إن المريض بالتطرف لا يعرف وهو بالتالي لا يعترف بأنه مريض، شأنه في ذلك شأن المرضى بسائر الأمراض النفسية، وإذا كاشفت المتطرف الديني مثلا بحقيقة حالته، أجابك بأنه إنما يسير على الخط الديني، فماذا يعني التطرف فيمن يتمسك بدينه ويلتزم أوامره ونواهيه؟ قال زائري: هذه إشارة إلى ما قلته لك عن نفسي في أول الحديث، نعم إنني ملتزم خط الدين، وفق ما تعلمت وما علمت بأنه الدين الصحيح، فقل لي ماذا تريد أن أفعل؟
قلت: لا أريد لك أن تغير من أمر نفسك شيئا، إلا أن تتذكر كلما رأيت أحدا يلتزم دينه مع اختلاف في تفصيلات الرؤية والفهم والتأويل، بأنه هو الآخر يمارس دينه كما تعلم وعلم بأنه الخط الصحيح، فإما تركته وشأنه وضميره، وإما دخلتما معا في حوار هادئ، منتج، أمين.
عصر الحنين
كانت رباعيات الخيام، في ترجمة السباعي لها عن الإنجليزية، مما قرأته في مرحلة الشباب، وكنت ألحظ أن لتلك الرباعيات عندي وعند من قرأها من جماعة الأصدقاء، وقعا جميلا وأثرا عميقا، حتى كأنها في نفوسنا مجموعة من قواعد السلوك الحكيم لمن أراد أن يحيا حياته سعيدا، ولقد علمت فيها بعد ذلك، أن المرحوم أحمد رامي ترجمها عن الفارسية، لكني لم أصادف تلك الترجمة، فلم أقرأ منها شيئا، وفي أول الخمسينيات، أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر، ترجمة للرباعيات عن الفارسية، للشاعر عبد الحق فاضل، الذي قدم لها بدراسة مستفيضة، عرفت منها لأول مرة أن رباعيات الخيام ليست مجموعة محددة معروفة ومحققة الانتساب إلى صاحبها، بل الذي حدث هو أن شعراء كثيرين بعد ذلك، أخذوا ينشئون رباعيات على غرار ما نظمه الخيام، فتضاف إليها وكأنها منها، ومع مر الزمن لم يعد أحد يعلم على التحقيق ما الذي قاله الخيام وما الذي لم يقله، وكانت ترجمة عبد الحق فاضل - عندي - أكثر جمالا من ترجمة السباعي، ففضلا عن أنها منقولة عن أصلها الفارسي مباشرة، فإن لغتها جاءت في انسياب سهل لا تكلف فيه، مع دقة في نسج خيوطه، بالقياس إلى التصنع عند السباعي في اختيار ألفاظه، فكان بين الترجمتين فارق يشبه الفارق الذي رآه شاعر بين حسناء المدينة وحسناء البدو، فبينما الأولى تجلب جمالها من وسائل التجميل، ترى جمال الثانية بسيطا ومن صنع الطبيعة البدوية.
ثم حدث لي بعد ذلك أن قرأت رباعيات الخيام مترجمة إلى الإنجليزية، وهي الترجمة المعروفة للشاعر فيتزجرولد، ومن تلك الترجمة تعلمت درسا في كيف ينبغي أن يترجم الشعر من لغة إلى شعر في لغة أخرى، وكانت المصادفة وحدها هي التي علمتني ذلك الدرس، وذلك أني صادفت الرباعيات في أكثر من ترجمة واحدة لفيتزجرولد نفسه، وبالمقارنة السريعة، وجدت أن الرباعية الواحدة قد تظهر في صورتين لا تشتركان في شيء، وكأن إحداهما ليست الأخرى، اللهم إلا مشاركة في الروح من بعيد، ومن ذلك عرفت أن الشاعر وهو يترجم شعرا من لغة أخرى إلى لغته، إنما ينقل الأثر المتروك في نفسه، بغض النظر عن النص المترجم في تفصيلاته، وعندئذ تذكرت شيئا كنت أعرفه لكنني لم أكن قد تنبهت إلى مغزاه، وهو ذلك الفرق البعيد بين إلياذة هومر في ترجمتها إلى الإنجليزية عند شاعرين: تشابمان، وبوب.
وأعود إلى قراءة الرباعيات أيام الشباب، فأذكر أن من بين أبياتها التي لصقت في أذهاننا - جماعة أصدقائي وأنا - هذا البيت الذي يقول: «ما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها.»
ولا أدري لماذا اجتذبنا هذا المعنى، مع أننا جميعا لم نكن ممن تلهيهم لذة الساعة التي نحن فيها، بل كنا ممن يجاوزون بأملهم العريض مرحلة الحياة القائمة، أملا في مرحلة قادمة تحقق لنا رجاءنا في أنفسنا، لكنها رباعيات الخيام وسحرها الذي يخيل لقارئها أنها إنما وقعت على ما يصح أن يتخذ قانونا للحياة عند من أراد أن يكون سعيدا، ومن ذا الذي لا يريد؟!
إن البيت المذكور للخيام، لا يصدق إلا في حالتين: إحداهما أن يكون حاضر الناس مزدهرا، مما يستحق أن ينعم به أصحابه، وأما الحالة الأخرى فهي أن تستبد بالناس حالة من الضيق واليأس، فيخرجون على قيود الأخلاق، ويستهترون، انغماسا في لذائذ الشهوات ما استطاعت لهم وسائلهم، وربما كانت هذه الحالة الثانية هي ما يعيشه اليوم سكان الأرض جميعا، ونحن في مصر جزء من هؤلاء، ولعل ضيق الناس بحاضرهم ويأسهم منه، ورغبتهم في تغييره، هو الباعث على العنف الذي يملأ أرجاء العالم، غربيها وشرقيها وشماليها وجنوبيها جميعا، فلم تعد لغة التفاوض والتفاهم لتغني عن البؤس واليأس شيئا، فاندفع الضحايا إلى لغة أخرى يصرخون بها، هي لغة القنابل تفتك بالأبرياء، وخطف الطائرات فيتعذب الأبرياء، وغير ذلك من أسباب الفزع التي يراد بها أن توقظ الغافلين عن حقوق الإنسان في كل ألوانه وعقائده وشعوبه.
لا ... إن قول الخيام: «ولك الساعة التي أنت فيها» لا يصلح أن يكون هو المبدأ، بالنسبة إلى الأكثرية العظمى من سكان الأرض، في هذه المرحلة الراهنة من هذا العصر؛ لأن كل هؤلاء يريدون أن يفروا من الساعة التي هم فيها، ولكن إلى أين يفرون؟ هنا تختلف الإجابات باختلاف «الحنين» ووجهته ... إنه حقا «عصر الحنين»، إلا أن بعضا يجد حنينه متجها إلى هدوء الماضي وبساطته ونظافته، فيما يصورونه لأنفسهم، وأما بعضهم الآخر فيريد أن يشق جدران هذا الحاضر الكريه، ليسرع الخطى إلى مستقبل رسمه لنفسه على هواه، وليكن لكل إنسان منا ما يرى، فمن حقك أن ترى رؤية القرون السابقة كلها، من أن الحياة الكاملة تحققت صورتها عند بداية الطريق، وكل ما جاء بعد ذلك تدهور وابتعاد عن ذلك الكمال الذي مضى، ولكن من حق غيرك كذلك أن يرى الرؤية التي لم تتبلور وتنضح أبعادها، إلا في القرن الماضي، وأعني بها أن العالم يتقدم مع مر الزمن، وأن سير تقدمه متجه إلى الكمال الذي لم يكن قط وإنما نحن في طريق تكوينه، أو إن شئت الدقة فقل إننا في طريق الاقتراب منه أبدا؛ لأنه كالأفق، تقترب منه فيبتعد عنك ليظل أمام عينيك أفقا تسعى إليه، لقد كان «ستيفن سبندر» - الأديب الإنجليزي المعاصر - قد طرح فكرة وأخذ يدافع عنها، وهي أنه لا يتصور الأديب - والشاعر بصفة خاصة - إلا وقد بحث له عن ركن من حياة القدماء في الماضي ليلوذ به في خياله؛ لأن انغماس الشاعر في الحاضر وتفصيلاته قد يصلح مادة للناثر، لكنه لا يلهب الخيال بشعلة الفن الرفيع، وكاتب هذه السطور يفهم «سبندر» في قوله هذا، على أن الشاعر إذ يختار من الماضي الذي يختاره ملاذا، فإنما هو يفعل ذلك ليتخذ من ملاذه ذاك «برجا للمراقبة» - بلغة المطارات - لتسهل عليه رؤية الحاضر في قبحه ومواضع نقصه، فيستلهم ذلك الماضي وهو يستبق بخياله مستقبلا جديدا.
وليكن الأمر في ذلك ما يكون، ولنعد بأنظارنا إلى حاضرنا - وسوف أحصر حديثي الآن في مصرنا الحبيبة - وكيف أن حاضرنا، كما هي الحال مع الكثرة الغالبة من أهل الأرض جميعا، إنما هو بمثابة عصر للحنين، مع اختلافنا بعد ذلك فيما نحن إليه ، أهو ماض نعود إليه لنسكن ونستقر، أم هو مستقبل جديد نبدعه من قلوبنا وعقولنا إبداعا؟
نامعلوم صفحہ