ولصق سراي القربي يقوم بيت صغير لموظف في شركة المياه يدعى حسن قيسون. كان نساء الشارع يطلقن عليه - لرثاثة منظره - زبال أفندي. وسمعت مرة كريمة هانم - حرم جمال بك إسماعيل - تقول عنه ضاحكة إنه شحاذ إفرنجي. بدلة عتيقة مهلهلة، حذاء غليظ كأحذية الجنود، وطربوش متهدل حائل اللون، ونظرة ثقيلة زاهدة، وقسمات متنافرة. أرمل تخدمه قريبة طاعنة في السن، ولكنه أنجب ولدين عزت ورأفت يماثلاننا في السن ويكبراننا بالعقل. وليست رثاثته عن فقر ولكنها وليدة انضباط شديد وحرص أشد، غير أنه لم يضن على ابنيه بما يضفي عليهما المظهر اللائق. لا يزور ولا يزار ولا يرحب بتوثيق العلاقات الاجتماعية، ولكنه لا يتأخر عن أداء واجب، فيشيع الجنازة ويعود المريض ويترك بطاقته لدى التهنئة. عزت ورأفت كانا نجمين متألقين في شارعنا، في غاية من التفوق الدراسي، وقمة من البراعة الرياضية، ومكانة فريدة في الاطلاع والثقافة، وإلى ذلك كان عزت عازف ناي ممتازا. ومن عجب - ورغم تقارب السن - كانا يلعبان في حياتنا دور المرشد والمربي والحامي. وعزت بالذات مغرم بتقليد «شجيع» السينما في أفلام رعاة البقر في شجاعته وشهامته، فإذا تحرش بنا حرافيش الوايلي انبرى لهم وانهال عليهم باللكمات حتى يطلقوا سيقانهم للريح. وكانت طبقية حسين الجمحي تصطدم بآراء عزت ورأفت الديمقراطية، وكذلك تفاخر عبد الخالق بالأصول والأقارب. وكان عزت خاصة قوي الحجة آسر المنطق، وحتى من ناحية القوة فإن حسين نفسه على قوته تجنب الدخول معه في معركة مجهولة النتائج. وقال لنا عزت ذات يوم: لا يكفي التفوق في الدراسة، ولا الانتماء في الوطنية، وليست الوطنية هي يحيا سعد، ولكن يجب أن تكون أنت أيضا مثل سعد.
وحدقنا به في دهشة، فواصل: الرياضة .. الفن .. الثقافة .. العمل .. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقي.
لم أصادف في حياتي أحدا يقارب عزت ورأفت تفوقا وتطلعا للجديد مع الاستقامة وسمو الأخلاق. وكان لهما أثر وأي أثر في تعلقنا بالقراءة والرياضة والفن والتطلع للمثاليات في القيم. وكم قال لنا عزت: أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضا الجهل والخرافات.
ولا أشك اليوم في أن حسن أفندي قيسون انطوى على مرب فاضل وإنسان ممتاز رغم قذارة منظره، بل حذرتنا الأيام من التمادي برميه بالبخل والتقتير؛ فإنما كان يقتر على نفسه ليهيئ لابنيه ما يتطلعان إليه من اقتناء الكتب والمجلات والهوايات الأخر، بالإضافة إلى حسن المظهر، وهو ما مكنه أخيرا من إلحاقهما بالطب والهندسة رغم تعذر ذلك على أبناء غير القادرين من الشعب؛ ففي منتصف الثلاثينيات تخرج عزت طبيبا ورأفت مهندسا. وعقب ذلك بعام توفي حسن أفندي قيسون مع تحقيق رسالته وحلمه، وسافر عزت ورأفت في بعثة إلى إنجلترا فأغلق البيت الصغير أبوابه، وانقطعت الصلة بيننا وبينهما فلم نعد نلتقط من أخبارهما إلا ما يجود به الرأي العام. وعن ذلك السبيل سمعنا عن تقدم عزت في مجال الطب حتى صار من أساطين الطب الباطني، أما رأفت فقد تبوأ عمادة كلية الهندسة. وفي الستينيات اضطررت إلى استشارة طبية، فعقدت العزم على زيارة صديقي القديم عزت قيسون. وسرعان ما عرفني فاستقبلني بالأحضان، وخصني بعناية فائقة وغمرني بإحساس إنساني شامل، وتبسط معي في الحديث عن الماضي، عن شارع الرضوان وإخوان الزمان الأول، فتتابعت ذكريات الأحياء والأموات. ومما لاحظته أيضا أن وفديته العريقة حالت بينه وبين التفاهم الكامل مع ثورة يوليو، فاعترف بإيجابياتها ولمس بخفة السلبيات، ثم قال: ولكن أين الشعب؟ .. إنه يخسر كل يوم بعضا من إيجابياته.
فقلت ببراءة: كأنما أصبحنا دولة عظمى.
فقال باسما: دولة عظمى بلا شعب تساوي صغرى!
وقد رأيته مرة أخرى من بعيد في جنازة مصطفى النحاس، ثم قرأت نعيه المفاجئ في نهاية عام الهزيمة المشئومة، أما رأفت فلا أدري اليوم عنه شيئا.
آل حسب الله وفرج
البيت الصغير الثاني في الشارع يلاصق آل مكي، دوره الأرضي فرن بلدي، والثاني شقة صغيرة، والثالث نصف شقة تفتح على نصف سطح مظلل بتكعيبة لبلاب. أما صاحب المبنى كله فهو المعلم حسب الله، ولا أعرف له لقبا أو كنية - وهو صاحب الفرن ومديره - ومسكنه في الشقة الثانية هو وزوجته وبلا ذرية على الإطلاق. وليست صورته مما يعفي عليها الزمن، قصير، مفرط البدانة، ثقيل النظرة والصوت، يكحل عينيه دائما وأبدا، ولم ير أحد امرأته. يتعامل مع عماله بكفه القوية فالعمل يسير كالساعة. وعمله ينحصر في خبز عجين السكان من شارعنا والشوارع القريبة مثل بين الجناين وأبو خودة؛ استجابة لتقاليد ذلك الزمن التي قضت بأن تعجن الأسر في بيوتها ثم ترسل العجين إلى الفرن فيرجع إليها خبزا ساخنا مورد الخدين نافذ الرائحة، كما ترسل إليه في العيد الكعك والغريبة، وفي المواسم الفطير رحمة القرافة المعروفة. وعرف عن عم حسب الله أنه يتعاطى المخدرات، ولكنه كان فرانا ذا سمعة طيبة جدا. ومن عجب أنه لم ير أبدا خارج بيته. ومات في أوائل الحرب، فأغلقت الفرن وتغيرت التقاليد، فجعلنا نشتري الخبز من البقالين والكعك من محال الحلوى.
وأما نصف الشقة فوق السطح فكان يسكنه عم فرج بياع الحلوى والدندورمة وزوجته، وقد أنجب ذكورا وبنتا واحدة ولكن لم يبق له إلا البنت. وكان رجلا خفيف الروح يعلن عن سلعته بالأغاني كعادة كثيرين من باعة ذلك الزمان، ويدعي أنه يعرف تاريخ الشارع وأهله، ويروي الحكايات عن النساء والرجال. وقد زعم أن مبنى الفرن كان أول مبنى يشيد في الشارع عندما كان متر الأرض بمليم! وكان ضحوكا بشوشا ويتعامل مع كل أسرة كأنما هو من صميم أهلها. وقد مات عم فرج قبيل الحرب فحلت ابنته بسيمة محله في إدارة العربة. وكانت تجمع بين القوة وشيء من الأنوثة والحسن، فتزوجت من بياع فاكهة سريح. ولا أدري كيف امتد نشاطها إلى تجارة الخردة أيام الحرب. ولما راجت تجارتها هجرت عربة الحلوى والدندورمة واكترت جراجا صغيرا في الشارع جعلته مركزا لنشاطها وضمت زوجها لمعاونتها. وأقبلت الأيام عليها فاكترت مكانا جديدا في الأرض الفضاء التي حلت محل الحقول، وملأته بمخلفات الجيش البريطاني، وأصبحت معلمة بكل معنى الكلمة. ومضت تتوسع في الإثراء والتملك فاشترت مبنى الفرن وشيدت مكانه عمارة، وكررت ذلك مع بيت آل جمال إسماعيل وبيت الجمحي أخيرا، أما هي فأقامت في شقة حديثة في شارع العباسية نفسه. وعاصرت الثورة ثم الانفتاح الذي بلغ نشاطها فيه الغاية. وإنها اليوم عجوز ثرية، وأم لرجال ناجحين، وبالنظر إلى قوتها وحزمها ونجاحها فإن أصدقاءنا في العباسية يطلقون عليها «مسز تاتشر»!
نامعلوم صفحہ