مع أنه يصعب تعيين مبادئ الطبقة الوسطى الفلسفية والاجتماعية أيام الثورة الفرنسية يمكن ردها إلى بضع قواعد ملخصة في بيان حقوق الإنسان.
ويظهر أن فلاسفة القرن الثامن عشر لم يؤثروا في أبناء الطبقة الوسطى كثيرا؛ إذ لم يستشهد هؤلاء أيام الثورة الفرنسية بأولئك إلا قليلا، وإنما كان سحر خواطر اليونان والرومان لهم يدفعهم إلى مطالعة كتب أفلاطون وپلوتارك، ولهذا السبب كانوا يودون نشر دستور إسپارطة وعاداتها وتقشفها وقوانينها.
ولم يقل أبناء الطبقة الوسطى الذين قاموا بالثورة الفرنسية - وهم الذين عدهم الناس من المبتدعين الجاسرين السائرين على نهج الحكماء - إنهم ابتدعوا شيئا، بل أعربوا عن رغبتهم في الرجوع إلى ماض بعيد، ولم ينظر عقلاؤهم إلى ما كان في القرون الخالية بعين الجد، فقد فكروا في انتحال نظام إنكلترة الدستوري الذي امتدح مونتسيكو وڤولتير منافعه ونسجت الأمم على منواله في نهاية الأمر من غير ثورة، حقا كان يطمع أولئك في إصلاح النظام الملكي، لا في هدمه، غير أن المناهج التي سلكت أيام الثورة اختلفت عما اقترحوه من الطرق والأساليب.
الفصل الرابع
الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
(1) الروح الشعبية وأوهام الناس في الإنسان الفطري وفي الرجوع إلى الحالة الفطرية
قلنا سابقا، ونعود فنقول: بما أن خطأ المذهب غير ضار بانتشاره فإن تأثيره هو الذي يجب البحث فيه، وعلى الفيلسوف الذي يود أن يكتشف كيفية تأثيره في الناس أن يبحث في الأوهام المحيطة بهم، وربما لم تكن الأوهام كثيرة كما كانت أيام الثورة الفرنسية.
ونعد من أشد الأوهام ظهورا التصوير الغريب الذي تصور الناس به طبيعة أجدادنا الأولين وطبيعة المجتمعات الأولى، فقد اعتقد الناس في ذلك الحين - كما جاء في الإسرائيليات - أن الله خلق الإنسان كاملا، وأن المجتمعات كانت مثلا عالية، وأن الحضارة أفسدتها، وأنه يجب العود إليها، ولم يلبث مبدأ الرجوع إلى الحالة الفطرية أن أصبح عاما، قال روسو: «إن مبدأ الأخلاق الأساسي الذي بحثت عنه في مؤلفاتي يدل على أن الإنسان طيب بفطرته محب للعدل والنظام».
غير أن العلم الحديث بحث عن طرق الحياة عند أجدادنا الأولين فأثبت فساد ذلك المذهب دالا على أن الرجل الفطري كان وحشا شرسا بعيدا من خلق الرفق والأدب والرحمة، وأن اندفاعاته الغريزية كانت تسوده فكان يثب على فريسته عند الجوع وكان يقتل عدوه عندما يثيره الحقد.
ولا تعيد الحضارة الإنسان إلى الحالة الفطرية، بل تساعده على الخروج منها، فقد حول اليعاقبة المجتمع المتمدن إلى قوم متوحشين عندما رجعوهم، بكسرهم زواجر المجتمع التي لا تقوم حضارة بدونها، إلى الحالة الفطرية.
نامعلوم صفحہ