قلنا إن عنصر التدين هو من عناصر الروح اليعقوبية، وهذا العنصر من مقومات نفسية أخرى، أي النفسية الثورية.
تشتمل المجتمعات في كل زمن على عدد من النفوس المضطربة المتقلبة الساخطة المتأهبة للتمرد الراغبة في الفتنة للفتنة نفسها، ولو أن قوة سحرية حققت آمالها بلا قيد ولا شرط ما عدلت عن التمرد.
وتنشأ هذه النفسية في الغالب عن عدم الامتزاج بالبيئة، أو عن الغلو في التدين أو المرض.
وللتمرد درجات مختلفة تبدأ من الاستياء الطفيف الذي ينحصر في كلام المرء عن الناس والأشياء وتنتهي إلى التخريب، وقد يصوب المرء صولته الثورية أحيانا نحو نفسه عند عجزه عن التصرف بها على طريقة أخرى، فلقد كثر في روسية عدد المجانين الذين لم يكتفوا بالتحريق وإلقاء القنابل فتحولوا إلى البخع
1
والانتحار.
ويسهل إغواء هؤلاء العصاة الذين أضلت بعض الوساوس نفوسهم الدينية، فهم على رغم العزيمة الظاهرة التي تدل عليها أعمالهم ضعفاء عاجزون عن مقاومة أقل المحرضات، والقوانين والبيئة تردعهم في الأوقات العادية فيظلون غير مؤثرين، ولكن متى بدت أدوار الفتن فإن هذه الزواجر تضعف، فيطلقون عنان غرائزهم غير مبالين بالغاية التي نشبت الثورة من أجلها.
وقد تكون الروح الثورية غير خطرة، فهي إذا صدرت عن العقل، بدلا من العاطفة أو التدين، أصبحت عامل تقدم وارتقاء، فعندما يصير حكم التقاليد والعادة ثقيلا على الحضارة تتخلص منه بفضل أناس من ذوي العقول المستقلة الثورية كغليله ولاڤوازيه وداروين وپاستور الذين أعانوا على تقدم العلوم والفنون والصناعة في العالم.
ويجب أن يكون في كل أمة عدد من هؤلاء الأعاظم الذين لولاهم لظل الإنسان عائشا في الكهوف، وتتطلب الجرأة الثورية التي تظهر ما عند صاحبها من الاكتشافات استقلالا ذهنيا يتخلص به من الأفكار الجارية بين الناس، وحصافة يدرك بها ما تحت المتشابهات السطحية من الحقائق. (2) النفسية المجرمة
قدر على المجتمعات المتمدنة كلها أن تشتمل على جماعة من المنحطين وشذاذ الآفاق والمذنبين والأشرار واللصوص والقتلة الذين يتألف منهم فريق المدن الكبيرة المحرم، والوازعون لهم أيام السلم إنما هم الشرط، أي رجال البوليس، ولكن لا رادع لهم أيام الثورات، فيسهل عليهم فيها أن يقتلوا ويسلبوا، ومنهم يجمع رجال الثورة جنودهم، وهم - لعدم طمعهم في غير القتل والنهب - لا يبالون بالغاية التي يدافعون عنها ولا يتأخرون ساعة عن الانضمام إلى الحزب المتقهقر حينما يكون حظهم من القتل والسلب عنده أكثر.
نامعلوم صفحہ