رواد النهضة الحديثة

مارون عبود d. 1381 AH
139

رواد النهضة الحديثة

رواد النهضة الحديثة

اصناف

المراش ابن بيت علم، وللبيت أثره في الأولاد عندنا، فبيت العلم يخرج العلماء، وبيت الصناع يخرج صناعا حاذقين، ففرنسيس هذا من أسرة مثقفة، أبوه تاجر له من العلم نصيب، وأخوه عبد الله عرف بالفضل والأدب، وقد زار مكاتب أوروبا فلندن وباريس ونسخ منها آثارا عربية أعجبته، ورأى فيها فائدة لأبناء جنسه الناطقين بالضاد. وأخته مريانا شاعرة كاتبة. ففرنسيس إذن ابن بيت يذكرنا ببيت زهير وجرير مثلا.

ولد بمدينة حلب، واعتل بصره في الرابعة من عمره، قال الشعر وهو ابن تسع كما رووا عنه وعن أديب إسحاق وغيرهما، ولما حذق العربية شاء أن يكون طبيبا؛ فتلمذ لطبيب إنكليزي بحلب، ثم طمح في أن يكون طبيبا قانونيا؛ فرحل إلى فرنسا طالبا هذا العلم، وقد حدثنا عن سفرته في رسالة عنوانها «رحلة باريس». وصف في هذا الكتاب الطريق التي قطعها بين حلب والإسكندرونة وصفا دقيقا رائعا؛ أقول هذا لأني قطعتها بعده، في السيارة طبعا، وهاك بعض ما قال لنستدل به على قوة مخيلته وتصوره:

أوعار ملقاة في وسط الطريق كأنها أمواج البحر الجامد معدة لتمزيق سفن البر. صخور منفردة في العراص الخالية كأن الأيام نخرتها والرياح صقلتها لتكون أوتادا لمضارب الخراب والكآبة. جبال صلعاء القمم، معممة بسحب القتام، ولا مزية لها سوى الشمخ إلى السماء، فهي كالجاهل المتكبر أو الأحمق المدعي ... أوهاد فاغرة الأفواه لابتلاع السالكين على شفاهها، وهضمهم في ظلمة وظلال الموت ... قناطر مقطعة الأوصال هابطة تحت ثقل الشيخوخة، ودوس أقدام الزمان.

ثم يقول:

وفي إحدى مراحل هذه الطريق انفردت مساء إلى جهة من تلك البرية الساكنة وجلست على صخرة مضطجعة في حضن الوحدة، وأخذت أتأمل هذه الفلاة الحزينة بينما كانت شمس الغروب تصبغ وجه الطبيعة بصفرة المنون، والأفق يحوك علي سراج الشفق ثوب الظلام.

ثم عاد الرائد من باريس مكفوفا، ولم يستفد منها طبا. أراد هو الطب وأراد القضاء الأدب، فكتب «مشهد الأحوال» و«غابة الحق»، وكلاهما مستوحيان من باريس. وظل فرنسيس يكتب ويؤلف، ولما أصبح غير مستطيع استعان بأصحابه الذين يكتبون ما يملي، وظل على ذلك حتى مات عام 1874 تاركا كتبا عديدة.

شخصيته:

كان الشدياق في ذلك الزمان يملي من وراء بحرنا فرائد يجلوها خرائد، وكان اليازجي والبستاني والأسير والأحدب يؤلفون ويصنفون، أما هذا الشاب فكان يتطاول إلى إنعاش الأدب، ويحاول بث دم جديد في الجسم المترهل. كان هو بلبل الشمال الصداح. أدركته حرفة الأدب فازور لتجارة أبيه وأخيه الواسعة، ووقف فكره وقلبه على النظم والنثر وقفا خالصا لوجه الأدب والفكر، فكان كاهن الحرية الأعظم في هيكلها الذي بناه لها رفيع العماد في برية الشهباء كما سترى في «غابة الحق».

نظم الجديد من الشعر متعمدا، وكتب الطريف من النثر قاصدا، وقد قال عن نفسه في معرض الرد على أحدهم:

وشيخ مذ رأى نظمي ونثري

نامعلوم صفحہ