رؤوس المسائل
«المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية»
تأليف
العلامة جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري
(٤٦٧ هـ - ٥٣٨ هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الله نذير أحمد
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
رُؤوس المَسَائِل
1 / 3
حُقوُق الطبع محَفُوظة
الطّبعَة الأولى
١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م
دار البشائر الإسلامية
للطبَاعَة وَالنشرَ والتوَزيع
بَيروت - لبنان - ص. ب: ٥٩٥٥ - ١٤
1 / 4
الإهْداء
أهدي رسالتي هذه إلى مَن أرضعاني بحبّ الشرع
وغرسا فيَّ محبّة العلم والمعرفة:
* والدي العزيز، تغمده الله برحمته، وأنزل عليه
سحائب الرضوان، وأسكنه في فسيح جناته.
* والوالدة الحنونة، التي ما فَتِئَتْ تدعو لي بالتوفيق
والسّداد، أَمدَّها الله بالعمر المديد.
ابنكم عبد الله
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمدًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فلما كان علم الفقه من أجلّ العلوم حث الله ﷿ عليه في قوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (١)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: "من يُرد الله به خيرا يفقهه في الدين" (٢). وكان من عظيم امتنان الله ﷾ عليّ أن وفّقني لمواصلة دراستي الشرعية عامة والفقهية بخاصة.
ولما عزمت العمل في هذا الفن بدأت البحث عن كتاب في الفقه بعامة، وفي علم الخلاف بخاصة، جدير بأن يجد طريقه إلى أيدي الدارسين وينفض عنه غبار السنين، فساقتني عناية المولى ﷿ إلى العثور على كتب عديدة في تراثنا الفقهي، كلها جديرة بأن تكون موضع اهتمام الباحثين.
ووقع اختياري من بينها على كتاب "رءوس المسائل" للإمام جار الله محمود بن عمر الزمخشري (٤٦٧ - ٥٣٨ هـ).
_________
(١) سورة التوبة: آية ١٢٢.
(٢) أخرجه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵄: البخاري، في فرض الخمس، باب قوله تعالى: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾، (٣١١٦)، ٦/ ٢١٧؛ مسلم، في الإمارة، باب قوله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "، (١٠٣٧)، ٣/ ١٥٢٤.
1 / 7
وكان مما زاد تعلقي بهذا الكتاب: اهتمام الدارسين والباحثين في الوقت الحاضر بفقه الخلاف، حيث الاتجاه العام إلى التجديد الفقهي، والخروج بآراء تتناسب والعصر الحديث.
ومن ثم وجدت في هذا الكتاب ضالتي التي أنشدها، فهو يشتمل على أهم مسائل الخلاف بين المذهبين: الحنفي والشافعي، ويعرض المسائل الفقهية عرضًا واضحًا مبسّطًا، وفي أسلوب علمي مستقيم، يميزه عن كثير من الكتب في هذا المجال العلمي، كما لا يفوته في منهج العرض إيراد الأدلة بإيجاز لكلا المذهبين، في أمانة وإنصاف.
وضاعف من هذه الرغبة لديّ المكانة العلمية التي يحتلها مؤلفه في تراثنا اللغوي، حيث شهرته وتميزه، غير أنه لم يعرف عنه في الأوساط العلمية الآن شيئًا عن نفقهه أو إفراده لهذا العلم بمصنفات.
بدأت العمل وسرت في طريق لم تخل من العقبات والصعوبات، كان من أهمها: عدم عثوري على نسخة أخرى للكتاب، في فهارس المكتبات العالمية، العربية منها والأجنبية، الموجودة في المكتبة المركزية بجامعة أم القرى وغيرها.
والمشتغلون بالتحقيق يدركون مدى صعوبة العمل على نسخة واحدة، وبخاصة إذا لم تخل في بعض الأحيان من السقطات في الجمل، بالإضافة إلى الأخطاء الإملائية والنحوية الكثيرة، التي كثيرًا ما تخلّ بالمعنى. كما أن المؤلف لم ينوّه بذكر مصادر كتابه كلية، ولم يذكر أيضًا أسماء رواة الحديث، مما جعلني أعاني مشقة عظيمة في الوقوف على مصادره، وأخيرًا تغلبت على هذه العقبة باعتماد الكتب الفقهية المعتمدة المؤلفة قبل عصر الزمخشري، وكتب المعاصرين له، التي كانت متداولة بين أيدي الدارسين للفقه الحنفي والشافعي حينذاك، وجعلها مصادر لكتابه؛ لأن غالب الظن أن المؤلف استمد مادة كتابه من هذه المصادر.
ورغم كل ما لاقيته من صعوبات، وطنت العزم على المضيّ في العمل مستعينًا بالله ﷿، ثم مسترشدًا بآراء وتوجيهات أستاذي الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، التي كان لها الأثر الكبير في إنجاز هذا العمل على هذه الصورة.
1 / 8
وقد قسمت العمل في هذه الرسالة إلى قسمين رئيسيين:
قسم الدراسة، وقسم التحقيق.
أما قسم الدراسة فقد جعلته على ثلاثة فصول:
* الفصل الأول: تحدثت فيه عن عصر المؤلف فتضمن العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية بعامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* الفصل الثاني: تحدثت فيه عن حياة المؤلف، فتضمن العناصر التالية:
- نسبه ومولده.
- عقيدته.
- أسرته.
- مذهبه الفقهي.
- نشأته ومراحل حياته.
- الزمخشري فقيهًا.
- شيوخه.
- أخلاقه.
- تلامذته.
- وفاته.
- مؤلفاته.
- ثناء العلماء عليه.
* الفصل الثالث: تحدثت فيه عن كتاب "رءوس المسائل" موضوع الرسالة، وقد تضمن العناصر التالية:
- عنوان الكتاب.
- منهج المؤلف في الكتاب.
- نسبة الكتاب لمؤلفه.
- مصادر الكتاب.
- أهمية الكتاب.
- نقد الكتاب.
- موضوعات الكتاب ونظام ترتيبها.
- الكتب المؤلفة في علم الخلاف.
وأما قسم التحقيق فقد جعلت له مقدمة، تحدثت فيها عن النسخة المخطوطة الوحيدة، شارحا منهجي في تحقيق الكتاب.
يتلخص هذا المنهج في النقاط التالية:
- كتابة النص حسب قواعد الإملاء المتعارف عليها في الوقت الحاضر.
- تخريج الآيات القرآنية، بتعيين السورة التي ذكرت فيها، ورقمها بين آياتها.
1 / 9
- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة، والآثار المروية عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
- عزو آراء المذاهب إلى أصحابها، وتوثيقها من مصادر المذهب المعتمدة.
- بيان معاني الألفاظ الغريبة، والمصطلحات الفقهية والأصولية.
- وضع عناوين جانبية لكل مسألة من مسائل الكتاب، وترقيمها، وتسجيل أرقام أوراق النسخة المخطوطة على الهامش، لسهولة العودة إلى الأصل.
- وضع فهارس فنية مفصلة للمسائل الفقهية، والآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة.
ولما كانت نصوص الكتاب خالية من أسماء الأعلام في أكثر الأحيان، لم أجد موجبًا لوضع فهرسة خاصة بها.
وبعد، فهذا واحد من كتب التراث الفقهي المغمورة، يجد طريقه إلى النور، وقد بذلت غاية الجهد في إخراجه بصورة علمية تتناسب ومكانته. فإن أصبت فمن الله ﷿ وتوفيقه، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم، وأبرأ إلى الله تعالى من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته، ورحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي، وبصّرني بأخطائي، وأسال الله ﷾ أن يتقبله مني، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، وينفعني به في الدارين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
* * *
1 / 10
قسم الدراسة
ويشتمل على:
• الفصل الأول: عصر الزمخشري.
• الفصل الثاني: حياة المؤلف.
• الفصل الثالث: كتاب رءوس المسائل.
1 / 11
الفصل الأول:
عصر الزمخشري
ويشتمل على العناصر التالية:
- الحالة السياسية.
- الحالة العلمية العامة.
- الحالة الاجتماعية.
- الحالة الفقهية بخاصة.
* * *
الحالة السياسية في عصر الزمخشري
(٤٦٧ - ٥٣٨ هـ)
عاش الزمخشري في فترة أفول شمس الخلافة العباسية وضعفها، حتى إنه لم يبق من الخلافة إلا اسمها.
عاصر الزمخشري من الخلفاء العباسيين:
١ - عبد الله المقتدي بالله بن محمد بن القائم (٤٦٧ - ٤٨٧ هـ).
٢ - أحمد المستظهر بالله بن المقتدي (٤٨٧ - ٥١٢ هـ).
٣ - الفضل المسترشد بالله بن المستظهر (٥١٢ - ٥٢٩ هـ).
٤ - المنصور الراشد بالله بن المسترشد (٥٢٩ - ٥٢٩ هـ).
٥ - محمد المقتفي بالله بن المستظهر (٥٢٩ - ٥٥٥ هـ) (١).
_________
(١) انظر بالتفصيل: خلفاء الدولة العباسية، من السابع والعشرين إلى الحادي والثلاثين. خضري بك، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، الدولة العباسية، ص ٤٢٧ - ٤٥٠؛ حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ٤/ ٣٥.
1 / 13
وكانت نتيجة هذا الضعف والتفكك ظهور دويلات إسلامية متعددة، ففي بغداد عاصمة الخلافة العباسية، تعاقب في الاستيلاء على النفوذ والسلطات في الخلافة بعد آل بويه: الأتراك السلاجقة، وكانوا يلقبون: بالسلاجقة العظماء.
وقد أسس دولتهم ركن الدين أبو طالب طغرل (٤٢٩ - ٥٢٢ هـ) (١)، وعاصر الزمخشري من سلاطين هذه الدولة:
١ - جلال الدين أبو الفتح ملكشاه (٤٦٥ - ٤٨٥ هـ).
فقد ولد الزمخشري في عصره، ويعد عصره من أزهى عصور الدولة السلجوقية (٢).
٢ - ناصر الدين محمود (٤٨٥ - ٤٧٠ هـ).
٣ - ركن الدولة أبو المظفر بركيا رق (٤٧٨ - ٤٩٨ هـ).
٤ - ركن الدين ملكشاه الثاني (٤٩٨ - ٤٩٨ هـ).
٥ - غياث الدين أبو شجاع محمد بن أبي الفتح ملكشاه (٤٩٨ - ٥١١ هـ).
وقد اتصل به الزمخشري، ومدحه منوهًا بأفعاله وسجاياه التي خدم بها الِإسلام (٣).
٦ - معز الدين أبو الحارث سنجر (٥١١ - ٥٥٢ هـ) (٤).
وفي إطار التفكك والضعف للخلافة العباسية ظهرت دولة عرفت: (بالخوارزمية)، حيث مسقط رأس الزمخشري، ومكان إقامته. وامتد حكمها من خراسان إلى ما وراء النهر وتنسب هذه الدولة إلى مدينة خوارزم، وتطلق على منطقة شاسعة تقع في الجنوب من نهر جيحون وشمالي شرق خراسان، وهي منطقة معروفة
_________
(١) انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ٥/ ١٧١؛ الدولة العباسية، ص ٤١٢؛ تاريخ الإسلام، ٤/ ٣٤.
(٢) انظر: الأصفهاني، تاريخ دولة آل سلجوق، ص ٥٢ وما بعدها.
(٣) الزمخشري، ديوان الأدب، مخطوط؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص ٦٤.
(٤) انظر: تاريخ دولة آل سلجوق، ص ٦٤ وما بعدها.
1 / 14
بخصوبة أراضيها، وقامت بدور كبير في تطور الحضارة في أواسط آسيا منذ أقدم العصور (١). ودخلها الإسلام في عام (٩٣ هـ)، بعد أن فتحها القائد العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي (م ٩٦ هـ) (٢).
عمرت هذه الدولة في هذه المنطقة من سنة (٤٧٠ هـ) حتى سنة (٦٢٨ هـ) (٣).
ومن الأسر التي حكمت خوارزم، وعاصرها الزمخشري، أسرة: أنوشتكين، وقد عاصر من ملوكها وأمراءها:
١ - أنوشتكين (٤٧٠ - ٤٩٠ هـ).
٢ - قطب الدين محمد بن أنوشتكين (٤٩٠ - ٥٢١ هـ).
٣ - أتسز بن محمد (٥٢١ - ٥٥١ هـ) (٤).
وكان للزمخشري صلة وثيقة بالأمير الخورازمشاة: محمد بن أنوشتكين، حيث مدحه بقصيدة مطلعها:
أي الملوك تلاقت في مجالسه ... غرائب العلم والأداب والحكم (٥)
وكانت له مكانة مرموقة عند هذا الأمير، وكذلك مع ابنه أتسز الذي حرر له الزمخشري كتابه "مقدمة الأدب" وأثنى عليه في مقدمته (٦).
_________
(١) انظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، مادة (خوارزم)، جاء في الموسوعة: خوارزم: امبراطورية في العصور الوسطى بوسط آسيا، عاصمتها: أورجنش ... غزاها جنكيز خان (١٢١٨ م). انظر: الموسوعة العربية الميسرة، معهد الدراسات العربية، مادة: (خوارزم)، تاريخ الإِسلام، ٤/ ٩٥.
(٢) انظر: الكامل في التاريخ، ٤/ ١٢٥، ١٣٨؛ الزركلي، الأعلام، ٥/ ١٨٩.
(٣) انظر: تاريخ الإِسلام، ٤/ ٩٤.
(٤) انظر الدولة العباسية، ص ٣٩٩ - ٤١٠.
(٥) نقله الشيرازي في كتاب "الزمخشري لغويًا ومفسرًا"، ص ٢٤، ٢٥، عن ديوان الزمخشري.
(٦) المصدر نفسه عن "مقدمة الأدب".
1 / 15
ومن أشهر الدول التي حكمت البلدان الإسلامية في تلك الحقبة من الزمن:
١ - الدولة الفاطمية في مصر والشام (٢٩٧ - ٥٦٧ هـ) (١).
٢ - دولة المرابطين في المغرب والأندلس (٤٤٨ - ٥٤١ هـ) (٢).
وفي هذه الظروف القاسية من الضعف والانقسام التي كان يعاني منها العالم الإِسلامي، وجدت أوروبا الصليبية الفرصة مواتية لغزو الشرق الإسلامي، وإقامة كيان صليبي فيه، وقد رصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشام عام (٤٩١ هـ). وسقطت مدينة القدس عام (٤٩٢ هـ) (٣) في أيديهم.
الحالة الاجتماعية في عصر الزمخشري
كان المجتمع الإسلامي في عصر الزمخشري مكونًا من أجناس مختلفة أهمها: الجنس العربي والفارسي والتركي، وأجناس أخرى، ممن يسكنون المدن والقرى والخيام، من مختلف القوميات والشعوب.
وكان المجتمع على فئات متفاوتة، باعدت بينها موازين الحياة (٤)، يسودها الدين الإِسلامي، ولم يخل من أقليات من اليهود والنصارى، الذين كانت لهم الحرية والأمن والأمان ولهم كافة الصلاحيات في ممارسة شعائرهم، وتقلد مناصب كبيرة في الدولة، وعمل التجارة وغيرها. وكانت اللغة العربية، هي اللغة السائدة، غير أنه تسبب اندماج هذه الأمم المتفرقة ذات النوازع المختلفة في مجتمع واحد، إلى ظهور عادات وأخلاق غير إسلامية، مثل أعياد جاهلية: كالنيروز والمهرجان، وظهور نحل ومذاهب هدامة مختلفة. ومن ثم كثر الخلاف بين أصحاب النحل والأهواء، حول الأديان، وحول الاعتزال والمسائل الكلامية، مما أدى إلى فتن ومحن، من أهمها ما حدث من
_________
(١) تاريخ الإسلام السياسي، ٤/ ١٧٨.
(٢) المصدر نفسه، ٤/ ١١٦.
(٣) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ١٢/ ١٥٥، ١٥٦.
(٤) انظر: أحمد أمين، ظهر الإِسلام، ١/ ٣ وما بعدها.
1 / 16
الفتن الطائفية بين الشيعة والسُّنة سنة (٤٨٢ هـ)، مما أدّى إلى إزهاق الكثير من الأرواح. وتتكرر أمثال هذه الحوادث بعد كل فترة دون انقطاع (١).
ومن أغرب تلك الفتن ما كان يستعر بين أهل السنة أنفسهم، وبالأخص بين الحنابلة والأشاعرة كما حدث سنة (٤٤٧ هـ) حيث "وقعت بينهما فتنة عظيمة، حتى تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفًا من الحنابلة" (٢). كما ظهرت جماعة الباطنية، وهي جماعة إرهابية واسعة النشاط، فأخافوا البلاد والعباد، وقتلوا ونهبوا وعاثوا في الأرض فسادًا (٣).
وبلغ بهم التمرد إلى قتل الخلفاء والوزراء، إلى أن كفى الله تعالى الناس شرهم على يد السلطان محمد بن ملكشاه (م ٥١١ هـ) فقضى عليهم (٤).
وكذلك سرى الفساد في النظام المالي والقضائي، وانقسم ولاء الجيش لجهات متعددة، وفسدت أخلاق سكان المدن، خاصة مع ظهور كثرة العبيد والجواري.
وأمام هذه الحياة المضطربة لم يقف المصلحون مكتوفي الأيدي، بل بذلوا جهودهم في سبيل دعوة الناس، وإرشادهم ونصحهم إلى التمسك بدينهم، ومكافحة الشكوك التي يثيرها أصحاب الملل والنحل، ونظرة عابرة إلى كتب التراجم، والحالة العلمية، لهذا العصر تبيّن عظم جهودهم.
وأما التجارة فكانت لها أطوار مختلفة، حسب الوضع الاجتماعي، وحسب الأمن والاستقرار، واختلف نشاطها وركودها من جهة إلى أخرى. ولكنها كانت متدهورة بصورة عامة في منطقة العراق وما حولها، بسبب الفتن الداخلية، وظهور قطّاع الطرق.
_________
(١) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ٩/ ٤٧، ٤٩، ١٠/ ١٩٨، ٢٨٥.
(٢) المصدر نفسه، ٨/ ١٦٣، ١٠/ ٢٨٦.
(٣) المصدر نفسه، ٩/ ١٥٠، ١٠/ ٩٥.
(٤) المنتظم، ٩/ ١٥٠، ١٠/ ٩٥.
1 / 17
كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى انتشار الفوضى والاضطراب الاجتماعي (١).
هذا ولا تختلف الحالة الاجتماعية في خوارزم عن جاراتها، من المناطق الإِسلامية، بيد أن أهلها كانوا شديدي التمسك بأمور الدين.
وينوّه ياقوت بهذا قائلًا: "وما أظن كان في الدنيا لمدينة خوارزم نظير في ... ملازمة أسباب الشرائع والدين" (٢).
وكانوا أهل جهاد دائم، وعلى ثغر من ثغور الإِسلام، "وقد اكتنفها أهل الشرك، وأطافت بها قبائل الترك، فغزو أهلها معهم دائم، والقتال فيما بينهم قائم، وقد أخلصوا في ذلك نياتهم، وأمحصوا عن طوياتهم، وقد تكفل الله بنصرهم في عامة الأوقات، ومنحهم الغلبة في كافة الوقعات ... " (٣).
وقد كان لهذه البيئة الدينية أثر عظيم في الحماس الديني الذي نشأ عليه أبناؤها.
كان أهل خوارزم يمتازون باهتمامهم باللغة العربية والعلوم الإِسلامية، فتخرج فيها جماعة من الأدباء والشعراء والعلماء (٤). وتحدث الرحالون عن مظاهر ازدهارها بعمائرها الكثيرة، وشوارعها الفسيحة، وأسواقها المليحة، وسكانها الكثيرين ووفرة أسباب المعيشة والترف فيها (٥).
ومع هذه الوفرة المعيشية، فإن عامة الشعب لا يختلف وضعهم المعيشي في الفقر والبؤس عن بقية الأقطار الإِسلامية.
_________
(١) انظر: المنتظم، ٩/ ١٩٣، ١٠/ ١٤، ١٧٦، ١٨٩، ٢١٢. وانظر: الحياة الاجتماعية بالتفصيل: ظهر الإِسلام، ١/ ٣ - ١٣٠؛ التاريخ الإِسلامي، ٤/ ٦٢٥ - ٦٣٢.
(٢) معجم البلدان، ٢/ ٤٨٦.
(٣) ما نقله الصاوي عن ربيع الأبرار، ص ١٨.
(٤) كما يأتي تفصيل ذلك في الحياة العلمية.
(٥) رحلة ابن بطوطة، ص ٣٥٩.
1 / 18
يصور لنا الزمخشري هذه الحالة في كثير من قصائده التي يشكو فيها الزمان (١) ومنها:
ومما شجاني أن غر مناقبي ... يغنى بها الركبان بين القوافل
وطارت إلى أقصى البلاد قصائدي ... وسارت مسير النيران رسائلي
وكم من آمال لي وكم من مصنف ... أصاب بها ذهني محز المفاصل
غني من الآداب لكنني إذا ... نظرت فما في الكف غير الأنامل
فيا ليتني أصبحت مستغنيًا ولم ... أكن في خوارزم رئيس الأفاضل
ويا ليتني مرض صديقي ومسخط ... عدوي وأني في فهاهة باقل
وما حق مثلي أن يكون مضيقا ... وقد عظمت عند الوزير وسائلي (٢)
الحالة العلمية في عصر الزمخشري
رغم ما كان في هذا العصر من حروب وأحداث داخلية وخارجية، وجدت هناك حركات علمية ونهضات أدبية، ازدهرت فيها الحضارة والعلوم والآداب، خلد التاريخ مآثرها ومفاخرها. أهمها: بناء المدارس في أنحاء أقطار العالم الإِسلامي وحظيت هذه الصروح العلمية باهتمام الملوك والأمراء والوزراء وتنافسهم في تشييدها، وإحضار أفاضل العلماء لها، وتشجيع الطلاب على التحصيل فيها. فمن ذلك ما أسسه الوزير السلجوقي: نظام الملك الحسن بن عاب بن إسحاق الطوسي (م ٤٨٥ هـ) من مدارس نظامية في المدن الإِسلامية الكبرى (٣).
ولم يقتصر هذا الاهتمام على الأمراء والوزراء فقط، بل كان العلماء وعامة الناس يسهمون في هذا العمل الجليل (٤).
_________
(١) يأتي تفصيل ذلك في مراحل حياته.
(٢) نقله صاحب كتاب: "الزمخشري لغويًا ومفسرًا"، ص ٣٧، ص ديوان الزمخشري (مخطوط).
(٣) انظر: الكامل لابن الأثير، ٨/ ١٦٢، ١٦٣؛ تاريخ دولة آل سلجوق، ص ٣٢، ٥٤، الأعلام، ٢/ ٢٠٢.
(٤) انظر: السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ٤/ ٢٥٦، ٢٩٢.
1 / 19
وكان إلى جانب هذه المدارس حلقات التدريس في المساجد، ومجالس الجدل والمناظرات في النوادي ويؤمها عدد كبير من طلاب العلم وعشاق المعرفة، حتى رجالات الدولة.
كما كان لهم الاهتمام الكبير، بالكتب والمكتبات التي تضم شتى العلوم والفنون (١).
وكان للخوارزميين الحظ الأوفر في هذا النشاط العلمي الجليل، إذ كانت البيئة الخوارزمية تتسم بنشاط كبير في مختلف ميادين العلم والمعرفة.
يصور هذا المقدسي (م ٥٩٧ هـ) في وصف أهل خوارزم حيث يقول: "أهل فهم وفقه وقرائح وأدب، وقل إمام في الفقه والأدب والقرآن لقيته إلا وله تلميذ خوارزمي" (٢).
وهكذا كانت جميع المدن الإِسلامية حافلة بمدارس ومكتبات علمية عظيمة (٣). ومن ثم كان عصر الزمخشري عصرًا ذهبيًا في النتاج الفكري، وعصر خير وبركة في العطاء العلمي.
أنجب هذا العمى علماء وأدباء أفذاذًا، كانوا أئمة في العلوم النقلية والعقلية، وظهرت فيه المعاجم التاريخية والموسوعات الأدبية، ونمت فيه الحركة العقلية، يظهر هذا جليًا بنظرة عابرة إلى بعض أعلام هذا العصر وأثرهم الفكري.
فمن الأعلام النابغين في العلوم الدينية:
في القراءات:
- أحمد بن محمد (ابن العريف) (م ٥٣٦ هـ).
- عبد الله بن أحمد (الخشاب) (م ٥٦٧ هـ).
- القاسم بن فيرا (الشاطبي) (م ٥٩٠ هـ).
_________
(١) انظر: التاريخ الإِسلامي، ٤/ ٤٣٠ - ٤٣٣.
(٢) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص ٢٨٤، ٢٨٥.
(٣) انظر: التاريخ الإِسلامي؛ ٤/ ٤٣٠ وما بعدها.
1 / 20
وفي التفسير:
- عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن (ابن عطية الأندلسي) (م ٥٤٢ هـ).
وفي الحديث:
- يحيى بن عبد الوهاب (ابن منده) (م ٥١١ هـ).
- الحسين بن مسعود الفراء (البغوي) (م ٥١٠ هـ)، وقيل (م ٥١٦ هـ).
- أبو الطاهر أحمد بن محمد (السِلَفي) (م ٥٧٦ هـ).
وفي الأديان:
- محمد بن عبد الكريم (الشهرستاني) (م ٥٤٨ هـ).
وفي علوم التاريخ:
- عبد الكريم بن محمد (السمعاني) (م ٥٦٢ هـ).
- علي بن الحسن (ابن عساكر) (م ٥٧١ هـ).
بعض أعلام اللغة:
- عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد (الجرجاني) (م ٤٧١ هـ).
- يحيى بن علي (أبو زكريا التبريزي) (م ٥٠٢ هـ).
- حسين بن محمد (الراغب الأصفهاني) (م ٥٠٢ هـ).
- أحمد بن محمد (الميداني النيسابوري) (م ٥١٨ هـ).
- عبد الله بن محمد (ابن السيد البطليوسي) (م ٥٢١ هـ).
- موهوب بن أحمد (الجواليقي) (م ٥٤٠ هـ).
- هبة الله بن علي (ابن الشجري) (م ٥٤٢ هـ).
- عبد الرحمن بن محمد (كمال الدين الأنباري) (م ٥٧٧ هـ).
بعض أعلام الجغرافيا والرحلات:
- أبو بكر الزهري الغرناطي (م ٥٣٢ هـ).
- الشريف الإِدريسي (م ٥٤٨ هـ).
ومن مؤلفي الموسوعات العامة:
- عبد الرحمن بن علي (ابن الجوزي) (م ٥٩٧ هـ).
1 / 21
ومن الفلاسفة المشهورين في هذا العصر:
- محمد بن محمد (الغزالي) (م ٥٠٥ هـ).
- محمد بن يحيى (ابن ماجه) (م ٥٣٣ هـ).
- محمد بن عبد الملك (ابن الطفيل) (م ٥٨١ هـ).
- محمد بن أحمد (بن رشد الحفيد) (م ٥٩٥ هـ).
بعض الشعراء والأدباء والكتاب:
- الحسين بن علي (الطغرائي) (م ٥١٣ هـ).
- القاسم بن علي (الحريري) (م ٥١٦ هـ).
- أحمد بن محمد (ابن الخياط الدمشقي) (م ٥١٧ هـ).
- إبراهيم بن أبي الفتح (ابن خفاجة) (م ٥٣٣ هـ).
- محمد بن محمد بن عبد الجليل (رشيد الدين الوطواط) (م ٥٧٣ هـ) (١).
وأما بالنسبة لمنطقة خوارزم، فإنها كانت زاخرة بالعلماء والأدباء والمحدثين واللغويين، ذكر الثعالبي بعضهم في اليتيمة ونبذًا من أدبهم وشعرهم، وهم كثيرون ومشهورون (٢).
ومن ثم فإن المحيط العلمي الذي عاشه الزمخشري كان أكبر حافز له ليبتوأ الدرجات العالية في العلوم العربية والدينية.
الحركة الفقهية في عصر الزمخشري
يمثل العصر الذي عاشه الزمخشري مرحلة انتهاء التجديد الفقهي، حيث استقرت المدارس الفقهية المختلفة، فالقرن الرابع الهجري يحدد بداية دور التقليد
_________
(١) انظر الحركة العلمية في القرن السادس الهجري، بالتفصيل: تاريخ الإِسلام، ٤/ ٤٣٩ - ٥٥٩؛ وراجع تراجمهم في الأعلام.
(٢) الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، ٤/ ١٩٤ - ٢٥٤.
1 / 22