قد ينتج عن الثورة في نهاية الأمر معتقد، ولكنها تنشأ في الغالب عن عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت أو ملك يبغضه الشعب، ومع أن العقل هو أصل الثورة فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف، فإذا أمكن بالفعل إظهار ما يجب هدمه من المظالم وجب لتحريك الجماعات إفعام قلوبها بالآمال، وهذا أمر لا ينال إلا إذا استعين بعناصر العاطفة والتدين التي تجعل الإنسان قادرا على السير، خذ الثورة الفرنسية مثلا تر أن المنطق العقلي الذي تذرع به فلاسفة ذلك العصر أظهر للملأ مساوئ النظام القديم وجعل في القلوب ميلا إلى تبديله، وأن المنطق الديني ألقى في النفوس إيمانا بفضائل مجتمع قائم على بعض المبادئ، وأن المنطق العاطفي أطلق النفوس من عقالها القديم وشد قواها، وأن منطق الجماعات استحوذ على الأندية والمجالس ودفع أعضاءها إلى اقتراف أعمال لم يدفعهم المنطق العقلي والمنطق العاطفي والمنطق الديني إلى اقترف مثلها.
والثورة - مهما كان مصدرها - لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعات، فالجماعة تتم الثورة ولا تكون مصدرها، وهي لا تقدر على شيء ولا تريد شيئا إن لم يكن عليها رئيس يقودها، ولا تلبث الجماعات أن تجاوز الحد الذي حرضت عليه، وإن كان التحريض لا ينشأ عنها أبدا.
وإن الثورات السياسية الفجائية التي تعجب المؤرخين هي أقل أهمية من غيرها في بعض الأحيان، فالثورات الكبيرة هي ثورات الطبائع والأفكار.
وفي الغالب تتم الثورات الحقيقية التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يلقون مصاعب في تعيين بداءتها، ولذلك نرى كلمة التطور أصح في التعبير عن المقصود من كلمة الثورة.
لا تصح العناصر المختلفة، التي ذكرنا عملها في تكوين أكثر الثورات، أن تكون أصلا لتقسيمها، ولكننا إذا نظرنا إلى الثورة من حيث غايتها فقط أمكننا تقسيمها إلى ثورات علمية وثورات سياسية وثورات دينية. (2) الثورات العلمية
الثورات العلمية من أكبر الثورات أهمية، ومع أنها لا تستوقف النظر كثيرا هي، في الغالب، ذات نتائج بعيدة لا تأتي بمثلها الثورات السياسية.
فسر تحول الصورة التي ننظر بها إلى الكون منذ عصر النهضة هو أن الاكتشافات الفلكية والطرق القائمة على التجربة والاختبار أورثت نفوسنا ثورة بإثباتها أن الحوادث تصدر عن سنن ثابتة لا تتبدل، لا عن أهواء الآلهة.
والأجدر أن تدعى هذه الثورات بالتطور لبطء وقوعها، بيد أنه يوجد من نوعها ثورات أخرى تقع بسرعة وتستحق أن تدعى بالثورات، مثال ذلك آراء داروين التي قلبت علم الحياة في بضع سنين رأسا على عقب، واكتشافات پاستور التي حولت علم الطب في أيام صاحبها، والرأي في انحلال المادة الذي أثبت أن الذرة لا تشذ عن السنن القاضية على جميع عناصر الكون بالزوال والفناء خلافا لما كان يظن.
وبما أن مجال هذه الثورات هو عالم الأفكار فإنه ليس للمشاعر والمعتقدات سلطان عليها، وعلى المرء أن يعانيها من غير أن يجادل فيها. (3) الثورات السياسية
نذكر - بعد الثورات العلمية التي هي سر تقدم الحضارة - الثورات الدينية والثورات السياسية وإن كانت بعيدة منها ولا تربطها بها رابطة، فالثورة العلمية لا تشتق إلا من العقل مع أن المشاعر والعواطف هي دعائم المعتقدات السياسية والدينية، ولا يكون للعقل سوى شأن ضئيل في تكوينها.
نامعلوم صفحہ