يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ؟ معناها أن حيا يخرج من حي مصيره الموت، كما خرج هذا الحي الذي هو صائر إلى الموت من حي قبله؛ أي أن الله - سبحانه وتعالى - يخرج حيا من حي - من حي - من حي - في تسلسل يمتد إلى ما شاء سبحانه وتعالى، فالحي الفرد يموت، وكان قد خرج منه حي آخر قبل أن يجيئه الأجل، فهو يموت ولكن تظل الحياة في نسله ما شاء لها الله أن تبقى، وإني لأستغفر الله إذا كنت قد أخطأت الفهم، أما إذا لم أكن، إذن لقد كان حديث الأستاذ مقاما على خطأ، فلو فرضنا أن ما قاله عن مطابقة العلم الجديد في آخر صيحة له لما ورد في القرآن الكريم، كما دلت عليه الآية الكريمة
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، أقول: إننا لو فرضنا أنه كان على صواب فيما قاله فلقد كان ذلك الصواب متعلقا بموضوع غير الموضوع الذي طرحه ليتحدث فيه، إذ إن حديثه كان حول خروج حياة من موات.
وتسلسل الأحياء من حي، مع الإيمان بحكمة الخالق جلت قدرته، يرجح ألا يخفى علينا رؤية الحكمة في تسلسل أشباه تتساوى في كل دقائق التكوين، ويكفي أن نذكر أن الأحياء المتلاحقة - في النوع البشري - كان منها ما جاءته رسالة السماء فاهتدى، ومنها ما لم تبلغه أو بلغته ولم يهتد، والقرآن الكريم مليء بالقصص التي تبين «كيف تطورت» أقوام في مجرى التاريخ، وكيف جمدت أقوام أخرى أو انهار بنيانها لعلة خلقية أصابت أصحاب ذلك البنيان، ولست أظن أن أحدا في وسعه أن يفهم التاريخ حق فهمه، إذا هو افترض منذ البداية أن حلقات التسلسل جاءت متشابها بعضها ببعض كأنه نسخات مطبوعة من كتاب واحد.
فالأرجح عند العقل أن يكون تسلسل الأحياء - حيا من حي - في تيار متصل متضمنا فكرتين: فكرة التطور، وفكرة التقدم، والفكرتان ليستا بمعنى واحد، وإن تشابهتا، إذ إن التطور هو انتقال الكائن من طور إلى طور في تاريخه، لكن ليس حتما أن يجيء ذلك الانتقال مما هو أدنى مرتبة إلى ما هو أعلى، بل قد يكون الانتقال بين حالتين متساويتين، وقد يكون مما هو أعلى إلى ما هو أدنى، كما حدث بالفعل ويحدث بالنسبة إلى أفراد الناس وإلى مجتمعاتهم على حد سواء، إذن ففكرة التطور أن تجيء حركته الانتقالية إلى أعلى، وهذه هي فكرة، التقدم والفكرتان معا متضمنتان في خروج حي جديد من حي صائر إلى موت ، نعم، إن كل حي مخلوق صائر إلى موت، لا فرق في ذلك بين ما سبق وما تلاه، لكن المقابلة بين حي وميت «بتشديد الياء» فيها إشارة بليغة إلى حياة جديدة ولدت من حياة في طريقها الذي ينحدر بها إلى موت، فهي حركة ثم هي حركة صاعدة كما وكيفا في آن واحد، فالأحياء تتكاثر عددا، ثم هي بالنسبة إلى الإنسان على الأقل تتسامى ارتقاء من جهالة وضلال إلى معرفة وهدى.
حياة الإنسان «صائرة» دائما؛ أي إنها في «صيرورة» لا تنقطع عنها لحظة واحدة، فما هو قائم في الفرد الواحد وفي مجموعة الأفراد على السواء - ما هو قائم الآن لن يكون هو هو بعينه غدا، وبعد غد، ومن الوجهة النظرية الصرف قد يجيء الغد أو الذي بعد الغد أسوأ حالا مما هو اليوم، لكن المسيرة البشرية مأخوذة في مجموعها، إنما هي صيرورة دائمة إلى ما هو أعلى وأكمل، وانشر لخيالك جناحيه ليعود بك إلى ما نشط به الإنسان على اختلاف شعوبه ومكانه وزمانه، وانظر إلى الزارع يفلح الأرض الجدباء فيخصبها، وإلى الصانع يشكل المعدن ويشكل الحجر، فإذا هو يقيم العمارة أشكالا وألوانا ويشكل الآنية وينسج الثياب ويرصف الطرق ويقيم الجسور ... ثم انظر إلى الإنسان على مر العصور عالما، وانظر إليه فنانا، تجد عجبا، فهو لم ينفك يوما دائب الجهد ليفض الأختام عن أسرار الوجود، فإذا هو يشعل النار بعد أن لم تكن، فاستضاء في ظلمة الليل وطها الطعام ارتفاعا بغذائه عن مستوى الحيوان وصنع العجلة التي تدور، وما أدراك ما العجلة في تطويرها لحياة الإنسان من شيء يشبه الجمود إلى حركة خفيفة سريعة، النبات يتحرك إلى أعلى لكنه لا يتحرك يمنة ويسرة وأماما ووراء، والحيوان يتحرك في هذه الأبعاد لكن إلى الحدود التي تستطيعها أرجله، وأما الإنسان فلم يكفه هذا التحرك البطيء، وهم أن يطير فطار بخياله أول ما طار، ثم بدأت محاولاته أن يطير جسده وإن لم يكن ذا جناح، وهي محاولة صورتها الأسطورة اليونانية في «إيكاروس» وجاهد في سبيل تحقيقها ابن فرناس، وإنه لطريق طويل باعث على الأمل حتى عند أشد الناس تشاؤما، وأعني طريق العلم الذي سار عليه الإنسان منذ سواه الله إنسانا، ثم انظر إلى ذلك الإنسان فنانا ينطق بإزميله الحجر والنحاس ويرسم بريشته وألوانه ما يجعل دنيانا مزدانة بجمالها طبعا وفنا ... وبعد ذلك كله، وفوق ذلك كله، انظر إلى الإنسان مؤمنا عابدا، لتعلم أنه ما سار بحياته الدنيا كما سار زراعة وصناعة وعلما وفنا ليقنع بدنياه؛ لأنها مهما يكن أمرها فهي إلى موت وهو يستهدف حياة الخلد بعد أن عبر الزوال؛ ليظل مسلسل الحياة قائما ومتساميا من نقص إلى كمال حياة من حياة من حياة ... «حياة مقبلة تخرج من حياة مدبرة»، وهذه الحياة المقبلة بدورها ستخرج منها حياة وهي مدبرة وهكذا دواليك إلى أن يشاء الله أمره، وليست هذه الاستمرارية في تيار الحياة خلفا بعد سلف بمقصورة على الإنسان، بل هي تشمل كل الكائنات الحية جميعها، مضافا إليها التكوينات الاجتماعية التي تشبه في مراحلها مراحل الحياة كالحضارات وكثير مما يدخل فيها من نظم، فشجرة القمح تترك وراءها سنابلها محملة بحبات القمح لتنبت من بعد زوالها شجرات، والحيوان ينسل ما يكفل سير الحياة في نوعه، وقل هذا عن الحضارات، فالحضارة المعينة - كما قال ابن خلدون - تنمو ويقوى عودها وتسود ثم ينحني بها الطريق نحو الهبوط، ولكنها قبل أن تصل إلى مرحلة ضعفها تكون قد بذرت بذورا لتنبت حضارات أخرى تستأنف السير، وانظر نظرة شاملة إلى الطريق الحضاري كيف اتجه، تجده قد بدأ هنا في أرضنا وما يشبه أرضنا من وديان يسودها المناخ نفسه الذي يتميز بأنه لا هو من النوع القاتل بحرارته ولا هو من النوع القاتل ببرودته؛ وذلك لئلا يتعذر على الإنسان الأول سهولة العيش مع فرصة الإبداع الحضاري، فلما أكملت مصر «بصفة خاصة» دورها وكانت قد بذرت بذورها الحضارية عبر البحر الأبيض المتوسط قامت حضارة اليونان فحضارة الرومان، وعلى أسس من هاتين انتقلت إلى فرنسا وإنجلترا، لكنها ما بين مرحلة اليونان والرومان من ناحية ومرحلة الشمال الغربي لأوروبا من ناحية أخرى ظهرت الحضارة الإسلامية العربية، وبعد أن رسخت جذورها في الأرض اغتذت مما سبقها، ثم نقلت من لبابها إلى أوروبا ما نقلته فكان من أقوى العوامل التي أعانت حضارة الشمال الغربي الأوروبي على الظهور والازدهار، حتى إذا ما اكتملت نشأة المجتمع الجديد في القارة التي كشفها كولمبس بذرت بذور حضارة جديدة أخرى، وإنما جاءتها بذورها من المحصلة الحضارية الأوروبية، وأقول محصلة لأنها - كما رأينا - مصطفاة من اليونان والرومان والعرب وما سبقها، وتلك هي - في الأساس - حضارة عصرنا متميزة بما يغلب عليها من روح العلم بالمعنى الجديد لكلمة «علم»، ولم تلبث حضارة العصر طويلا حتى استقرت مبادئها وأسسها، وأخذ كل بلد بعد ذلك يشارك فيها بنصيب
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي
حياة من حياة، من حياة ومن هذه الزاوية للنظر نستطيع أن نرى في الآية الكريمة ما يبلغ أن يكون قانونا عاما وشاملا لسير الحياة في عالم الأحياء جميعا، ومضمونه هو - في جوهره - أن يجيء السير «متطورا» و«متقدما»، ولقد أسلفت الإشارة بأن التطور وحده لا يكفي؛ لأن التطور انتقال مظاهر الحياة، من طور إلى طور، لكن ذلك لا يضمن لنا أن يكون الانتقال إلى أمام وإلى أعلى، في وقت واحد، وذلك هو «التقدم»، وإني لأعلم وأعجب أن هنالك من تزعجهم فكرة «التطور» وكأن التطور لا يجيء إلا على الصورة التي افترضها «داروين»، نعم، إن هذا العالم ذو فضل لا ينكر، في لفت عقولنا نحو أن ننظر إلى الحياة في كائناتها من منظور التطور، إلا أنه جعل ذلك التطور مرهونا، بعوامل البيئة الخارجية وما تستلزمه من تشكيل الحياة، وقد تغير المنظور كله خلال هذا القرن وأصبحت الفكرة هي أن الكائن الحي يعتمل من داخله لإحداث التغير الذي يلائم حياته، لكن النقلة من خارج إلى داخل في محور التغيير لا تلغي فكرة التطور من أساسها بل تضعها في منظور جديد.
وكذلك الحال في فكرة «التقدم»، فهي فكرة لم تظهر للناس في وضوح إلا في هذا العصر وما قبله بقليل، ولست أعني أن التقدم ذاته هو الذي لم يظهر إلا حديثا، ولكن قراءة الإنسان لحقائق الدنيا من حوله هي التي جاءته قراءة مغلوطة، ولم يصحبها في العصر الأخير، إذ كان الناظرون قبل ذلك ينظرون إلى وقائع التاريخ؛ فيظنون أن الإنسان في سيره التاريخي يبعد عن الأكمل والأفضل منحدرا نحو ما هو أقل كمالا وأقل فضلا، وتتبدى حقيقة الأمر بتحليل التاريخ تحليلا علميا أكثر دقة، وعندئذ نرى لم أخطأ القائلون بغير «التقدم».
والسؤال هنا يطرح نفسه وهو: بأي معيار ننظر إلى حركة التاريخ؟ فنقول إنها نحو الأمام ونحو الأعلى، وهو سؤال وارد بالطبع وله ما يبرره؛ لأنك إذا رأيت شخصا سائرا في الطريق فلن تستطيع الحكم على سيره أهو سير إلى الأمام أم هو سير إلى الخلف، إلا إذا عرفت هدفه الذي يقصد بلوغه، فإذا كان سيره نحو ذلك الهدف كان يتقدم وإلا فهو يبعد عن هدفه بالسير في اتجاه مضاد، وكذلك لا يحكم على سيره أهو نحو الأعلى أم هو نحو الأسفل إلا إذا عرفت ماذا يريد أن يحققه من بلوغه ذلك الهدف، والآن نعيد سؤالنا: بأي معيار نقيس حركة التاريخ؟ فنقول إنها حركة إلى أمام وإلى أعلى، وعند الإجابة تتزاحم أمامنا المعايير، ولكنني أكتفي منها بما أرى أنه أهمها جميعا، وهو معيار «الحرية»، فالإنسان في سيره الحضاري يزداد حرية وبذلك يتقدم ويعلو في آن واحد، والحرية قد تكون في مجال السياسة وهذه أمرها معروف، لكن الحرية البالغة من الأهمية أقصى حدودها والتي لا أظنها سريعة الورود إلى أذهان الكثيرين هي الحرية التي يحققها العلم بالنسبة للقيود التي تقيد بها طبيعة الأشياء حرية الإنسان.
لو ترك الإنسان للأشياء وطبائعها لكانت له في السير سرعة معلومة ومحددة، فجاء العلم بقطاراته وسياراته وطياراته، فضرب تلك السرعة الطبيعية في ملايين، ولو ترك الإنسان ليرى بعينيه مجردتين لامتد بصره إلى مدى معلوم الحدود، فجاءت العدسات المقربة والمكبرة فضربت ذلك المدى المحدود في ملايين، وهكذا جاء الرادار بالنسبة إلى سمع الإنسان الطبيعي، فأسمعه ما هو أوهى من دبيب النمل على أبعاد تقاس بمئات الكيلومترات، وبهذا تحطمت قيود المكان التي كانت تغل الإنسان بأغلال أصلب من الحديد، كان على الإنسان أن يحمل أثقاله على جسده، فعرف منذ قديم كيف يستغل بعض الحيوان في التحرر من ذلك الشقاء، وأخيرا جاءنا العلم الحديث بروافعه التي تحمل أطنان الأثقال وكأنها تحمل قبضة من النمل أو من حبات الرمل، ولقد قرأت يوما في إحدى الصحف لأجنبي رأى عمال البناء ما زالوا ينقلون على أكتافهم وظهورهم أكياس الحجر والرمل وما إليها من مواد البناء، فأشفق على ضرب من العبودية لا يزال قائما بعد أن أنتج علم العصر ما يحرر الإنسان منه ... الحرية بكل أبعادها هي المعيار، أو قل إنها من أهم المعايير التي يقاس بها تقدم الإنسان وسموه ...
نامعلوم صفحہ