ويحتمل أنه لولا القنصلية لقامت مقام حكومة الديركتوار حكومة مليكة ومحت أكثر مبادئ الثورة الفرنسية، فلنفرض أن بوناپارت لم يمثل دورا تاريخيا فإن مؤامرة ملكية كانت تقلب حكومة الديركتوار التي كان يمقتها الناس فاسحة في المجال للويس الثامن عشر، نعم، جلس لويس الثامن عشر على العرش بعد ست عشرة سنة من هذا التاريخ، ولكن ناپليون كان قد منح - في تلك الأثناء - المبادئ الثورية قوة عظيمة جعلت ذلك الملك العائد لا يجرؤ على مسها ولا على إعادة أموال المهاجرين.
ولو كان لويس الثامن عشر قد قبض على زمام الدولة عند سقوط حكومة الديركتوار لكان الأمر عكس ذلك؛ إذ كان يعيد معه استبداد العهد السابق، ويجعل الناس يقومون بثورات جديدة للقضاء عليه، وليس إسقاط شارل العاشر لسعيه لإعادة النظام السابق بأمر مجهول.
ومن البساطة أن يغضب المرء من استبداد بوناپارت، فقد تحمل الناس أنواع الاستبداد في العهد الذي جاء قبل عهده، وفرضت حكومة الديركتوار عليهم استبدادا أشد وأقسى، ولم يكن الاستبداد وقتئذ سوى أمر عادي لا يحتج عليه إلا إذا قام مع الفوضى، فلما عمت الفوضى أنحاء البلاد بحث الناس عن سيد قادر على إخمادها، فكان بوناپارت ذلك السيد. (2) تنظيم فرنسة في العهد القنصلي
كان كل شيء محتاجا إلى الإصلاح والتجديد حينما قبض بوناپارت على زمام الدولة، فسن ناپليون - بعد سقوط مجلس النواب - دستورا يخوله سلطة كافية لتنظيم البلاد والوظائف، وظل هذا الدستور، الذي اسمه دستور السنة الثامنة، معمولا به حتى آخر أيام ناپليون، ونص على إقامة سلطة تنفيذية يقوم بأمورها ثلاثة قناصل على أن يكون رأي اثنين منهم استشاريا ورأي القنصل الأول - أي بوناپارت - نافذا، ومنح هذا الدستور بوناپارت حق تعيين الوزراء وأعضاء مجلس الشورى والسفراء والقضاة والموظفين، وحق البت في أمر الحرب والسلم، وأناط به السلطة الاشتراعية؛ لحصره في يده أمر اقترح القوانين أمام المجالس الثلاثة، أي مجلس الشورى ومجلس التريبونا والمجلس الاشتراعي، ولم يمنح مجلس الشيوخ سوى واجب المحافظة على الدستور.
وكان بوناپارت - مع استبداده - يستشير قبل أن يجزم في الأمر، ولا يمضي مرسوما قبل أن يباحث فيه مجلس الشورى الذي هو رئيسه، وكان هذا المجلس المؤلف من العلماء يهيئ القوانين ثم يعرضها على المجلس الاشتراعي؛ ليبدي رأيه فيها بحرية تامة، وقد وثق ناپليون بهذا المجلس وثوقا تاما؛ لاشتماله على فقهاء أفاضل لا ينطقون بشيء إلا عن علم.
وأراد بوناپارت أن يحكم في الأمة من غير أن يستعين بها، ولذلك لم يجعل لها نصيبا في الحكم إلا مرة واحدة، أي حين عرض عليها الدستور الجديد ليستفتيها فيه، ولم يرجع إلى الانتخاب العام إلا في أحوال نادرة.
ونظم القنصل الأول - في أثناء سن الدستور الذي عزز فيه مركزه - أمور الإدارة والمالية والقضاء فربط جميع سلطات الدولة بباريس، ثم جعل على رأس كل ولاية واليا ومجلسا عاما مساعدا لهذا الوالي، وعلى رأس كل لواء مديرا ومجلسا إداريا مساعدا لهذا المدير، وعلى رأس كل كورة معتمدا ومجلسا بلديا إداريا مساعدا لهذا المعتمد، وجعل أمر تعيينهم كلهم من حقوق وزرائه، لا من حقوق الشعب.
ولا يزال هذا النظام المركزي باقيا، فالمركزية - مع ما فيها من محاذير - هي الطريقة الوحيدة التي يجتنب بها الاستبداد المحلي في بلاد منقسمة كفرنسة، وأوجب ذلك النظام الصادر عن اطلاع تام على النفسية الفرنسية راحة وطمأنينة لم يكن للبلاد عهد بهما منذ زمن طويل.
وألغيت أحكام الموت، وأعيدت الكنائس إلى المؤمنين، ثم شرع بوناپارت في وضع قانون مدني مستنبط أكثره من عادات العهد السابق، فوفق فيه - كما قيل - بين الشرع الحديث والشرع القديم.
وما أتى به القنصل الأول من العمل الجليل في وقت قصير يدلنا على سر سعيه، في بدء الأمر، إلى وضع دستور يخوله سلطانا مطلقا، ولو عهد في إنجاز ما أصلح به بوناپارت فرنسة من الأعمال إلى مجالس مؤلفة من المحامين ما تخلصت من الفوضى. (3) العوامل النفسية التي أوجبت نجاح القنصلية
نامعلوم صفحہ