وفرح هو الذي عرفنا ب «رينان» وإذا كان عرفه جدي شخصيا حين وقف على أطلال الهيكل الروماني القائمة كنيسة عين كفاع على أسسه الضخمة الحجارة، أجل عرفه ولكنه ما عرف منه إلا رجلا فرنجيا حل عمشيت وغزير، وكان يعرف السريانية، ويأخذ بعض الحجارة الأثرية من الكنائس العتيقة.
قام فرح بكل هذا يوم لم يكن يحلم الشرق إلا بقديمه، ويرى كل الخير فيه. فهو القصصي الاجتماعى الأول في قصصه: الدين، والعلم، والمال، والوحش الوحش الوحش، وأورشليم الجديدة، ومريم قبل التوبة وغيرها. وصاحب المسرحيات كابن الشعب، وصلاح الدين وغيرهما، كتبها للمعاش فعاش بها المسرح العربي حينا، وتركت في وفتها دويا اجتماعيا.
عشقت نفس فرح الحرية في كل ميدان، ونظر إلى أهمية التربية، فترجم آراء جول سيمون، وظاهر قاسم بك أمين في معركة «تحرير المرأة»، وهو لم ينس أعاظم رجال الغرب العصاميين، فترجم لهم؛ ليحث الشرق على النهوض، وما أحلى ما ابتدأ به كلامه متحدثا عن باكون وشكسبير: مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد إلا بعد الممات. وقد ابتدأ حين تكلم عن هيغو، وذكرى ميلاده المئوية بكلمة لكاتب دنمركي شهير: إن ظهور أعاظم الرجال منحة من السماء.
ولا يهمل فرح الفلاسفة؛ فيعرفنا بأوغست كونت وفلسفته الحسية، كما أذاع سيرة فيليكس فور تحت هذا العنوان: «من معمل الدباغة إلى رئاسة الجمهورية»، ثم لم ينس العلم؛ فترجم لبرتلو هاتفا: «المجد للعلماء.»
وعلى قلة بضاعته من الشعر نراه يحدد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي تحديد بصير، ويدل على مقامهما العتيد في صرح نهضتنا الحديثة.
هذا هو تلميذ الصف الثالث. ما كان ثانويا ولا جامعيا، فليتعلم شبابنا ليعرفوا لا ليحوزوا مجموعة شهادات كأنها من طوابع البريد ... فالشهادات لا تشرف إلا من يشرفها بعلم واسع عميق.
شخصيته:
أتخيل فرح أنطون كالموسوسين، وكأني أراه حائرا، هادئا، يفكر أبدا، ويحلل القضايا التي تثقل ظهر أمته، لا يدري بما ينفس عنها، ولا كيف يعالج أدواءها، فلجأ إلى كهوف الدهور ينشر على قومه تعاليم أهلها، فترك لنا هذا الميراث الخالد. لم يكن فرح أنطون من أصحاب العبارات الملساء الجوفاء، ولا الكلمات التي تملأ الماضغين. لم يكن يعنيه من الفصاحة إلا الإبانة والظهور. أسلوبه ساذج، يهمه أن يؤدي ما يعتلج في خاطره؛ ولهذا فاض أسلوبه رقة وحنانا، وعبر عن نفسه التي تجرحها النظرة الثابتة. ومن نظر إلى الأزاهر التي قبلتها هذه النحلة الدائبة يدرك ما في جرتها من عسل.
لم تهمه البلاغة كما أهمت أديب إسحاق، ولا القوالب كما نجدها عند نجيب الحداد. كان للرجل هدف يرمي إليه، فهو كاتب أدبي عملي لم يبرز إلى السياسة كالشدياق وإسحاق. كان فرح يحرث كرم الفكر، وينقيه عن العليق والقندول؛ لينمو ويثمر. وما أرى الثائرين والمتمردين بعده إلا تلاميذ له، فهو الذي شق لهم الطريق، وأضرم في النفوس نار الثورة الوجدانية.
في فرح أنطون شخصيتان: المؤلف والمترجم، ولكن الاثنتين واحدة؛ يترجم رواية الثورة الإفرنسية لديماس، كما يؤلف ثورة العرب في «أورشليم الجديدة» روايته الخالدة. لم يكتب الرواية إلا لغرض، ولم يخط كلمة إلا دفاعا عن مبدأ سام، أو سعيا وراء مثل أعلى. ومن يقرأ تحيته لتمثال الحرية يعلم كيف مزج صوفية الشرق بعملية الغرب، حتى إذا آب بالفشل، ودع العالم الجديد بخطبته الخالدة أمام شلال نياغرا. ففرح هو الفكر المحرر حديثا من عبوديته، فلا يكاد يرى أخا معتوقا مثله حتى يصافحه مهنئا، ويتمنى الفرج للمسجونين الآخرين.
نامعلوم صفحہ