وبناء على ذلك ذهبت إلى غرفة ابنها وقبلته قبلات حارة في سريره، بعد أن أفهمت المرضع بعض أشياء، ثم خرجت إلى حيث مسكن ألبير لا تلوي على شيء؛ فهو ينتظرها ولكن بلا صبر، وقبل أن تدخل غرفة العليل فهمت من الخادم أن الطبيب عنده، ففتحت الباب توا ودخلت بدون استئذان، وعندما رآها الطبيب نهض عن كرسيه منذهلا لدخول امرأة على هذه الصورة من غير تنبيه، ثم دنت من العليل ناظرة في وجهه وقتا غير يسير، والتفتت إلى الطبيب بعد ذلك قائلة: هل عرفتني يا دكتور؟ ففهم من هي من مجرد سؤالها هذا؛ لذلك وقف وانحنى ثم جلس، وظلت واقفة بقرب رأس ألبير ماسكة يده سائلة الطبيب: كيف تراه؟ - أراه تعبا يحتاج إلى ممرض يعتني به الاعتناء التام. - أنا أهتم بكل ما يلزم. - يظهر أنه حصل له حركة في هذه الليلة، مع أن الانفعال والتأثر مضران به جدا. ثم نهض فرافقته إلى الباب الخارجي، وقبل أن يخرج سألته: كيف تراه؟ قل لي الحقيقة يا حضرة الطبيب. - إن الحقيقة هي هذه: لا أمل بنجاته. - هل يطول مرضه هذا؟ - لا أعلم بالتمام، من الممكن أن يموت في هذا اليوم أو أن يبقى حيا مدة 4 أو 5 أيام لا غير. - يموت اليوم ألبير! وا مصيبتاه! - اعذريني يا سيدتي، أنت سألتني عن الحقيقة. - أشكرك يا حضرة الطبيب، وهل يتألم كثيرا؟ - لا أعلم، سأعود في المساء. وخرج، فوقفت قليلا أمام باب الغرفة لتخفي جزعها واضطرابها، ثم دخلت باسمة وخلعت عنها رداءها ودنت من السرير. نعم، إن هذا العليل المحبوب قد تغير تغيرا كليا منذ بضع ساعات؛ فاصفر وجهه، وامتقع لونه، وخف نظره، فرفع بصره إليها وقال بصوت ضعيف جدا تكاد تخنقه العبرات: لا تتركيني. - أقسم لك بأني باقية عندك حتى تشفى. ثم حول النظر إلى رسم إيڤون وقال بصوت فهمته بعد صعوبة كلية: لأجلها ابقي عندي. - أنا لا أدعك وحدك منذ الآن وصاعدا؛ لأجلك ولأجل حبك، لا لأجلها. - فإذا لأجل الحب لا تتركيني أموت وحدي . - بعد عمر طويل.
ثم صمتا وقتا طويلا كان فيه ألبير ضاغطا على يدها وهي تحملق به. إذا ما رحل عني فإنه يأخذ معه قلبي وشيئا من حياتي، بل يا ليتني أرحل معه ونتحد سوية في الأبدية بعد أن افترقنا في هذه الحياة، ولم لا أدفن بقرب جثته يا ترى؟ وهل من سرور بعده في هذه الحياة الدنيا؟ لا لعمري، لله ما أعذب الموت متحدين! نعم، وقد تجاذبنا الحديث مرارا بهذا الموضوع قبل الانفصال، وهو أن نموت في ساعة واحدة، إن حياتي بعده مرة للغاية، ولا بد من موتي في الغد، وما هو الفرق بين اليوم والغد؟ الفرق هو أن موتي معه اليوم أعذب من موتي في الغد، فيا ليتني أموت معه اليوم لتطير روحي مع روح من أحب؛ حيث تتماسان في الفضاء وتجتمعان من غير انفصال إلى الأبد.
فتح ألبير المنازع عينيه ناظرا إليها، فخال لها أن ذلك البصر الذي أضحى بعيدا يشير إليها لتأتي إليه، فابتسمت ونظرت في وجهه بحرقة هذا مقدارها، مريدة أن تطبع صورته في ذهنها، وتنقش أسرة وجهه على صفحات قلبها، تصورت أنه وحيد فريد في هذا الكون، بل إنه هو هو العالم بأسره، فإذا مات ماذا يبقى يا ترى؟
وإذ كانت سابحة في فضاء هذه التصورات حصل لألبير اضطراب عظيم وعسر تنفس، فظنت أن ساعته الرهيبة قد دنت، فتقطع قلبها هلعا وحزنا، ونهضت مذعورة وهي ترتجف، فدخل الخادم وجعل ينشق المنازع المنعشات النافعة راشا على وجهه الماء البارد، إلى أن انتعش نوعا وخف ذلك البحران وعاد إلى سكونه الأول وهو خمود طويل، سكوت هائل لاقتراب ساعة الموت. فظنت أنه نائم وتنحت جانبا وسألت الخادم: كيف قضى ليلته الماضية؟ - كتب عدة تحارير ثم أغمي عليه من شدة التعب. ثم سألها باحترام: متى تريدين أن تفطري يا سيدتي؟ - ومن له قابلية في هذه الحالة؟!
إنما سؤال الخادم هذا فكرها أن زوجها ينتظرها بدون شك، كما أنه لا يعلم أين هي؛ لأجل هذا كتبت تلك الكلمات الوجيزة وأشارت إلى الخادم أن يرسل ذلك إلى أمها في الحال. وبما أن مرغريت أرادت أن تحفظ قواها إلى النهاية، أمرت الخادم بأن يهيئ لها شيئا من الطعام؛ لأنه يلذ لها أن تتناوله تحت سقف بيته في آخر ساعة من ساعات حياته.
الفصل الثالث والثلاثون
توسلت مدام موستل إلى مرغريت ابنتها من صميم قلبها بأن تعود بالعجل إلى زوجها، فلم تعر كلامها جانب الإصغاء، وبعد أن ذكرت لها ابنها الصغير أجابت: إني أفكر فيه وفي نفسي أيضا، كما أنه ليس باستطاعة أحد أن يأخذ مني ولدي، وسأدافع عن نفسي ما استطعت. بدأت أمها تلح عليها متوسلة إليها بأن تعود إلي بيتها 3 أو 4 ساعات ثم ترجع، وهي تقوم مقامها في خدمة ألبير وتمريضه، فلم تبال بهذا القول، بل انقلبت راجعة إلى حجرة العليل وهي تقول لها: في الزمن الماضي كنت أعمل بموجب أمرك ونهيك، أما الآن فلا. نعم، قد تغيرت تغيرا كليا؛ وذلك لأن ألبير هو زوجي الشرعي أمام الله والناس ونفسي، ولو كان في حالة النزاع، ولا يكون مكاني إلا بالقرب منه في الحياة بل وفي الممات أيضا. - وابنك يا مرغريت؟ - ابني لا يحتاج إلي اليوم ولا غدا، بل وفي الحالين لا أترك ألبير، قد تركته مرة في الحياة وذلك لا يعني أني أتركه في ساعة الموت. قالت هذا وخنقتها الدموع فلم تدر أمها ماذا تقول؟ ولا كيف تعمل؟ وأين تتوجه؟ - يا ابنتي مرغريت، قد تركت روجر كالمجنون، فهل تسمحين لي أن أعود بعد ذهابي إلى هنا وأبقى معك إلى حين رجوعك إلى بيتك. - نعم.
رفعت أمها يديها إلى السماء وجعلت تناجي ربها قائلة: آه يا لها من تعاسة! لم لم تسمح يا الله بأن يقترن ألبير بمدام فارز؟ بل كيف شاء العدل الإلهي أن يكون هذا الرجل سببا لتعاسة ابنتنا أولا وثانيا، مع ما هي عليه من التمسك بشرائعه والمحافظة على وصاياه! ثم مضت وهي لا تعي على شيء، ولا تدري بما تجيب ذلك الذي كان ينتظرها في حال يرثى لها ويرق الجلمود الأصم. وعندما وصلت أخبرته بما دار من الحديث بينهما، وأن العليل مطروح على فراش الموت يقاسي آلام النزاع وهو لا شك مائت، وكان روجر يسمع كلامها ولا يفهم معناه. قد بذلت مجهودي، ترى ماذا يلزم أن أصنع أكثر، وكنت قلت لها بأني أرجع إلى عندها لأكون بصحبتها، وهذا الرأي هو في غاية الموافقة واللياقة، فهل من مانع عندك؟
لم يجبها روجر على الفور، بل فكر وقتا طويلا ثم قال: لا بأس من رجوعك إلى هنالك. - لله درك يا روجر! فقد خلصتنا بهذه الحيلة من ألسنتهم. - لا يلزم أن تظهري اضطرابك هذا أمامهم، وخذي كل ما تحتاج مرغريت إليه معك.
حينئذ ترقرق الدمع في مقلتيها وقالت: لله ما أطيب قلبك! وما أسلمه! كيف لا تحبك يا أحسن الرجال وأسماهم بالفعال والأعمال! - اذهبي حالا؛ فإني متكل عليك في مثل هذه الأحوال.
نامعلوم صفحہ