تعد الديانة الثورية من أهم الأسباب التي منحت دور العهد صبغته الخاصة، وقد كمل في هذا الدور صوغ العقيدة التي كانت في طور التكوين.
وتتألف هذه العقيدة من عناصر مختلفة، وهذه العناصر - أي الفطرة وحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعقد الاجتماعي والسلطة الشعبية - فصول إنجيل لا يجادل المؤمنون فيه، ولها رسل راسخو الإيمان بسلطتهم، وقد حاولوا أن يسخروا العالم لها بالقوة غير مبالين بأحد، شأن المعتقدين في كل جيل.
والحقد على الخوارج هو - كما بينا في بحثنا عن ثورة الإصلاح الديني - من صفات أتباع المعتقدات الكبيرة، وقد أثبتت لنا ثورة الإصلاح الديني أن الصراع بين المعتقدات القريبة يكون عنيفا، ولذلك لا يعجب من قتال اليعاقبة الشديد لمن خالفهم في العقيدة من الجمهوريين الآخرين.
والدعوة التي قام بها الرسل الجدد صارمة، فقد أرسلوا، لوعظ سكان الولايات، أنصارا أشداء ترافقهم المقصلات، ولم يتساهل هؤلاء القضاة في الخطأ وإن صغر، وكانوا يفعلون كما يرى روبسپير القائل «إن الجمهورية لا تقوم إلا بإبادة مخالفيها»، ولم يبالوا بامتناع البلاد عن التجدد، فأرادوا تجديدها على رغم أنفها. قال كاريه: «أجدر بفرنسة أن تصبح مقبرة من أن لا تتجدد على منهجنا».
والسياسة اليعقوبية التي صدرت عن الإيمان الجديد كانت بسيطة كالاشتراكية المسوية التي يديرها سلطان مطلق غير متسامح، فلم تكن أفكار أنصارها الذين ساسوا فرنسة ملائمة لمقتضيات الاقتصاد ولطبيعة الإنسان، بل كانت المقصلة والخطب - ولو صبيانية - كافية لبلوغ الأرب في نظرهم، قال تاين:
كانت خطبهم مشبعة من الأقوال المجردة ومن الآراء المختلة في الطبيعة والعقل والأمة والجبابرة والحرية وغير ذلك من الأمور المشابهة لكرات منفوخة متصادمة، ولو لم يؤد جميعها إلى نتائج عملية مخيفة لاعتقدنا أنها لهو منطقي وتمرينات مدرسية وأقوال وتراكيب خيالية.
نشأ عن آراء اليعاقبة استبداد مطلق فكانوا يرون أن على المواطنين الذين تساووا مقاما ومالا أن يطيعوا الحكومة إطاعة عمياء، وكانت السلطة التي انتحلوها أعظم من سلطة الملوك السابقين، فقد سعروا السلع وادعوا أنه يحق لهم أن يتصرفوا في حياة الموطنين وأملاكهم، ثم بلغت ثقتهم بفضيلة المعتقد الثوري مبلغا جعلهم يشهرون الحرب على الآلهة بعد أن شهروها على الملوك فوضعوا تقويما حذفوا منه أسماء القديسين، وأوجدوا آلهة للعقل، وصاروا يعبدونها في كنيسة نوتردام بطقوس تعدل طقوس المذهب الكاثوليكي، وقد استمرت هذه الديانة حتى أقام روبسپير ديانة شخصية في مكانها جاعلا نفسه حبرها الأعظم.
واليعاقبة وأنصارهم، الذين لم تكن الأكثرية بجانبهم بعدما سادوا فرنسة، خربوها، ولا يسهل تعيين عددهم، ولكنه كان قليلا على كل حال، وقد قدره تاين بخمسة آلاف في باريس التي كان يسكنها سبعمئة ألف نفس، وبثلاثمئة في بيزانسون التي كان يسكنها ثلاثون ألف نفس، وبثلاثمئة ألف في فرنسة جميعها.
ولسيادة اليعاقبة فرنسة - على رغم عددهم القليل - أسباب كثيرة؛ منها منح الإيمان إياهم قوة عظيمة، ومنها قبضهم على زمام الحكومة بعد أن تعود الفرنسيون إطاعة أولياء الأمور منذ قرون كثيرة، ومنها اعتقاد الناس أن إسقاطهم يؤدي إلى رجوع العهد السابق الذي كان يخافه مشترو الأملاك الوطنية، ولو لم يشتد استبدادهم ما أقدمت مديريات كثيرة على العصيان.
والسبب الأول عظيم الأهمية، فالنصر في الصراع بين المعتقدات القوية والمعتقدات الضعيفة لا يكون في جانب المعتقدات الضعيفة، وأما علة اندثار اليعاقبة في نهاية الأمر: فهي أن شدة اضطهاداتهم أدت إلى تجمع ألوف العزائم الضعيفة تجمعا تغلبت به على عزمهم القوي، وإن قلت إن الجيرونديين الذين طاردهم اليعاقبة كانوا ذوي عقائد راسخة فاعلم أنه اعترضهم في الصراع الذي حدث ما لم يعترض خصومهم من تربية واحترام لبعض التقاليد والحقوق، قال إميل أوليڤيه:
نامعلوم صفحہ