا إلى عملهما، فقرأت الصحف وأفطرت وشربت القهوة وأخذت تاكسيا إلى الجريدة، وجاء
أحمد
منفعلا يسألني عن الأخبار. قال: ألم ندخل
تل أبيب
بعد؟ ظللت أمام مكتبي طول اليوم، وغادرت الجريدة عند المغرب. وكانت بعض الأوتوبيسات تسير على مهل وقد أظلمت أنوارها، وغطت مصابيحها الأمامية بطلاء أزرق. لحظت أنها كانت خالية من النساء. وركبت سيارة بها كثير من المقاعد الخالية. وجدت أخي وزوجته في الصالة وقد أغلقا النوافذ بعد أن غطياها بالورق الأزرق، وكانت أمامهما شمعة صغيرة. سألاني عن الأخبار فقلت: لا جديد. دوت صفارة الإنذار وحدث هرج في الشارع وفي المنزل، وارتفعت صيحات تطالب بإطفاء الأنوار. أطفأت زوجة أخي الشمعة وجلسنا في الظلام. وبعد قليل دوت أصوات انفجارات بعيدة. تساءل أخي: أهي قنابل أم مدافع مضادة للطائرات؟ وطرق الباب. كان جارنا الذي ينتظر زوجة أخي كل صباح على السلم، وكانت معه زوجته وأولادهما. قال إن زوجته تشعر بالخوف، وطلب أن يبقوا معنا قليلا. قالت زوجته إنه هو الذي يخاف. أحضرت زوجة أخي مقعدين من الداخل. حاولت أن أتبين في الظلام مكان الرجل من زوجة أخي فلم أتمكن. بكت
نهاد ، وقال أخي إنه يحسن بنا أن ننزل إلى المخبأ. قلت: لن يكون هناك فرق. وقال جارنا إننا نسكن لسوء حظنا قرب المطار. قالت زوجة أخي إن الجميع يهبطون إلى المخبأ. وقلت لأخي إن أبي لم يكن يحب المخابئ. قال إنه لا يتذكر؛ فقد كان في الميدان في حرب
فلسطين
الأولى. قلت إن أبي كان يقول إن الطوابق العليا تسقط فوق المخابئ فتدمر من بها وينجو من بالأولى. قالت زوجة أخي إن القنابل يمكن أن تدخل من النوافذ وتنسف الطابق. وازداد بكاء الأولاد، وتتابع الدوي. قال أخي: لننزل. وغادرنا الشقة ونحن نتخبط في الظلام. هبطنا السلم في صعوبة. وكانت زوجة أخي تهبط بجواري. مدت يدها في الظلام، فأمسكت بيدي وقبضت عليها بقوة، ثم رفعتها إلى شفتيها. ووقفنا متجاورين في المخبأ، وكانت يدها الأخرى تمسك بيد
نهاد . ونادى أخي على
نهاد
فتبينت أنه بعيد عنا. أحطت زوجته بساعدي، وقربت وجهي من وجهها وقبلتها في فمها. كانت شفتاها ناعمتين دافئتين، ورائحة أنفها حلوة. وانطلقت صفارة الأمان فخرجنا إلى النور وعدنا إلى شقتنا. أضأنا نور الصالة فارتفعت صيحات تطالب بإطفائه. أطفأناه وأشعلنا شمعة صغيرة، واقتادت زوجة أخي
نهاد
إلى حجرتها لتنام، ووضعت الشمعة بجوارها. خرجت مع أخي إلى الشرفة، وكانت هناك أنوار في بعض المنازل، وصاح شخص في الشارع يطالب بإطفائها. وبدت السماء صافية تماما. قلت: يبدو أنهم لم يعودوا يستخدمون الكشافات التي كنا نراها في السماء تبحث عن طائرات العدو سنة 1948م. قال إنه لا يريد أن يتذكر تلك الأيام؛ فقد كانت المدافع تنفجر فينا قبل أن نتمكن من إطلاقها، وقال إنه يحسن بنا أن ننتقل إلى منزل أحد أقاربنا في وسط البلد. وجاءت زوجته فأفسحت لها مكانا بيننا. وكانت الشرفة ضيقة، فوقفنا متلاصقين، ومددت يدي في الظلام وتحسست ساقها فوق الفستان، ثم رفعت ذيله، وتحسست ساقها العارية، وكانت دافئة. وعندما ارتفعت يدي إلى أعلى أصبح ملمس أصابعي خشنا فجأة؛ اكتشفت أنها لا ترتدي شيئا من الملابس الداخلية. سحبت يدي فمالت في الظلام وهمست: ماذا حدث؟ لم أجب. وقال أخي شيئا وهو ينحني فوق سياج الشرفة، وردت عليه زوجته، ثم همست لي: لم تكن لدي ملابس نظيفة. قلت إني سأدخن سيجارة. عدت إلى الداخل فأشعلت سيجارة وجلست في الظلام، وما لبث أخي أن جاء تتبعه زوجته فأشعل شمعة، وقال إنه يرى أن تذهب مع
نهاد
إلى والديها في
المنصورة
حتى تهدأ الأمور. نظرت إلي وقالت إنها تفضل أن تذهب إلى خالتها في الجيزة حتى تكون قريبة منا. وقال أخي إنه متعب وسيدخل لينام. قلت: سأدخن سيجارتي ثم أنام أنا الآخر. قالت زوجته إنها لا تريد أن تنام الآن وستبقى معي. ودخل أخي غرفة نومه وأغلق بابها خلفه، وجلست زوجته على مقعد أمامي. تأملت ساقيها، ثم رفعت بصري إلى وجهها وكانت تتطلع إلي في حدة. قالت: لماذا غضبت؟ قلت: لا شيء. طلبت مني سيجارة فأعطيتها واحدة وأشعلتها لها. ظللنا صامتين نتبادل النظرات. قلت إني متعب وسأقوم الآن لأنام. قالت: لا، انتظر. وقفت وقالت: سأطمئن على
نهاد . مضت إلى غرفتها وغابت قليلا، ثم جاءت وبدلا من أن تجلس على المقعد المواجه لي تمددت على أريكة مجاورة، وأسندت رأسها إلى ساعدها. انحسر ثوبها عن ساقها. مددت يدي فتحسستها، ثم سحبت يدي وقلت: سأذهب الآن. قالت: لا. ومدت يدها فجذبتني نحوها. قلت وأنا مائل فوقها: أخي. قالت: غارق في النوم. أنصت فسمعت صوت شخيره يتردد في هدأة الشقة. مالت وأطفأت الشمعة، وتمددت فوقها. كان فمها ساخنا مبتلا، وبالمثل كان جسدها، وفي ثانية كنت في أعمق أعماقها. احتضنتني في عنف، وما لبث جسدها أن تقلص، وعندما فقدت نفسي كانت قد وضعت يدها على فمها لتكتم صوتها. قلت وأنا أعتدل جالسا: سأدخل لأنام الآن. قالت وهي تسوي ملابسها: أشعل لي سيجارة. وكانت تبتسم وتنظر في عيني. أشعلت لها سيجارة، فأخذت مني عود الكبريت وأشعلت به الشمعة وحملتها وانحنت فوق الأريكة تبحث عن أي آثار نكون قد تركناها. وقفت قائلا إني داخل، وذهبت إلى غرفتي فخلعت ملابسي وأويت إلى فراشي ونمت على الفور. وعندما استيقظت كنت غارقا في عرقي وبدا اليوم شديد الحرارة. وجدت زوجة أخي تعد حقيبتها، وقالت إنها أخذت إجازة وستذهب مع
نهاد
إلى خالتها في الجيزة، وستكلمني بمجرد وصولها. أدرت الترانزستور ولم تكن به غير أناشيد حماسية وموسيقى. دخلت الحمام ووقفت تحت الدش، أدرت الصنبور وأغلقت عيني تحت الماء، وفجأة سقط شيء ثقيل على قدمي فصرخت من الألم. فتحت عيني فوجدت رأس الدش قد انفصلت عن عاموده. أعدتها إلى مكانها ودعكت قدمي. استأنفت الاستحمام ورأسي إلى أعلى وعيناي مفتوحتان على رأس الدش خوفا من سقوطه، ثم جففت جسمي وأرض الحمام. ارتديت قميصي وبنطلوني وتناولت إفطاري وخرجت. وكان الشارع هادئا وقد تجمع ثلاثة بوابين أمام البقال ينصتون إلى الراديو في صمت، وكانت الشمس قوية. وعندما وصلت الجريدة وجدتهم قد أطفئوا الراديو. وجاء
زكي
يسألني عن آخر الأخبار. قال إن له جارا فلسطينيا لم يغادر فراشه من ظهر الأمس لأن اليهود اجتاحوا قريته حيث توجد أمه وعائلته. لمحت
صادق
وكانت عيناه حمراوين. وكانت أخبار الوكالات الأجنبية تتحدث عن تطويق قواتنا في صحراء
سيناء . وشعرت بعطش فناديت الساعي ليحضر لي شيئا مثلجا فلم يأت. وغادرت الجريدة إلى الشارع، وكانت الشمس حامية. مشيت بجوار الجدران بحثا عن الظل. وشربت عصيرا في أحد المحلات، ثم جلست في مقهى، ولمحت سيارة عسكرية تخرج مسرعة من مبنى تجمع فيه بعض الجنود، وكان ركابها يدخنون جميعا وقد أمسكوا بعلب السجائر في أيديهم ولا بد أنهم تسلموها لتوهم. وبجوار السائق جلس ضابط ممتلئ يضع على عينيه نظارة شمسية خضراء كبيرة أخفت وجهه، ولم يكن يبتسم. تطلع الناس إلى السيارة وركابها. وتوقف البعض يتابعونها بنظراتهم في صمت حتى اختفت. جف حلقي مرة أخرى فشربت زجاجة كوكاكولا، ثم فنجان قهوة. ودوت صفارة الإنذار. انتظرت مدة لأسمع صفارة الأمان دون جدوى. عدت إلى الجريدة، وقال
مصطفى
إن زوجة أخي اتصلت بي مرتين. وقفت في النافذة أتأمل الطريق، وكانوا قد بدءوا يطلون ظهور سيارات الأوتوبيس باللون الأزرق. وعدت إلى مكتبي فجلست أمامه حتى خيم الظلام، وشعرت بإعياء شديد، فغادرت الجريدة وفكرت أن أدخل سينما، ثم غيرت رأيي وأخذت تاكسيا إلى المنزل، ولم يكن أخي هناك. بحثت عن شمعة الأمس فلم أجدها، فأضأت النور كله، ولم أعبأ بصياح الناس في الشارع حتى خلعت ملابسي وغسلت قدمي ووجهي. طرق الباب شخص غاضب على إشعال النور، فأطفأته بعد أن وجدت الشمعة. وذهبت إلى المطبخ وفتحت الثلاجة ولكني لم أجد رغبة في الأكل، فعدت إلى حجرتي وأغلقت بابها خلفي. استلقيت على فراشي وأشعلت سيجارة، وتناولت الترانزستور، ثم وضعته جانبا. دق جرس التليفون فظللت ممددا أنصت إليه حتى كف عن الرنين. انتهت سيجارتي فأشعلت واحدة جديدة، وسمعت صوت مفتاح يعبث بقفل الباب الخارجي، ثم انفتح الباب وسمعت صوت أقدام أخي في الصالة. ناداني فقلت: أنا هنا. تردد بين المطبخ والحمام، ثم أوى إلى غرفته. لم أتحرك من مكاني وأشعلت سيجارة ثالثة، وشعرت بشيء يخزني في ذراعي فحككته بأصبعي، لكن الوخز ازداد، وظننته برغوثا فنفضت يدي بعيدا، وانتظرت في رعب أن يعلن عن نفسه في مكان آخر من جسدي كما يحدث دائما. شعرت بوخزة في ساقي. لم أتحرك فربما كنت أتوهم. تكررت الوخزة فلم يعد هناك شك. فبللت أصبعي ومددته في بطء داخل سروالي مقتربا في حذر من مكان الوخزة، ثم ضغطت عليه بأصبعي فلم أمسك بشيء. شعرت بوخزة جديدة في صدري فقمت في بطء وفتحت باب الغرفة، وسرت متصلبا إلى الصالة حيث كانت الشمعة. وقفت أمامها ورفعت قميصي في حذر آملا ألا يكون البرغوث قد تحرك من مكانه، وأخذت أبحث عنه في ثنايا القميص. تطلعت إلى صدري العاري فوجدت بقعا حمراء كبيرة مثل تلك التي يصنعها البرغوث بلدغته ولكن أكبر، وأحسست أيضا أن كل مكان في جسدي يحكني. دعكت ساقي وصدري، لكن الإحساس بالحك زاد وانتقل إلى وجهي ورأسي وكل جسمي. حملت الشمعة إلى حجرتي ووقفت أمام المرآة. رفعت الشمعة وتأملت وجهي في دقة، فوجدت البقع الحمراء البارزة منتشرة على سطحه. حاولت أن أتجاهل الأمر، لكن جسدي كله كان مشتعلا. مضيت إلى حجرة أخي حاملا الشمعة وطرقت الباب، دخلت ونزعت قميصي دون أن أتكلم، ثم رفعت الشمعة أمامه. نهض أخي من فراشه وفحص البقع الحمراء على ضوء الشمعة، ثم طلب مني أن أجلس وأهدأ، وقال إنها لا شيء. ارتدى ملابسه وقال إنه سيأتي لي بدواء من صيدلية قريبة. ظللت جالسا كما أنا عاري الصدر أمام الشمعة. وعاد أخي بعد قليل يحمل زجاجة دواء. انتقلت إلى حجرتي وتمددت على الفراش بعد أن خلعت كل ملابسي، ونثر أخي محتويات الزجاجة على جسدي، ثم بسطها بيده، وظل بجواري حتى بدأ الالتهاب يخف، ورحت في النوم. واستيقظت متأخرا في اليوم التالي بإحساس شديد بالإرهاق. أفطرت وغادرت المنزل ولم أذهب إلى الجريدة. جلست في مقهى بميدان
التحرير ، وكان الراديو ما زال يذيع الأناشيد والموسيقى الحماسية. وبعد مدة قمت وجلست في مقهى آخر، ثم ذهبت إلى الجريدة، وقالوا إن عدة تليفونات سألت عني. واتصلت بنا قيادة الجيش تسأل عن الأخبار، لكن كل شيء كان مشوشا. وغادرت الجريدة ومشيت في الشوارع، ثم أخذت تاكسيا إلى منزل
إنصاف
وكانت تجلس في الصالة بجوار أختها وقريبة لها، وكان الراديو يذيع أغنية «بلادي بلادي». قلنا إن هناك شيئا ما. وبعد قليل اتصلت بالجريدة فرد علي
صادق
وكان يبكي. قال: انتهى كل شيء. قلت: ماذا تعني؟ لم يرد وواصل البكاء. وضعت السماعة ونظرت إلى
إنصاف ، ثم رفعت بصري إلى صورة زوجها المعلقة على الجدار. جلسنا صامتين ننتظر، ثم أعلن المذيع أننا قبلنا قرار وقف إطلاق النار. قلت: سيحملوننا المسئولية عما حدث. غادرت المنزل وسرت إلى منزل أخي، وكانت بعض المنازل مضاءة والبعض الآخر مظلمة، ولم يكن أخي بالمنزل، أو ربما كان في حجرته. دخلت حجرتي ونمت بملابسي، وظللت نائما حتى ظهر اليوم التالي، وأخيرا قمت فاستحممت، وسقط رأس الدش مرة أخرى فأعدته مكانه، وأعددت إفطارا من البيض، وشربت كوبا من الشاي، ثم فنجانا من القهوة، وبحثت عن قميص نظيف فلم أجد. غسلت واحدا وأرسلته إلى الكواء مع البواب، وكانت الشقة متربة، وطلبتني زوجة أخي وقالت إنها تحاول الاتصال بي منذ الصباح ، وقالت إنها ربما تعود اليوم وربما تذهب مع
نهاد
إلى والدتها في
المنصورة . وقالت: لماذا لا تأتي عندنا في
الجيزة
لتسمع خطاب المساء. قلت: سأسمعه في الجريدة. وغادرت المنزل. كانت الشوارع خالية، ومرت بي فتاة أجنبية تطلعت إلي في سخرية. وذهبت إلى الجريدة. وجاء
زكي
يسأل: ماذا سنفعل بالصفحة الأخيرة؟ قلت: سنعود مرة أخرى إلى قصص المقاومة وحروب التحرير ... إلخ. وجلسنا ننتظر. وفي السابعة تجمعنا أمام جهاز تليفزيون، وعندما أعلن الرئيس قراره بالتنحي انفجرت
سلوى
باكية، وتشنجت
مايسة ، وانهار
زكي
على مكتبه باسطا ذراعه أمامه، دافنا وجهه فيها وهو ينشج. وغادرت الجريدة إلى الشارع، وكان الظلام ينتشر بسرعة والناس تجري في كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون، ثم أخذوا يشكلون اتجاها واحدا إلى
مصر الجديدة
وهم يرددون في جنون اسم «
ناصر ». وظهرت بعض الأنوار في المحلات والمنازل، ثم دوت أصوات مدافع فوق رءوسنا، فساد الظلام من جديد، لكن الجماهير واصلت اندفاعها، وسرت معهم قليلا، ثم انفصلت عنهم وانحرفت في شارع جانبي. وعند مفترق طريقين التمع ضوء سريع ظهرت فيه كتلة من الشعر الأبيض ووجه مليء بالتجاعيد. وكان الرجل يسير نحوي. كنت أعرفه، وكان يتردد على السجون باستمرار منذ سنة 46. وساد الظلام مرة أخرى. فمر بجانبي دون أن يراني. لم أحاول إيقافه، وأخذت أبحث عن تاكسي. وجدت واحدا بصعوبة رضي أن يحملني إلى منزل أخي، وقال السائق إنه لا يستطيع الذهاب من شارع
رمسيس
لأن الجماهير تسد الطريق، فذهبنا من
العباسية
ولم نستطع المرور من النفق فقمنا بدورة واسعة، وأخيرا وصلت المنزل. وعندما دخلت أضأت النور دون أن أعبأ، وانطلقت إلى غرفتي فجذبت حقيبتي من فوق الدولاب. وضعت بها بعض الملابس والكتب، وفتحت درج مكتبي وأخذت كراستي وألقيت بها في الحقيبة، ثم أغلقتها وجلست على حافة الفراش. أشعلت سيجارة وفكرت: إني لا أعرف مكانا أذهب إليه، وفي وسعهم أن يصلوا إلي في أي مكان. أطفأت سيجارتي في المنفضة، ودفعت الحقيبة بقدمي حتى استقرت أسفل السرير.
الفصل السابع
أعطاني
الطبيب ورقة وقال لي أن أذهب بها إلى الأخصائي في المستشفى بعد أن أضع عليها ختم الجريدة. صعدت إلى الإدارة ولم أجد الموظف الذي يحتفظ بالختم، وقالوا إنه في حجرة أخرى. ذهبت إليه فقال إن هذا ليس من اختصاصه. نزلت إلى الطبيب فأكد أنه اختصاصه، وحدثه في التليفون، ثم طلب مني أن أصعد إليه مرة أخرى. صعدت إليه فأخرج الختم وضغطه على الورقة ونزلت إلى مكتبي. قال لي
زكي
إن أخي اتصل بي ويريد مني أن أكلمه. طلبته في عمله فقال إنه سيسافر بعد ساعة إلى
المنصورة
ليقضي الليلة والغد مع زوجته، ولن يتعشى معي بالليل. غادرت الجريدة إلى المستشفى وكان الجو حارا خانقا. اخترت أوتوبيسا مزدحما، وصعدت من باب الدرجة الأولى ولم تكن بها راكبات. شققت طريقي إلى الحاجز الفاصل بين الدرجتين ووقفت عنده. كانت رائحة العرق فظيعة. تابعت المحطات التي نمر بها، وصعدت واحدة في إحداها، لكنها كانت كبيرة السن وتتحرك في إعياء. صعدت واحدة أخرى بملابس بلدية وكانت سمراء مفرودة وممتلئة، وعبرت زجاج الدرجة الأولى متجهة نحوي. أفسحت لها مكانا بجواري. كان رداؤها مشجرا تعلوه طرحة سوداء، وبدت مؤخرتها بارزة وممتلئة. حاولت أن أجعلها أمامي لكن الزحام أجبرها على أن تعطي ظهرها لظهري. ألصقت ساقي بها، ثم شعرت بساقي تستقر بين ساقيها، ولم تكن تكف عن تحريك قدميها والانحناء لتتأمل الطريق. دقق أحد الجالسين أمامي النظر ليتبين مدى اتصال جسدينا فابتعدت عنها قليلا. أدار أحدهم جهاز ترانزستور فسمعنا أن عدوانا جديدا حدث هذا الصباح على
السويس . حولت بصري إلى الراكب الفضولي فوجدته ينظر من النافذة، فدفعت المرأة بساقي وضغطت عليها. انتهزت فرصة مرور المحصل فاستدرت بحيث أصبحت خلفها. كنت مشدودا، واستقر جسمي لحظة بين ساقيها. دفعني أحد الواقفين جانبا ونظر إلى ساقي وأراد أن يحتل مكاني لكني تمسكت به، وتوقفت العربة فجأة. تطلع جميع الركاب من النوافذ. كان الطريق مغلقا. قالوا إن الموكب سيمر بعد قليل. ومالت المرأة إلى الأمام لتتأمل الشارع. انحنيت فوقها وأنا أتظاهر بتتبع ما يجري في الخارج . كان الشارع خاليا تماما من المارة. كنا في تلك المنطقة بين
القبة
ونفق
العباسية
حيث لا يوجد غير ثكنات عسكرية. مرت عدة موتوسيكلات، ثم سيارة نجدة تطلق صفارتها الحادة، ثم ظهر الموكب ومرت السيارة المكشوفة التي تجمع فيها الملوك والرؤساء العرب وقوفا ليردوا تحية الجماهير. انحنت المرأة أكثر لتتمكن من الرؤية جيدا، وانحنيت فوقها بالمثل. شعرت بدفء ساقها الممتلئة المشدودة. أخذت أتحرك فوقها متظاهرا بالرغبة في الرؤية الدقيقة، وكانت هي تتحرك بالمثل. تبلل وجهي بالعرق وأحسست برغبة في أن ألمسها بيدي. مرت آخر سيارة في الموكب، وعاد الركاب إلى أماكنهم. استأنفت السيارة سيرها، واعتدلت المرأة واقفة. ابتعدت عنها قليلا، وانتهز منافسي السابق الفرصة فدفعني جانبا واحتل مكاني. استندت إلى الحاجز وأشعلت سيجارة، وخلا مقعد بجواري فجلست وغادرت السيارة عند المستشفى. بحثت عن الأخصائي الذي سيراني. وجدت أنه لا يأتي قبل ساعتين. جلست أدخن أمام بابه حتى جاء. وقفت في الطابور، ثم أدخلوني عليه. تطلع في ورقتي وقال إنه لا يوجد أي إمضاء من شخص مسئول في الجريدة وإن الختم لا يكفي، ورفض أن يفحصني. انصرفت وأخذت الأوتوبيس عائدا. لم يكن مزدحما بما فيه الكفاية فغادرته في
العباسية . أخذت أوتوبيسا آخر. وقفت بجوار سيدة عجوز. بعد قليل اقترب مني رجل بجبة وطربوش وقرب يده من ساقي. لمحته يطبق يده في قبضة غير كاملة ثم يخفيها تحت كم سترته الفضفاض ويزحف بها فوق ساقي. تراجعت بعيدا عنه فلاحقني، فتركت المكان كله وراقبته من بعيد يكرر نفس الحركات مع الراكب الواقف بجواره. تابعت يده الممسكة بمسند المقعد المعدني وهي تنزلق فوقه إلى الحافة القريبة من ساق الراكب الآخر، ثم تترك الحافة وتتدلى متكورة في نصف قبضة أسفل الكم الفضفاض، وكان رأسه لا يكف عن الحركة في مختلف الاتجاهات ليطمئن أن أحدا لا يراه. التقت نظراتنا فحولت بصري بعيدا، ونزلت في محطة الجريدة. وجدت الطبيب قد انصرف. بحثت عن رئيس التحرير ليوقع بإمضائه فلم أجده، وقال
مصطفى
إنه سيرفض التوقيع لأنه يخاف من وضع اسمه على أية ورقة مهما كانت. وقال
زكي
إنه مفلس، وماذا سيفعل الآن بعد أن رفعوا الأسعار وخصموا منا التبرعات؟ وقال إنه تبرع بدمه هذا الصباح، وروى لنا آخر نكتة، وقال
مصطفى
إنه ذهب هذا الصباح إلى شقة أحد أصدقائه، وكانت هناك فتاتان وقد صورهما عاريتين، وأصرت واحدة على أن تأخذ خمسين قرشا إذا أراد أن يصورها من الخلف. وبعد أن صورها اكتشف أنه نسي أن يدير أحد الأزرار وأن الفيلم لم يسجل شيئا. وقال
سالم
إنه بدأ يتدرب على السلاح مع المتطوعين، وإن زوجته ستتطوع أيضا. وجاء
فتحي
وقال إنه كتب كتابا عن معركة
بورسعيد
لأن هذا هو المطلوب الآن. ووقفنا في النافذة نطل على الطريق، وكانت ظهور السيارات تتتابع تحتنا وقد طلي بعضها باللون الأزرق، وظل البعض الآخر أبيض من غير طلاء. نزلت مع
فتحي
إلى الشارع وعبرنا شارع
26 يوليو
إلى شارع
سليمان . كانت أكياس الرمل وحوائط الطوب في كل مكان. عبرنا الشارع خلف شقراء محروقة البشرة من الشمس، يكشف فستانها الأزرق عن كتفيها وفخذيها. ولمحنا
صادق
يجلس على رصيف مقهى وقد وضع نظارته الشمسية السوداء على عينيه، فجلسنا بجواره نتابع العابرات. قال
فتحي
إنه يريد أن يذهب إلى سينما من 3 إلى 6. قلت إني سآكل شيئا وأعود إلى الجريدة. أخذت المصعد إلى طابق
سلوى . لم أجدها في مكتبها، ورآني أحد السعاة فسألني إن كنت أبحث عنها، وقال إنه يظن أنه رآها منذ قليل، وأراد أن يبحث عنها فوضعت يدي على ذراعه وقلت إني سآتي مرة أخرى. هبطت إلى مكتبي، ووجدت أنباء بأن الطائرات الإسرائيلية تضرب
السويس
مرة أخرى. سألني
مصطفى
عما إذا كنت قد قرأت للشاعرة التي تكتب بالفرنسية. قال إنها كانت تحب واحدا ثم أصيب في قضيبه بالسرطان فأصرت أن تتزوجه، لكنه سرعان ما مات؛ فكتبت ديوانا رائعا باسم «صرخات» وسافرت إلى
أوروبا . شعرت بالتعب، واقترح
مصطفى
أن نذهب لنشرب بيرة، فرفضت، قلت إني أريد أن أنام. خرجت ومشيت إلى محطة المترو، وكان زحام الشراء قد بدأ . ركبت خلف فتاة سمراء، ولم أستطع الوقوف بجوارها إذ فصلني الزحام عنها. وجدت نفسي بجوار واحدة بيضاء أنيقة لها رائحة مختلفة ومثيرة شممت مثلها مرة منذ سنوات طويلة. كانت تتلفت حولها بصورة هستيرية خوفا من أن يلمسها أحد. اكتفيت بأن أشم رائحتها بعمق. هبطت الفتاة في محطة
الدمرداش ، ووجدت مكانا فجلست حتى محطتي. مضيت إلى منزل أخي فأخذت حماما ووضعت قطعة كبدة على النار، وأعددت طبقا من السلاطة، ثم أكلت الكبدة وأنا أقرأ في صحف الصباح تفاصيل ضحايا عدوان الأمس على
الإسماعيلية ، وكانت هناك صور للقتلى، وغرفة النوم التي اقتحمتها قنبلة في حجم الشمامة الكبيرة. انتهيت من الأكل فوضعت الصحون في الحوض وغسلت يدي، ثم أشعلت سيجارة وتمددت فوق الفراش. غفوت قليلا، ثم أيقظني جرس التليفون. تطلعت إلى ساعتي وكانت ما تزال هناك عدة ساعات على موعد مكالمتي مع زوجة أخي. قمت إلى التليفون فوجدت
فؤاد ، قال إنه يريد أن يذهب إلى السينما، قلت إني لن أخرج الليلة، قال إنه يقضي الوقت كله بمفرده في شقة
المقطم
المطلة على
القاهرة ، وإنه يحدث نفسه أمام جهاز التسجيل وقد ملأ للآن عدة شرائط. اتفقنا على أن نلتقي في الغد ليسمعني الشرائط. ودق جرس التليفون مرة أخرى؛ قالت
إنصاف
إنها مريضة، قلت إنها كانت في أحسن حال بالأمس، قالت إنها ذهبت إلى الطبيب في الصباح، قلت إني قادم. ارتديت ملابسي وذهبت، وكانت زوجة
عادل
هناك، وقالت لي إنها انزعجت عندما أخبرتها
إنصاف
بمرضها، وجاءت على الفور فوجدتها في أحسن حال. كانت
إنصاف
تحتسي القهوة، وعندما نظرت إليها قالت إنها أحسن حالا الآن، وقالت إنها ستجن من النسوة اللاتي يحطن بها، وقالت إن أختها لا تريد أن تشارك في نفقات المنزل، وإن صاحب المنزل واثق من كسب قضية الإيجار، وقال لها اليوم إن التخفيضات ستلغى، وقالت إنه يكاد يطير من الفرح لأن الحراسة رفعت عن أراضي البعض. تطلعت إلى ساعتي فقالت إن
حسنين
ذكي، وإنه تغدى عندها اليوم، وقالت إنه يناسبها تماما فهو في الخمسين وبلا زوجة أو أولاد ، وقالت إنه يأتي كل يوم الآن ويجلس صامتا لا يتكلم، ويحمر وجهه عندما تتحدث إليه، وإنها لا تعرف ماذا تفعل معه. تطلعت إلى ساعتي مرة أخرى فسألتني عن أخي وزوجته. قالت إنها لا تطيق زوجة أخي، وإنها على أية حال تكره جميع النساء. قلت إني أريد أن أذهب الآن لعملي. قالت: ابق قليلا حتى موعد العشاء. قلت إني أكلت منذ قليل، قالت إنها تخشى أن تموت في أي لحظة. غادرت مقعدها بصعوبة وقالت إنها سترى ماذا أعدوا للعشاء. مضت إلى المطبخ. أدرت التليفزيون. كان هناك بيان عن اجتماعات الملوك والرؤساء، وإنها انتهت، وإنهم اتفقوا على الإجراءات اللازمة. قمت واقفا عندما عادت
إنصاف ، وقلت إنهم لا بد سيحتاجون إلي في الجريدة الآن. انصرفت إلى منزل أخي وخلعت ملابسي. كان الجو حارا والعرق يسيل على وجهي وذراعي فأخذت حماما، ثم جذبت حقيبتي من أسفل السرير وأخرجت منها كراستي، وأغلقت الحقيبة وأعدتها مكانها. جلست إلى المكتب بملابسي الداخلية وقرأت ما كتبته من قبل، وكان العرق ما زال يسيل على وجهي وذراعي، وسقطت نقطة منه على الورق. تحسست ذراعي بخدي وشممت رائحة عرقي، وأغلقت الكراسة ووضعتها في الدرج. قمت فأخذت رواية
إريك ماريا ريماك ، وجلست أقرؤها بجوار التليفون. وجدتها بلا طعم، وقد فقد روحه المرحة في روايته الأولى المشهورة، وأخذ يكرر نفسه. فتحت الراديو ثم أغلقته. دق جرس التليفون فرفعت السماعة وإذا بها
سلوى . قالت إنها تتحدث من منزلها، وإنها مريضة منذ كانت معي أول أمس، وقالت إنها غاضبة لأني لم أسأل عنها أمس أو اليوم، وقالت إنها تفكر في طول الوقت. قلت إني سأكلمها غدا لأني خارج الآن إلى موعد ضروري. وضعت السماعة وذهبت إلى حجرتي، ثم دخلت الحمام وأضأت نوره وغسلت فمي بالماء، ثم أطفأت النور ودخلت حجرة أخي فأضأت نورها ووقفت أتأمل محتوياتها. كانت هناك مجلة مصورة ملقاة على الفراش ومفتوحة على صورة فتاة عارية، وبجوار المجلة ملابس داخلية مستعملة، وكان الفراش غير مرتب. أطفأت النور وذهبت إلى حجرة زوجة أخي ، وجدتها مرتبة بعناية. جذبت مقبض دولابها لكنه كان مغلقا بالمفتاح، وبالمثل كانت أدراج المرآة. أطفأت النور ومضيت إلى المطبخ. وقفت أتأمل محتوياته. كان هناك صف من الزجاجات والعلب الفارغة في الركن، ولم تكن زوجة أخي تتخلص من أي شيء فارغ. تناولت كنكة القهوة، ثم أعدتها مكانها، وأخذت إبريق الشاي فوضعت فيه كوبا من الماء ووضعته على النار. وقفت في نافذة المطبخ أتأمل الشرفة المواجهة، ثم عدت إلى إبريق الشاي وكانت المياه قد غلت فأطفأت الموقد. أضفت ملعقة من الشاي إلى الإبريق وتركته قليلا، وأعددت كوبا من ثلاث ملاعق من السكر. أفرغت الشاي في الكوب وحملته إلى الصالة وجلست أشربه أمام التليفون، ثم أشعلت سيجارة وأطفأت النور. مضيت إلى حجرتي فتمددت على الفراش في الظلام أدخن، وتمنيت في لحظة ألا تأتي المكالمة على الإطلاق، ثم دق جرس التليفون دقة طويلة متصلة. قفزت إلى الصالة ورفعت السماعة. سألني عامل الترنك عما إذا كنت هو أنا، ثم جاءني صوتها بعيدا ملهوفا. قالت إنها تأخرت لأن أخي وصل منذ ساعتين ولم تتمكن من مغادرة المنزل إلا الآن، وقالت إنها متعبة وتريد أن تعود، وإن
نهاد
تشكو من إسهال شديد، وقالت إنها تفتقدني. قلت إني أفتقدها بالمثل. قالت إنها ستكلمني الأسبوع القادم في نفس الموعد، وتدخل صوت عامل الترنك الحاسم ليعلن انتهاء المكالمة. أعدت السماعة مكانها وأشعلت سيجارة جديدة وأنا أتطلع إلى الجهاز الأسود.
الفصل الثامن
حلمت
أنها عادت وأنها امتلأت قليلا وأصبحت لها مؤخرة بارزة، ثم حلمت أني أهرب من شخص وأقتله، وإذا بي أجده يبحث عني فأصطنع أني مت، وأن الدماء تسيل مني، ثم استيقظت وتطلعت إلى ساعتي، وقمت إلى الحمام فتبولت سائلا شديد الاصفرار شديد التركيز في اللون والكمية والرائحة. دق جرس الباب فأسرعت إليه وأنا أفتح عيني في صعوبة. كانت الخادمة تحمل زجاجة اللبن والصحف. تركتها وعدت إلى حجرتي فأغلقت بابها علي. رحت في النوم، ثم استيقظت على جرس المنبه الذي ضبطته على الحادية عشرة. ظللت راقدا أتطلع إلى السقف، وفكرت في كيفية الحصول على نقود، ثم غادرت الفراش إلى الحمام وسمعت الخادمة تدخل غرفتي. وضعت الصابون على ذقني وتناولت موسى جديدة. تأملتها في دقة. بدت غير مألوفة اللون وشكل الاسم وكلمة مخصوص. وضعتها في المكنة وحلقت ببطء ورفق كما نصحني الطبيب. كان قد طلب مني أن أحترم ذقني. غسلت أسناني، ثم ذهبت إلى الصالة فتهالكت بجوار التليفون. تناولت الصحف. كان هناك بلاغ عسكري ليلة أمس لم أسمعه رغم أني بقيت في الجريدة حتى ساعة متأخرة. حاول العدو تعزيز قواته وأجبر على الانسحاب. تركت الصحف لأقرأها مع الإفطار، ووضعت اللبن فوق النار وبجواره الشاي وأفطرت، ثم أخذت حماما وأنا أتطلع إلى رأس الدش في حذر خوفا من أن يسقط فوقي كما يفعل دائما، وعندما خرجت قالت لي الخادمة إنها أزالت الغبار عن حقيبتي وسألتني أين أحب أن أضعها. طلبت منها أن تتركها مكانها. وجدت حجرتي نظيفة مرتبة، فأعددت فنجانا من القهوة. جلست إلى مكتبي وراجعت ما كتبته بالأمس. فكرت في المرأة التي التصقت بها في أوتوبيس المساء، ومددت يدي أتحسس ساقي، ثم جذبت يدي وقمت وارتديت ملابسي، وأحصيت ما معي من نقود. فكرت أن أتصل
بعفاف
وأذهب إليها، ثم عدلت عن ذلك وغادرت المنزل. أخذت علبة سجائر على الحساب من البقال ذي الوجه الباكي، وقررت أن أركب المترو لأنه أرخص، وعندما بلغت الشارع الرئيسي أبصرت سيارة أوتوبيس مزدحمة، فسرت إلى محطة الأوتوبيس وأخذت السيارة التالية، وكانت هناك امرأة تقف مستندة إلى العامود المجاور للسائق. وقفت خلفها وظهري لها وراقبتها بزاوية عيني وأنا أدفعها بظهر ساقي. رأيتها تلتفت منزعجة متوقعة أن تجد أحدا خلفها بوجهه، فاطمأنت عندما رأت ظهري. وبعد قليل عدت أدفعها بساقي في خفة فابتعدت. بحثت عيناي عن غيرها. لم أجد غير سمراء متعبة كانت تتأملني من مكانها بين الدرجتين، ولم يكن من السهل علي أن أصل إليها في الزحام. شق أحد الركاب طريقه إلى الباب المجاور لي لينزل في المحطة القادمة، ووقف عنده ممسكا بالعامود الذي استندت إليه المرأة المنزعجة، ودار بأصبعه حول العامود وحاول أن يلمس ظهرها وهو يميل إلى الأمام متظاهرا بأنه يتأكد من المحطة التي سينزل فيها. نزلت أنا في محطتي وتجولت قليلا في الشوارع المزدحمة، ثم ذهبت إلى الجريدة. وجدت على مكتبي تعليمات بألا ننشر شيئا عن إعادة ما اقتطع من بدلات بعض الموظفين. صعدت إلى مكتب
سلوى . كانت بمفردها وأمامها مجلة لبنانية خليعة. مدت إلي يدها وتركتها في يدي حتى سحبتها أنا. جلست أمامها. كان شعرها يهبط على وجهها ويكاد يغطي عينيها اليمنى، وكانت ترتدي بلوزة بيضاء خفيفة على اللحم، ويبدو طرف مشدها الأسود بين الأزرار، وبدا صدرها صغيرا. تذكرت
رمزي
الذي كان يقول في ثقة إن الفتيات ذوات الصدر الصغير باردات. دق جرس التليفون أمامها. كانت أمها تطمئن عليها، وضحكتا سويا على شاب يطاردها ويريد أن يتزوجها. وضعت السماعة فقدمت لها سيجارة. قالت إنها لم تقم علاقة مع شاب من قبل رغم أنها تقترب من الثلاثين، وقالت إنها كانت دائما مشغولة بدراستها وعملها، ولم تكن لها سوى صديقة واحدة عزيزة، وكانتا دائما سويا في المدرسة وفي الجامعة، ولم تكونا تفترقان أبدا، وترتديان دائما ملابس متماثلة. واختفت عينها اليمنى تماما أسفل خصلة شعر فمدت يدها وأزاحتها، وقامت فأخذت حافظتها الصغيرة من حقيبتها وغادرت الغرفة، وعندما عادت كانت قد أضافت طبقة جديدة من الأصباغ إلى وجهها. وكانت الحجرة ضيقة والجو خانقا رغم أن النافذة مفتوحة. عرضت عليها أن ننزل ونذهب إلى أي مكان فارتعش طرفا أنفها، قالت إنها مضطرة للانتظار لأن لديها موعدا مع شخص غريب، وقالت إنها بالأمس وهي تغادر الجريدة اعترضها شخص وناداها باسمها وقال لها إنه يمشي خلفها من ثلاث سنوات ويحبها في صمت، ويريد الآن أن يتزوجها بعد أن أصبح مهندسا ناجحا. وقالت إنه أصر على أن يتحدث معها فأعطته موعدا اليوم. كنت أتأمل يديها وأظافرها الطويلة الملونة، وفكرت في أطراف الهياكل العظمية التي نراها في عيادات الأطباء. وشعرت بصداع. وقفت قائلا: إني سأذهب الآن لأني تذكرت موعدا هاما. قالت إنه ما زال أمامها ساعتان على موعدها مع المهندس وليس لديها ما تفعله، قلت إني كنت أفضل أن أبقى معها لولا موعدي. قالت: لماذا لا تعود بعد أن تنتهي من موعدك؟ قلت إني سأفعل. وغادرتها إلى الشارع. اتجهت إلى شارع
26 يوليو
ووقفت أنتظر الأوتوبيس. كان الزحام شديدا أمام المحطة كالعادة، وفتيات الشركات المرهقات يتحاملن على أنفسهن من التعب، ويفكرن في المحنة القادمة وحظ كل منهن منها وما ينتظرهن في المنازل من واجبات متعددة. راقبت واحدة منهن كانت تجري في إعياء نحو سيارة أوشكت على الوقوف. وظهرت بقعة كبيرة من العرق على ظهر بلوزتها. وجعلت تصارع لتركب بأي طريقة، حتى استقرت أخيرا على السلم، وبرزت بلوزتها من مكانها تحت الجونلة. فوجئت
برمزي
يقترب من المحطة. سألني إن كنت عائدا إلى
مصر الجديدة . فكرت بسرعة وقلت إني ذاهب إلى
الدقي . جاءت سيارة مزدحمة تذهب إلى
مصر الجديدة ، وبدت بلوزة خضراء في زجاج واجهتها فقفز رمزي إليها. أخذت أنا سيارة
مصر الجديدة
التالية، ووقفت بجوار ساقين ممتلئتين، ومؤخرة صغيرة كثيرة الحركة. حاولت أن أقف خلفها لكن عجوزا عصبيا تصدى لي، وكنت قد رأيته من قبل عدة مرات في الأوتوبيس في هذا الموعد، ويبدو أنه تعرف علي. أخذ يتطلع إلى ساقي وإلى ظهرها وقد جعل كل همه ألا يلمسها أحد، وكان يتمتم لنفسه غاضبا. يئست أخيرا فغادرت الأوتوبيس بعد محطتين، وفكرت في أن أركب إحدى السيارات الذاهبة إلى
شبرا
فهي دائما تكون مزدحمة. انتظرت حتى جاءت سيارة تسير مائلة من الزحام. شققت طريقي بصعوبة إلى باب الدرجة الأولى، حاشرا نفسي بين الصاعدين. وكانت هناك فتاة صغيرة تحاول النزول، ورأيت الشاب الذي يتقدمني يمد يده ويعتصر ثديها في وحشية. شرع الأوتوبيس يتحرك والفتاة تحاول النزول بلا فائدة والشاب يعتصر صدرها، وبدا الرعب على وجهها وصرخت قائلة إنها تريد أن تنزل، ثم بكت. نجحت أخيرا في أن تمر من الشاب، فاستدار خلفها ومد يده إلى ظهرها، وكنا جميعا نتطلع إلى وجهه الوادع وإلى وجه الفتاة المرعوب. ووقفت في الزحام الشديد أتصبب عرقا وقد تهدل قميصي. ولم تكن هناك غير امرأة واحدة على مبعدة لكنها كانت محاصرة، وكان الجميع يتبادلون النظرات. ازداد الزحام وأشعل أحدهم سيجارة. شعرت بالاختناق فقررت النزول، وشققت طريقي بصعوبة إلى الباب، وشعرت بيد تلمس ساقي من الخلف، وأردت أن أمد يدي لأطمئن على حافظة نقودي الفارغة إلا من بعض الأوراق فلم أستطع من الزحام. بلغت الباب أخيرا ونزلت بعد أن خرج قميصي تماما من البنطلون وطار أحد أزراره. وجدت أن حافظة نقودي قد ضاعت. تأكدت من القروش القليلة في جيب بنطلوني، ثم ساويت ملابسي وعبرت الطريق. أخذت الأوتوبيس القادم من الناحية الأخرى لأعود من حيث أتيت، ووجدت مقعدا فارغا فارتميت فوقه. نزلت في شارع
رمسيس
وعدت أدراجي إلى المترو فركبته. لم يكن هناك مقعد فارغ وكنت أتمنى أن أجلس. وقفت في الفراغ الذي يفصل بين صفوف المقاعد واستندت بظهري إلى نافذة. كان سقف العربة واطئا والنافذة المقابلة تحت مستوى عيني، ولم أكن أرى من مكاني سوى الشقوق الصغيرة في فتحة التهوية المثبتة فوق الباب المغلق، ولم يكن بوسعي أن أرى شيئا مما في الخارج. وفيما مضى كنت أحب أن أجلس بجوار النافذة في اتجاه انطلاق المترو وأترك وجهي للهواء العنيف، وأتابع الشوارع والناس ونحن نمر بها بسرعة خاطفة تفصلنا عنهما قضبان الحاجز الذي يمتد بطول شارع
رمسيس ، ثم نختفي في النفق، وتمر لحظات من الظلام الدامس يكون فيها جدار النفق قريبا للغاية من النافذة، ويكون بوسعي أن أمد يدي وألمسه، ثم ينتهي النفق وتبدأ الأرض في الصعود تدريجيا ويبطئ المترو سيره حتى محطة
منشية البكري ، ثم بعد ذلك المحطات المتقاربة بين أشجار شوارع
مصر الجديدة . توقف المترو في محطتي ونزلت. اخترقت الشارع الذي تقع به السينما لأرى ما تعرضه في المساء، ثم انطلقت إلى المنزل. أخذت من البقال زجاجة بيرة على الحساب، ووجدت أخي في حجرته نائما. وضعت الزجاجة في الفريزر، ثم وضعت قطعة لحم على النار وعدت إلى الحمام. استحممت وشممت رائحة احتراق اللحم. أسرعت إلى المطبخ وأنزلت المقلاة. كانت قطعة اللحم قد أوشكت على الاحتراق واسودت تماما. أعددت السلاطة، ثم أخرجت زجاجة البيرة وشربتها. كانت قطعة اللحم صلبة كالخشب. أشعلت سيجارة، ثم دخلت حجرتي وأغلقت الباب خلفي بالمفتاح. جذبت حقيبتي من تحت السرير. فتحتها وبحثت في أرجائها تحت الكتب والملابس. أخرجت بعض الصور العارية ووضعتها على الفراش، ثم أغلقت الحقيبة وأعدتها إلى مكانها. نزعت ملابسي كلها حتى أصبحت عاريا تماما واستلقيت على الفراش.
الفصل التاسع
أحسست
أن وسطي سينكسر. كانت شفتاها جافتين، ورأيتها تدير وجهها بعيدا وتبلل شفتيها بلسانها خفية، وكنا نسبح في العرق، ولم أتمكن من الاستمرار فابتعدت عنها وتمددت على ظهري ألهث. قالت في عنف: فيم كنت تفكر؟! قلت: لا شيء. ثم قلت: أنت أيضا كنت تفكرين. بحثت عن علبة السجائر في الظلام وأشعلت سيجارة أخذت منها نفسين، ثم أعطيتها لها وقلت: لقد تغير شيء بعد عودتك من
المنصورة . قالت: لم يتغير شيء. وجذبتني نحوها. أخذت سيجارتها وأطفأتها، وعدنا من جديد، وفي هذه المرة كانت تتألم. ابتعدت عنها، وشرعت تبكي في سكون. قالت إن رحمها تالف بسبب حادث قديم، وإنها كانت دائما تتألم. وقالت إن
المنصورة
كانت جحيما، وكانت أمها في شجار مستمر مع أبيها، وقالت إنها شعرت بأخي يميل إلى قريبة لها، وقالت إنها لا تريد أن تفقده ولا تحب له أن يعرف واحدة غيرها. غادرت الفراش وارتديت ملابسي الداخلية وبنطلون البيجامة وأضأت النور. فتحت باب حجرتي، ثم أغلقته بالمفتاح خلفي. ألقيت نظرة على حجرة زوجة أخي حيث كانت
نهاد
نائمة، ثم ذهبت إلى المطبخ. تناولت براد الشاي وحملته إلى الحوض وأفرغت ما به من شاي قديم، ثم وضعت فيه قليلا من الماء وهززته، ثم أفرغته ثانية. تطلعت داخله وكانت ما تزال به آثار من تفل الشاي. ملأته بالماء مرة أخرى وهززته، ثم أفرغت الماء، لكن بعضا من بقايا ورق الشاي ظلت عالقة به. ملأت كوبين من الماء وضعتهما في البراد، ثم أضفت قيراطا آخر. وضعت البراد على النار ، ووقفت أمامه حتى بدا يغلي فأطفأت الموقد ووضعت ملعقتين من الشاي في البراد وأغلقته. انتظرت ثلاث دقائق، ثم أحضرت فنجانين ووضعت ثلاث ملاعق من السكر في كل منهما، ثم صببت الشاي. وضعت الفنجانين في صينية حملتها إلى حجرتي، ووضعتها على الأرض أمام الباب، ثم أدرت المفتاح. فتحته وتناولت الصينية ودخلت الحجرة فوضعتها بجوار الفراش على الأرض. عدت إلى الباب فأغلقته بالمفتاح، وكانت زوجة أخي ممددة فوق الفراش على ظهرها تتطلع إلى السقف وقد تغطت بملاءة بيضاء حتى ذقنها. قدمت إليها فنجانا فاعتدلت على جانبها واعتمدت على مرفقها وتناولته مني. جلست بجوارها فوق حافة الفراش محنيا أحتسي فنجاني. قالت إنها ضاقت بحياتها وتود لو تكف عن العمل، وسألتني إن كنت ما أزال أحبها. قلت: بالطبع. وأملت فنجاني أمام فمي وأفرغته حتى آخر نقطة ولم أترك به شيئا. مدت يدها وتناولت ساعتي من فوق المقعد. قالت إن أخي سيعود بعد قليل، وألقت الملاءة جانبا وقفزت من الفراش. وقفت عارية أمام المرآة دون أن تعبأ بتغطية جسمها كما تفعل عادة. قالت وهي تجذب ثنية لحم في وسطها: لم يكن لدي شيء من هذا منذ سنوات. مالت برأسها أمام المرآة وتتبعت بأصبعها بوادر تجاعيد خفيفة في جبهتها، ثم ساوت شعرها وجذبت مشد صدرها وثبتته. كان أسود اللون وقد أوشكت حوافه أن تبلى، وجذبت قميص النوم فوق رأسها، وكانت تساويه حول وسطها عندما نادت عليها
نهاد . أسرعت إلى الباب، ثم عادت وتناولت سروالها الأسود ودسته تحت مخدتي، وأشارت لي أن أخفي غطاء الجراب الجلدي الذهبي، وكنت قد ارتديت سترة البيجامة فقمت إلى الباب وفتحته. كانت
نهاد
تقف خلفه وأخذت تنقل بصرها بيننا. سألتها زوجة أخي وهي تحتضنها: ماذا حدث؟ قالت إنها تريد أن تشرب. انطلقت زوجة أخي إلى المطبخ. اقتربت من
نهاد
ومددت يدي أداعب خدها فنحته بعيدا. تركتها وذهبت إلى الحمام، وعندما عدت كانت قد ذهبت إلى حجرتها. خلعت بيجامتي وارتديت القميص والبنطلون وبلوفر بلا أكمام، ولمحت علبة سجائري ملقاة أسفل الدولاب وقد تمزقت بمحتوياتها إلى قطع صغيرة. تأملتها لحظة، ثم حملتها وذهبت إلى المطبخ فألقيتها في صندوق الفضلات، ثم غادرت المنزل واشتريت علبة جديدة. ركبت المترو وجلست حتى محطة
الإسعاف . نزلت وعبرت الشارع. سرت على الرصيف إلى مقهى
الأمريكين ، وكان الزحام شديدا. درت حول حائط الطوب المقام أمام باب
الأمريكين
ودخلته. ابتعت طبقا من الحلوى. وقفت بجواري سائحة أجنبية ترتدي قميصا وبنطلونا. كان وجهها هادئا جميلا، وقدماها متسختين في صندل. تابعتها ببصري عندما انصرفت. وغادرت المقهى وسرت قليلا في شارع
سليمان ، ثم عدت أدراجي إلى الجريدة. التقيت
سلوى
في الطريق. سألتني: أين اختفيت طوال الأيام الماضية؟ صعدنا سويا إلى مكتبها وكان خاليا. مددت يدي وأمسكت بيدها فسحبتها بسرعة وارتعشت فتحتا أنفها. بدت كأرنب مذعور. قلت إني سأنزل إلى مكتبي. قالت: ابق قليلا. قلت إنهم لا بد يبحثون عني الآن، وسأمر عليها فيما بعد. وقابلني
إسماعيل
على السلم وسألني إذا كنت أعرف أحدا في مجلة مصورة، وقال إنه يريد أن ينشر صورة ابنه الصغير بمناسبة نجاحه، وأعطاني الصورة. عبرت الصالة الطويلة إلى مكتبي فجلست أمامه ورتبت الأوراق المبعثرة فوقه، وبدأت أقرأ أخبار الصباح. وقام
زكي
من مكتبه واقترب مني وقال إنهم سيعطوننا مكافأة نصف شهر، وقال إنه ضج بحياة العزوبية ويريد أن يتزوج. سألني عن رأيي فقلت إني لا أعرف. قال: هل الزواج المبكر أفضل أم المتأخر؟ قلت: لا أعرف. وتظاهرت بأني أكتب. وجاء
علي
يبحث عن صحيفة، قلت إن صحف اليوم ليست لدي، قال إنه يريد أي صحيفة ليستخدمها في دورة المياه. أعطيته واحدة قديمة فمزقها إلى شرائح، وقال إنها أسرع مفعولا في التنظيف من ورق التواليت العادي. دق جرس التليفون وكانت زوجة أخي. قالت إنها كانت تنتظر أن أتصل بها عقب وصولي كما أفعل دائما، وقالت إنها مكتئبة وتريد أن تذهب إلى سينما، قلت إن أمامي عملا كثيرا وربما بقيت إلى آخر الليل، وسأتصل بها فيما بعد. وجاءت
مايسة
وجلست بجوار مكتبي. تأملت شفتيها الممتلئتين. وقالت إن واحدا عرض عليها الزواج أمس وإنها وافقت، وقالت إن الرجال يتصرفون بقذارة في سيارات الأوتوبيس، وإن واحدا أراد أن يلتصق بها اليوم فدفعته بمرفقها فلكزها بيده وطلب منها بصوت مرتفع أن تقف معتدلة، وعندما أرادت أن تجادل سخرت منها السيارة كلها. وتساءل أحد الجالسين عما يجبر البنات على الوقوف في الزحام، ولماذا لا يبقين في بيوتهن. وقال
مصطفى
إنه ذاهب، وعرض علي أن أذهب معه. قلت إني لا أستطيع قبل ساعتين. قال: إذن تعال امش قليلا. نزلت معه إلى الشارع وأمسك بذراعي. كنت قد طويت كمي قميصي فوق المرفقين. مد أصابعه وجعل يتحسس أعلى ذراعي. جذبت ذراعي وقلت إن الجو بدأ يميل إلى البرودة، وبسطت الكمين حتى معصمي. توقفنا أمام بقال يوناني، واشترى زجاجة نبيذ. عرض علي أن آتي عنده بعد أن أنتهي لنشربها سويا، قلت إني متعب وسأعود إلى منزل أخي.
الفصل العاشر
جذبت
حقيبتي من أسفل السرير وفتحتها. أخرجت محتوياتها وأعدت ترتيبها. فتحت الدولاب وأخرجت كل ما به من أشياء ووضعتها في الحقيبة حتى امتلأت. أغلقتها بصعوبة، وتبقت بعض الملابس والكتب بلا مكان لها. ذهبت إلى حجرة أخي وصعدت على مقعد وأنزلت حقيبة كبيرة من فوق الدولاب وحملتها إلى غرفتي وأزلت الغبار عنها. ملأتها بأشيائي وأغلقتها، وذهبت إلى الحمام فغسلت يدي وعدت فارتديت سترتي. فتحت النافذة وناديت على البواب وتركت النافذة مفتوحة لتدخل أشعة الشمس. تطلعت حولي ووجدت أني كدت أنسى كتابا عن حياة
جوجان
كان بجوار فراشي، فأخذته في يدي وذهبت أفتح للبواب. صحبته إلى حجرتي، فحمل إحدى الحقيبتين وأنزلها إلى الشارع، وعاد فحمل الحقيبة الثانية. تبعته بعد أن تركت ورقة على مكتب أخي قلت فيها إني اقترضت حقيبة مؤقتا وسأعيدها إليه بعد أن أشتري واحدة، وإني ذاهب لأقيم مع
رمزي . أحضر لي البواب سيارة تاكسي وانطلقت إلى منزل
رمزي . عاونني بوابه الوقور على حمل الحقيبتين، وكان المفتاح معي فدخلت وأشرت للبواب أن يضع الحقيبتين في الصالة. دخلت حجرة
رمزي
ففتحت النافذة وأشعلت سيجارة ووقفت أتأمل المنزل المقابل، وكان فيلا بيضاء صغيرة ، لها سقف مائل من الآجر الأحمر على الطراز الأوروبي، ونوافذ خضراء، وحولها حديقة صغيرة أنيقة تتصل بحديقة منزل آخر، مكونة مساحة خضراء واسعة من العشب المشذب بعناية. عطست فجأة وشعرت بالتهاب حلقي يزداد. أخرجت قرصين من الأسبرين من جيبي، وانطلقت إلى المطبخ فملأت كوبا من الماء وابتلعت القرصين، ثم عدت إلى الحجرة فأغلقت النافذة وأخذت وسادة وبطانية من فوق الفراش وخرجت إلى الصالة فوضعتهما على الأريكة، وتأملت التليفون الذي كان على المائدة المجاورة. أخرجت بيجامتي من الحقيبة فخلعت ملابسي ووضعتها في عناية على مقعد. ارتديت البيجامة، ثم تناولت البلوفر وارتديته فوقها، وعدت إلى الحقيبة فأخذت منها كراستي وحملتها مع كتاب
جوجان
إلى الأريكة، فرقدت فوقها وتغطيت بالبطانية ووضعت الكراسة بجواري وبدأت أقرأ. ازداد التهاب حلقي فقمت إلى المطبخ وأعددت كوبا من الشاي، وبحثت عن ليمون فلم أجد. شربت الشاي، ثم استأنفت القراءة. دق جرس التليفون فلم أرد، وظل يدق مدة طويلة، ثم توقف. مددت يدي فرفعت السماعة ووضعتها بجوار الجهاز، ثم وضعت الكتاب جانبا. تكومت على نفسي ورحت في النوم. استيقظت بعد قليل فوجدت أنفي مسدودا. تمخطت وأخذت قرصين جديدين من الأسبرين، ثم استأنفت النوم. وعندما استيقظت كان المساء قد حل، وقمت فغسلت وجهي وأسناني. أعددت كوبا من الشاي ولم أشعر برغبة في الأكل، وعثرت على قطعتين من البسكويت في المطبخ فغمستهما في الشاي. بحثت عن راديو فوجدته في غرفة النوم. حملته معي إلى الأريكة وأدرته على البرنامج الموسيقي، وأشعلت سيجارة أطفأتها بعد نفسين فلم يكن لها طعم. استأنفت القراءة في كتاب
جوجان . جاء
رمزي
بعد قليل وقال إنه مل الجري وراء النساء، وإنه يتمنى لو يستلقي على ظهره ولا يبذل أي مجهود ويأتين هن لعنده ويقمن بكل شيء. وقال إن أمه مريضة، وإنها أرسلت إليه خطابا من البلد ليذهب إليها، وقال إنه لا يريد الذهاب، وقال إنه ذهب اليوم إلى معرض
كامل
الجديد، وإنه كان في سيناء أيام العدوان وعاد من هناك إلى مستشفى للأمراض العصبية، وإن لوحاته الجديدة مختلفة تماما وكلها عبارة عن خطوط لأشباح عظمية تتلوى، وقال إنها من الناحية الفنية امتداد للخطوط التي ظهرت في بعض لوحاته عن السد العالي. وذهب
رمزي
لينام. أطفأت النور ونمت على الفور، وعندما استيقظت في الصباح وجدت أنفي ملتهبا. أعد لي
رمزي
كوبا من الشاي قبل أن يخرج، واغتسلت، ثم لجأت إلى الأريكة وأحكمت الغطاء حولي. بسطت أطرافي كلها وأقمت الوسادة خلفي وأسندت رأسي إليها. عدت إلى كتاب
جوجان ، ودق جرس التليفون عدة مرات فلم أرد. وعند المغرب قمت فأعددت حساء تناولته بعد أن عصرت فيه كمية كبيرة من الليمون الذي أحضره
رمزي
معه، وشعرت أن حدة الزكام قد خفت. عدت إلى الأريكة فاستغرقت في النوم واستيقظت على جرس التليفون. رفعت السماعة ووضعتها على أذني. تبينت صوت زوجة أخي فدعكت عيني، ومددت يدي أبحث عن علبة السجائر، وكانت تسألني عن معنى هذا، ولماذا لم أتصل بها، ولماذا ذهبت هكذا مرة واحدة دون أن أذكر لها شيئا، وأين كنت طوال اليوم والأمس. وقالت إنها ظلت تطلبني هنا وفي الجريدة دون جدوى، وقالت إن أخي مدهوش من تصرفي. سكتت لحظة، ثم قالت: لماذا لا ترد؟ ظللت صامتا، ثم قلت فجأة إني سئمت هذا كله وأريد أن أنهي كل شيء. قالت بعد قليل: ماذا حدث؟ قلت: لم يحدث شيء. قالت: هل تعني أنا وأنت؟ قلت: تماما. سكتت قليلا، ثم قالت: كما تريد. ووضعت السماعة، وضعت السماعة من ناحيتي وقمت إلى الحمام، ثم عدت واستلقيت على الأريكة. تناولت كتاب
جوجان
وقرأت فيه حتى أنهيته، فأطفأت النور ونمت. استيقظت في الصباح على جرس التليفون. رفعت السماعة فوجدت زوجة أخي. قالت إنها تريد أن تراني، قلت إني مريض وعندما أشفى سأزورهم بالطبع. قالت إنها تريد أن تراني الآن، وإنها تحترم رغبتي وتريد مني أن أساعدها على اتخاذ نفس الموقف، وقالت إنها لن تأخذ مني غير خمس دقائق. وافقت أخيرا فسألتني عن
رمزي ، قلت لها إني سأتفق معه، قالت إنها ستأتي بعد ساعة. أعدت السماعة إلى مكانها وظللت ممددا على الأريكة، ثم قمت إلى الحمام فاغتسلت وحلقت ذقني. أيقظت
رمزي
وأفطرنا سويا، وأخذت قرصين من الأسبرين. كان التهاب أنفي وحلقي قد زال. وخرج
رمزي
بعد أن اتفقنا على موعد عودته. خلعت بيجامتي وارتديت قميصا وبنطلونا، وشعرت بالبرد فلبست البلوفر الذي حاكته لي زوجة أخي، وفتحت النافذة وطويت البطانية وأزلت أعقاب السجائر ورمادها عن الأرض. تقدمت من النافذة فأغلقت المصراع الخشبي، ثم أغلقت المصراع الزجاجي. جلست على الأريكة، ثم قمت إلى النافذة وفتحت المصراعين وأغلقت المصراع الزجاجي فقط. جاءت زوجة أخي بعد قليل، وكانت ترتدي فستانا جديدا في لون التركواز، ونظرت إلى النافذة، ثم جلست على المقعد، وجلست أنا على الأريكة وكان وجهها شاحبا. قالت إنها لم تنم لحظة واحدة بالأمس، وقالت إن فتاة اسمها
سلوى
اتصلت بي عدة مرات، أمس وأول أمس. وسألتني: أهذه هي التي ستتزوجها؟ قلت: لا. قالت: إذن لماذا؟ قلت: لا أعرف. قامت وجلست بجواري ومالت علي وبكت، فوضعت يدي على كتفها. مدت يدها إلى ساقي ولمستني، وعندما وجدتني مشدودا احتضنتني وقبلتني وقبلتها بدوري. طلبت مني أن أغلق النافذة فقمت وفتحت المصراع الزجاجي، ثم أغلقت المصراعين. تحولت إليها وقامت واقفة وأخذت تخلع رداءها وهي تنظر إلى وجهي. خلعت ساعتي ووضعتها بجوار التليفون، ورقدنا فوق الأريكة. تحسست جسدها بوجهي وكان ناعما طازجا، وبكت وهي تتشبث بي في قوة. تشممتها وقلت إني أحب رائحتها، فابتسمت منتصرة. بعد قليل قامت وقالت إنها لا بد أن تذهب لأن أخي ينتظرها عند بعض أقاربنا. نظرت إلى حقيبتي وقالت: ستعود الليلة؟ قلت: كلا سأبقى هنا. قالت: إلى متى؟ قلت: لا أعرف. أوصلتها إلى الباب. قلت إني لن أستطيع النزول معها لأننا بالنهار. سألتني إذا كنت سأخرج فقلت إني لا أعرف. قالت: ستكلمني؟ قلت: أجل. قبلتها، ثم أغلقت الباب خلفها. عدت إلى الصالة. تقدمت من النافذة فدفعت مصراعها الخشبي حتى ارتطم بالجدار وتركتها مفتوحة وذهبت إلى المطبخ. أعددت طعاما، وجاء رمزي بعد ساعة فأكلنا، وقال إنه ذهب إلى الأهرام خلف سائحة هندية، وعندما عادا إلى البلد سويا ضاعت منه في الزحام قبل أن يتفقا على شيء، ودخل حجرته. تمددت على الأريكة ونمت ساعتين، ثم خرجت. ركبت المترو وغادرته في محطة
الإسعاف . اتجهت إلى شارع
سليمان . دخلت
الأمريكين
من باب شارع
26 يوليو
وخرجت من الباب الآخر. مشيت إلى البن البرازيلي. شربت قهوة ودهنت حذائي وأنا واقف، ثم أشعلت سيجارة وواصلت السير نحو الميدان. سمعت صوتا يناديني. التفت فرأيت
يحيى
يشير إلي أن أصعد إلى سيارته، وحاول أن يخرج بسيارته من طابور السيارات المندفعة ليقف بجواري، لكنه لم يتمكن من الوقوف بجوار الرصيف إلا بعد مسافة. أسرعت خطاي لألحق به، وركبت بجواره فانطلق نحو الميدان، ثم دار به وانحرف في شارع
قصر النيل . سألني ماذا أفعل الآن. قلت: لا شيء. قال إنه يشعر بالمرض، وإن الجميع ضده. ودار بالسيارة حول ميدان
التحرير ، ثم عاد إلى شارع
سليمان
مرة أخرى. توقفنا أمام مقهى ونزلنا فجلسنا إلى مائدة خارجه. قال إنه يريدني أن أذهب معه الآن وقمنا وغادرنا المقهى. عدنا إلى السيارة. اتجه إلى ميدان
سليمان
ودار حوله، ثم انحرف في شارع
قصر النيل
حتى ميدان
التحرير ، وفي هذه المرة اتجه إلى بيته وتركنا السيارة في الجراج وأخذنا المصعد إلى مسكنه. قادني إلى غرفة مكتبه. وجدته قد أقام جدارا وسطها زوده بباب سميك من الخشب، وقال إنه يريد أن يسمعني آخر ما كتبه. أحضر جهاز تسجيل صغير الحجم وأداره. جلست أسمع وأنا أتأمل وجهه الشاحب وشعره الذي امتلأ بالبياض. أتاني صوته مجهدا ينطلق بصعوبة ويتعثر مرات حتى يوشك أن يتوقف، ثم يشحن بالقوة بضع لحظات قبل أن يتعثر من جديد. أشعلت سيجارة عندما انتهى، وقال إنه يبلغ الأربعين في الشهر القادم، وقال إنه استطاع أن يفلت من أخطار السنوات الماضية وهذه هي النتيجة. قلت إني سأتركه الآن ليستريح فهو يبدو متعبا، وقبلته في جبهته ونزلت إلى الشارع، وأخذت التروللي باس إلى وسط البلد. ذهبت إلى مكتب
سالم ، ووجدته في طريقه للانصراف. قال إنه اكتشف أن أعز أصدقائه كان يسرقه طول الوقت. مشينا سويا إلى منزله ودعاني إلى الصعود معه. اشتريت حلوى لابنه وفتح لنا الصبي الباب. أعطيته الحلوى وأنا أتأمل تعبير الاضطراب الذي لا يغادر وجهه أبدا. جلسنا في الصالة، وكانت زوجة
سالم
منحنية أمام مجلة موضة على المائدة وأمامها مقص كبير وعدة أفرخ من الورق. قالت إنها تريد أن تصنع فساتينها بنفسها، وكانت ترتدي بيجامة مزركشة، وعندما اعتدلت واقفة بدا صدرها مترهلا، وقالت إنها تود أن تذهب إلى السينما. دخلت ترتدي ملابسها، وعاد صدرها يقف متحديا. ذهبنا إلى سينما
أوبرا
وكان بها فيلم اسمه «
بيلي الكاذب ». كان
بيلي
يريد أن يكتب سيناريو ويسافر إلى
لندن ، لكنه قفز من القطار في اللحظة الأخيرة ولم يقم برحلته. وعندما غادرنا السينما قالت إنها كانت تتمنى أن يقوم
بيلي
برحلته. مشيت معهما حتى منزلهما، ثم ودعتهما وانصرفت.
الفصل الحادي عشر
بقيت
أمام النافذة أتأمل الفيلا البيضاء تحت المطر، ثم فتحتها لأشم رائحته. مددت يدي ألتقط قطرات منه، ولم أرفع عيني عن الفيلا. كان سقفها الأحمر المائل يلتمع وقد غسلته المياه وتساقطت على الممر المرصوف بالبلاط الملون. وتبدت خضرة الحديقة طازجة لامعة. أشعلت سيجارة وامتصصت دخانها في الهواء البارد. ودق جرس التليفون. أطاح الهواء ببضع قطرات من الماء داخل الحجرة فوقعت على الأرض، ووصل بعضها إلى الفراش. أغلقت المصراع الزجاجي، وكان التليفون ما زال يدق. مضيت إلى الصالة ورفعت السماعة. كانت
إنصاف . قالت إنها عائدة لفورها من زيارة الطبيب، وإنها فقدت الأمل في أن ينقص وزنها على يديه، وقالت إنها ستجرب نوعا جديدا من الرجيم، وقالت إنها ستذهب إلى الأوبرا الليلة مع
حسنين . وسألتني إن كنت أحب أن أذهب معهما، قلت إني وعدت أخي بأن أتعشى معه. وضعت السماعة، ثم أخرجت كراستي من الحقيبة. ووضعتها على المائدة بجوار التليفون. جلست إليها وفتحت الكراسة. كتبت قليلا وشعرت بدفء جسمي، وفكرت في التلميذة التي التصقت بها ظهر أمس في الأوتوبيس، وتركتني مدة، وفجأة استدارت إلي متسائلة متى سأكف. بدأت أعبث بجسمي الساخن، ثم قمت إلى الحمام، وعدت فجلست أمام المائدة. دق جرس التليفون وقالت زوجة أخي إنها تدق لي منذ ساعتين، وقالت إنها تريد أن تزورني. قلت: الآن؟ قالت: أجل. قلت: ولكن كيف ستخرجين تحت المطر؟ قالت: حالما يتوقف. قلت: لا أعرف موعد عودة
رمزي
وسأبحث عنه وأتفق معه. اتصلت برمزي في مكتبه واتفقت معه، واتصلت
بسلوى
في منزلها وقلت لها إني لن أستطيع المرور عليها واتفقنا على اللقاء في الغد، وذهبت إلى المطبخ فوضعت كنكة القهوة على النار، وظللت أمامها حتى علت فورتها فصببتها في كوب حملته إلى الصالة ووضعته على المائدة. أغلقت الكراسة وأعدتها إلى الحقيبة الموضوعة بجوار الحائط، وأخذت الكوب وانطلقت إلى حجرة
رمزي ، وتقدمت من النافذة ووقفت أتأمل الفيلا البيضاء وأنا أرتشف قهوتي. كانت حدة المطر قد خفت. وضعت كوب القهوة على الأرض وأشعلت سيجارة، ثم تناولت الكوب من جديد وأفرغته حتى آخره، وابتلعت آخرته المرة في بطء، ثم أطفأت فيه السيجارة. لمحت سيارة تاكسي تتوقف أمام المنزل وتهبط منها زوجة أخي. مضيت إلى باب المسكن وفتحته لها. قالت وهي تدخل إن البواب لم يقف لها اليوم كعادته. قلت: ربما كان متعبا. ارتمت على الأريكة وجلست أنا على المقعد. قالت إنها أخذت إجازة اليوم لتذهب إلى مدرسة
نهاد
لكنها أجلت الزيارة لتراني، وقالت إن
نهاد
عادت من المدرسة أمس باكية لأن المدرس فضل عليها تلميذة أخرى؛ ولهذا قررت أن تذهب للقائه. سألتني إن كان بإمكاني أن أذهب معها في الغد. قلت: سنرى. قالت إن
نهاد
تحصل على درجات سيئة في معظم العلوم فيما عدا الألعاب الرياضية، وقالت إنها تعتقد أن
نهاد
تصلح لأن تكون راقصة باليه، وربما تلحقها بمعهد الباليه في العام القادم. وقالت إن لها أذنا موسيقية وتلتقط الأنغام بسهولة وستصبح فنانة. وسكتت، ثم قالت إني لا أبدو متحمسا لها اليوم. قلت: هذا غير صحيح. وقمت وجلست بجوارها وقبلتها في فمها، وبعد لحظة تمددنا بملابسنا الداخلية تحت البطانية. كان جسمها دافئا ، وألصقت خدي بخدها وفمي ناحية أذنها، ثم حركت خدي ببطء وأدرته بحيث أصبح فمي على فمها، وكررت ذلك عدة مرات، وكان خدها ناعما دافئا. مدت يدها فتخلصت من بقية ثيابها، وعرت صدري وحركت صدرها عليه. هبطت بوجهي على صدرها، وأخذت ثديها في فمي حتى صرخت. أزاحت وجهي ثم وضعته على الثدي الآخر. ارتفعت بوجهي حتى التقت شفتانا وأحطتها بذراعي في قوة. قالت إني قيدتها ولم تعد تستطع الحركة. ابتل فمها وتحركنا سويا حتى غطانا العرق، ثم بدأنا نرتعش وتشبثت أصابعي بكتفيها. هتفت باسمي وهي تردد: قبلني، قبلني. قبلتها إلى أن دبت البرودة إلى شفتيها، فاسترحت فوقها وأسندت خدي إلى ثديها وأغمضت عيني. دق جرس الباب فجأة دقة طويلة فدفعتني عنها وقفزت واقفة. قالت: هل هو
رمزي ؟ قلت وأنا أقف: لا أعرف. تكرر رنين الجرس. قالت إنه قد يكون أخي. جذبت ملابسها وأسرعت إلى الحمام، ثم عادت وأخذت حقيبتها وحذاءها. ارتديت بيجامتي ومضيت إلى الباب وفتحته. كان الطارق محصل النور فأخذت منه الإيصال وقلت له إننا سندفع في الهيئة. عدت إلى الداخل فوجدتها ترتدي ملابسها وهي ترتعش. قالت إنها لن تستطيع البقاء لحظة واحدة. أخذتها بين ذراعي وأخذت أربت عليها حتى هدأت واستكانت في حضني. قبلتها وقلت لها إني أحب رائحتها، ضحكت وقالت إنها رائحتي أنا التي تغطيها، وقالت: يجب أن أذهب. أكملت ارتداء ثيابها وارتدت المعطف. رافقتها حتى الباب، ثم عدت إلى الصالة. ساويت الأريكة وطويت البطانية ووضعتها فوق الوسادة. جمعت أعقاب السجائر ووضعتها في المنفضة، ثم ارتديت ملابسي وكانت الشمس قد عادت فلم آخذ المعطف. خرجت إلى الشارع وكان هادئا نظيفا. اتجهت إلى الشارع الجانبي ومشيت بجوار سور الحديقة المهجورة. لمحت بها عجوزا بيضاء الشعر تجر كلبا ضخما وتتفقد أرجاءها. بلغت الواجهة الزجاجية فوجدتها مكشوفة. وقفت أتأمل ما بداخلها، كانت تشبه حجرة مكتب؛ فبها مكتب ومقعد أمامه ودواليب كتب، وكانت هناك قطع مختلفة الأحجام من العاديات المصرية موزعة على أنحاء الغرفة بينها تلك التماثيل الفرعونية المألوفة وبعض الأواني ذات النقوش الإسلامية، بالإضافة إلى قطع من النسج القبطي. واصلت السير نحو الشارع الرئيسي، ولمحت عاملة الصندوق في الصيدلية مستندة بخدها إلى ساعدها وهي تتطلع إلى الطريق بنظرة شاردة، وكان
رمزي
يغازلها من مدة. ركبت المترو وبقيت فيه إلى آخر محطة، وعندما غادرت العربة التقيت
ماهر
وزوجته. كان معي في الجامعة. لمحت بوادر كرش كبيرة عند بطنه، وكانت زوجته تجر عربة بها طفل قبيح الوجه. مالت على الطفل تداعبه في حنان وزهو. وعبرنا شارع
الكورنيش
وسرنا بمحاذاة
النيل . سألني
ماهر
أين أعمل الآن، وقال إنه اتصل بي منذ شهر عند أخي ولم يجدني. قلت إني تركته. قال: إلى أين؟ قلت: مصر الجديدة أيضا ولكن في الناحية الأخرى منها. مشينا نحو كوبري
قصر النيل
وتأملت شابا وفتاة قادمين في الاتجاه المقابل. كانا يسيران في بطء وصمت وقد تشابكت يداهما، وكانا يتطلعان إلى
النيل
وعلى وجهيهما نظرة بلهاء غبية. عند الكوبري اتجه
ماهر
وزوجته وطفله إلى
الجزيرة ، ومشيت أنا إلى ميدان
التحرير . درت حوله، ومررت من أمام مقهى جلس به بعض معارفي يتناقشون في حماس. ناداني أحدهم لأنضم إليهم، فأشرت إليه من بعيد أن لدي موعدا. اتجهت إلى شارع
سليمان . مشيت وسط زحام المشترين والواقفين أمام واجهات الحوانيت، وكان هناك عجوز ضخم وقور بكرش بارزة ونظارة يتحدث مع امرأة في مثل سنه عن الملابس المعروضة في إحدى الواجهات وهو يشير بأصبعه. أشعلت سيجارة، وعند منحنى الميدان التقيت
بفكري
ولم أكن قد رأيته منذ سنوات. مشى معي وقال إنه يريد أن يضم السنوات التي ضاعت عليه في السجن إلى مدة خدمته ليحصل على الدرجة، وقال إنه خطب زميلة له في المؤسسة وسوف يتزوجان بعد سنة، وسألني عن درجتي فقلت إني لا أعرفها. سألته عن
لمعي
فقال إنه عاد من الخارج لكنه لم يجد مكانا، وإنه ترك منزله في
القاهرة
وأقام في حجرة بجوار مصنع في
الإسكندرية
ولا يغادرها أبدا. افترقنا أمام الجريدة وصعدت إلى مكتبي. التقيت
بلبيبة
على باب الصالة ووقفنا نتحدث وأنا أستعرض المكاتب المصفوفة على الجانبين من فوق كتفها. كان معظمها خاليا. لمحت
فايزة
معتمدة برأسها على ساعديها وقد استغرقت في النوم. قالت
لبيبة
بصوت منخفض إن
فايزة
أبلغت رئيس التحرير بأننا لا نأتي في مواعيدنا، وقالت إن
فايزة
عصبية هذه الأيام لأن شعرها بدأ يتساقط. مشيت بين المكاتب إلى مكتبي. رأيت
سامي
منحنيا على مكتبه يرسم خطوطه الطولية والعرضية المتقاطعة. وجلست إلى مكتبي، وتركت
فاطمة
مكتبها واقتربت مني. كانت ترتدي نظارة خضراء ضخمة عريضة الإطار. طلبت مني صحيفة اليوم. سألتها عما تنوي أن تفعل بها. قالت إنها تبحث عن نبأ، وكان
مصطفى
بجواري منهمكا في حل الكلمات المتقاطعة. قال إن هناك اجتماعا اليوم في الطابق الأعلى وسألني إذا كنت سأحضر. أجبت بالنفي. قال إن الاجتماع الماضي كان حافلا، وإنهم تبادلوا الاتهامات. أعادت
فاطمة
الصحيفة إلي وأرتني النبأ الذي قطعته منها. كان عن انتحار شاب من أعلى المجمع. وقالت إنها تقطع أمثال هذه الأخبار وتحتفظ بها. ابتعدت فقلت
لمصطفى
إنه كان هناك خبر بالأمس عن زوجها السابق. قال إنها تذهب إلى الكوافير كل يوم لأن شعرها فظيع. جذبت التليفون ناحيتي واتصلت بزوجة أخي. قلت لها إنه كان يوما رائعا، وأكدت لها أني قادم في المساء. جاء
زكي
وسألني عن نتائج العدوان الإسرائيلي الأخير. قلت: قتلى هنا وقتلى هناك. قال إنه يريد أن يعرف الأرقام بالضبط. قلت إني لم أهتم بملاحظة ذلك. سألني إذا كنت أعتقد أن
إسرائيل
ستنسحب. قلت: لا أعرف. قال إن جريدة فرنسية تؤكد أن
يارنج
فشل في مهمته. قلت: ربما. قال: هل تعتقد أن أمامه فرصة للنجاح؟ قلت: من يعرف؟ أشار إلى نبأ في صحيفة الصباح عن تطبيق الإعفاءات الجمركية على العاملين في القطاع العام. قال: هل معنى هذا أن الواحد منا عندما يسافر ويعود يمكنه أن يجلب معه شيئا؟ قلت: وإذا لم يعد؟ واتصل بي
فؤاد
وقال إنه انتهى من شريط جديد مدته ثلاث ساعات. اتفقنا على يوم أذهب لسماعه، وعاتبني
إسماعيل
على أن صورة ابنه لم تظهر في المجلة رغم أني أعده بذلك كل أسبوع. وقال: الأحد القادم إن شاء الله؟ قلت: إن شاء الله. وعادت
لبيبة
من الخارج تحمل بعض المشتريات، وتفرجت
فايزة
و
فاطمة
على الجوارب التي اشترتها، وقامت
فايزة
وغادرت الصالة. وقال
زكي
إن الناس بدأت تتكلم في السياسة ولم تعد تخاف، وقال إن فكرة الانتخابات ممتازة، وسألني عن رأيي. قلت: تماما. وقال إن هناك حديثا عن علاوات جديدة لنا، وسألني إذا كنت سأنضم للنقابة، وقال إن المطلوب هو 4 صور شمسية وصورة من شهادة الميلاد وصورة من شهادة أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها، وشهادة بأني أعمل في الجريدة، وشهادة بأني مصري يوقع عليها اثنان من الموظفين، وشهادة بحسن السير والسلوك وشهادة تخرج. قلت إن الحصول على كل هذه الأوراق عملية مجهدة وإني لن أنضم. وعادت
فايزة
من الخارج تحمل كيسا في يدها. اتجهت مباشرة إلى
لبيبة
وانضمت إليهما
فاطمة . نادتني
لبيبة
فذهبت إليهن. أرتني زوجا من الجوارب وقالت إن
فايزة
اشترته الآن وتزعم أنه من نفس النوع الذي أحضرته
لبيبة ، وقالت إنها تريد مني أن أحكم بينهن، وكان وجهي قد صار قريبا من وجوههن وقد انحنينا جميعا فوق الجورب نتأمله. شممت رائحة أفواههن وكانت متشابهة. قلت إني لا أفهم في الملابس، وتذكرت أن اليوم عيد ميلاد
يحيى
فطلبته في المنزل، قالت لي زوجته إنه دخل مصحة للأمراض العصبية. وأشار
مصطفى
إلى
عبد العليم
الذي انتحى مكتبا بعيدا وكان منهمكا في الكتابة. قال إنه يكسب ذهبا، وإنه يترجم ويؤلف طول الوقت ويتعامل مع كل دور النشر. اقترب مني
زكي
وكان يحمل خطابا في يده. قال إنه تلقاه الآن من قريبته وإنه سعيد. وسألني عما إذا كنت أحب أن أتلقى الخطابات أم أكتبها. قلت: لا بد أن أنصرف الآن. غادرت الجريدة ولمحت
صادق
يعبر الشارع وكان يرتدي قميصا ملونا أسفل معطفه وقد وضع قبعة على رأسه. أخذت المترو إلى منزل أخي. كانت هناك إحدى قريباتنا وزوجها وأولادها. تعشينا وجلسنا أمام التليفزيون، واستغرقت زوجة أخي في متابعة أحد المسلسلات. وقال أخي إن صديقا له أحضر من الخارج أسطوانة جديدة لموسيقى فيلم «الخروج» الذي منع عرضه في
مصر . وضعنا الأسطوانة فوق جهاز الأسطوانات وأدرناه، وعاد أخي إلى مجلسه أمام التليفزيون، وسمعته يضحك بصوت عال، وطلبت قريبتنا من زوجة أخي أن ترفع من صوت التليفزيون لأن سمعها ثقيل. أوقفت الأسطوانة وأغلقت الجهاز وجلست معهم بعض الوقت، ثم ودعتهم وخرجت. مشيت إلى منزل
رمزي ، وجدته يقرأ في حجرته وسألني عن الأخبار. قلت: لا جديد. مضيت إلى الصالة وخلعت ثيابي. أطفأت النور واستلقيت على الأريكة. تغطيت جيدا ونمت. حلمت أني في الشارع وأن امرأة شقراء بأصباغ كثيرة تتجه نحوي في تصميم وتمسك بذراعي، حاولت أن أعض يديها الرقيقتين الصغيرتين، وقالت لي إنهم سلخوا فخذيها، ثم وجدتني أمام دولاب صغير وفوقه عنكبوت أسود. حاولت أن أضربه بالشبشب ووجدت أني أصبت حذاء نسائيا أسود، ولمحت العنكبوت يقفز في الهواء وتحول إلى فرقع لوز، ثم ضربناه وسقط في ركن يتلوى، وأردت أن أرى وسطه وهل هو مستدير، وإذا به يقفز عدة مرات وهو يصرخ وبجواره جزء منفصل منه عبارة عن أفخاذ مسلوخة، وأدركت أن ما قالته السيدة حقيقي. ثم وجدتني في ممر وشعرت بشيء في ظهري، وفكرت أنه لا بد أن يكون عنكبوتا كبيرا وهو على وشك أن يلدغني. حاولت أن أتذكر أين يكمن خطره، وكنت عاجزا عن خلع سترتي، ودرت بها أمام الجالسين، وأنا أتمنى أن يساعدني أحد لكن أحدا لم يفعل.
الفصل الثاني عشر
قالت إنصاف : كلكم ذاهبون ولن يبقى أحد بجواري. وقالت إن هذه هي قصة حياتها فقد قضتها جالسة تشهد الآخرين وهم يذهبون إلى السجن أو الخارج أو الحياة الأخرى. كانت مستقرة في المقعد الفوتيل، وكانت ترتدي ثوبا من الصوف الأسود، وأختها ترتدي رداء مماثلا وقد لفت قدميها بقطع من الصوف الأسود، وانهمكت في الحياكة. وكانت عجوز الكرات الملونة موجودة ولم تكن تضع شيئا من الأصباغ التي غطت وجهها في أول العام، وترتدي معطفا أسود من طراز قديم. تطلعت إلى ساعتي وقلت إني لا بد أن أمضي، ونهضت واقفا. انحنيت فوق
إنصاف
وقبلت رأسها. صافحت السيدتين الأخريين ووضعت معطفي على كتفي. غادرت
إنصاف
مقعدها بصعوبة ورافقتني إلى الباب، وكان الجو باردا في الطريق فارتديت المعطف. تعثرت في الظلام فمشيت وسط الشارع وأخذت تاكسيا إلى منزل رمزي، وصعدت إلى المسكن الغارق في الظلام. فتحت الباب ودخلت وأضأت نور الصالة. خلعت معطفي وألقيت به فوق الأريكة، ثم رفعته عن الأريكة ووضعته على مقعد، وجلست على المقعد المواجه للأريكة وأشعلت سيجارة، وعندما انتهت أشعلت واحدة أخرى. بعد مدة دق جرس الباب وقمت أفتح لزوجة أخي وكانت مجهدة، وارتمت على المقعد تلهث، وقالت إنها تأخرت لأن أخي كان بالمنزل، وقالت إنها تشعر بالبرد. ذهبت إلى المطبخ وأعددت فنجانين من الشاي، وعندما عدت كانت تخلع حذاءها وشربنا الشاي. لمحت حقيبتي فسألتني إن كنت أعددت كل شيء. قلت: أجل. وخلعنا ملابسنا. طوت جوربها بعناية ووضعته على المائدة بعيدا عنا. رقدنا فوق الأريكة، وكانت هناك طبقة خفيفة من المساحيق على وجهها أحسست بها عندما قبلتها. قالت إنها لم تضع شيئا على وجهها. كان جسمها جافا وسألتني أن أترفق، وأغمضت عينيها وهي تركز تفكيرها، وبعد قليل أخذ جسمها يلين. وفكرت وأنا أتحرك فوقها في أن أنقل كراستي إلى الحقيبة الأصغر لأنها أحكم إغلاقا من الأخرى. بعد لحظة رقدت بجوارها أدخن. قالت إنها يجب أن تذهب الآن قبل أن يشك أخي في غيابها، ونهضت فارتدت ملابسها. جلست على المقعد أدخن، وقالت وهي ترتدي حذاءها إنها تشعر بأنها لن تراني مرة أخرى. بحثت عن المطفأة وأطفأت سيجارتي بها وقلت إنها مخطئة. قامت واقفة وقالت: ألن تنزل معي؟ قلت إنه يحسن أن تنزل بمفردها فربما رآنا أحد. أوصلتها إلى الباب وانتظرت حتى هبطت السلم، فأغلقت الباب وعدت إلى الداخل، وقفت وسط الصالة، ثم تقدمت من ملابسي وارتديتها، تناولت المعطف في يدي وأطفأت النور، توقفت أمام الباب فارتديت المعطف، ثم غادرت المنزل إلى الشارع. تطلعت في أنحائه فلم أجد لها أثرا . انحرفت في الشارع الجانبي ولمحتها تسير على مبعدة وسط الشارع محنية الرأس. تبعتها على مهل فوق الرصيف. تجاوزت الواجهة الزجاجية وكانت عارية، ويبدو أن صاحبة المنزل العجوز نسيت أن تسدل بابها المعدني، وكان مصباح الشارع يبدد ظلامها ويضيء بعض محتوياتها، كاشفا عن المقعد الخالي أمام المكتب وبعض التماثيل القديمة. تابعت السير إلى نهاية الشارع، وكانت زوجة أخي قد وقفت تنتظر تاكسيا دون أن تتطلع خلفها. اتجهت نحوها ووقفت بجوارها وأخذت يدها في يدي، وتوقفت أمامنا سيارة تاكسي فتركت يدها وفتحت لها الباب، ثم أغلقته خلفها، وانتظرت حتى اختفى التاكسي في نهاية الطريق فاستدرت، وعدت أدراجي إلى المنزل.
بيروت 19 أغسطس 1968م
نامعلوم صفحہ