وإذ إنه يتعذر أن يحل في الوقت الحاضر أي نظام محل الانتخاب العام وجبت ملاءمته، ولا يفيد الاحتجاج عليه والقول مع الملكة ماري كارولين أيام محاربتها ناپليون: «لا شيء أحق بالمقت من حكم الناس في هذا الزمن الذي ينقب الأساكفة فيه عن عورات الحكومة ويسخرون منها».
والحق أن كل اعتراض على الانتخاب العام ليس له من القوة ما يبدو أول وهلة، فلما ثبتت عندنا صحة سنن روح الجماعات صرنا نشك في أن اتخاذ طريقة الانتخاب المحدود يؤدي إلى اختيار رجال أفضل من الذين يتم اختيارهم على حسب طريقة الانتخاب العام، وذلك أن تلك السنن تدلنا على أن الانتخاب الموصوف بالعام ليس إلا وهما، وذلك بما أن رأي الجماعة هو رأي زعمائها في الغالب، فإن ذلك الانتخاب أضيق انتخاب، وهنا الخطر كله، وذلك أن الزعماء القابضين على زمام هذا الانتخاب هم صنائع لجان محلية صغيرة مشابهة لأندية الثورة الفرنسية الكبرى، وهم الذين ينتخبون النائب، ومتى كمل انتخاب هذا الأخير أصبح ذا سلطة محلية مطلقة على أن ينظر إلى مصالح تلك اللجان، وذلك ما ينسيه منفعة البلاد العامة.
تحتاج اللجان إلى أناس مطيعين، فلا تنتخب للنيابة رجالا ذوي ذكاء عال وأدب رفيع، وإنما تنتخب لها أناسا من ذوي الأخلاق الهينة الذين ليس لهم مكانة اجتماعية، ويخضع النائب لتلك اللجان - التي هي مبعث شهرته - خضوعا تاما فيقول ما تقول ويعمل كما تأمر، ويمكن تلخيص ما يدعو إليه خياله السياسي بكلمة «طع تدم»، على أنه قد يحدث أن يستأثر بعض الرجال، بما لهم من الشهرة أو المنزلة أو الثروة، بأصوات الشعب من غير أن تتدخل اللجان المحلية الوقحة في ذلك .
إذن، ليس الانتخاب العام في بلاد ديموقراطية كفرنسة في غير الظاهر، وهذا هو السر في وضع كثير من القوانين التي لا منفعة للأمة فيها، كقانون اشتراء سكك الغرب الحديدية والقوانين التي سنت ضد اليسوعيين، ولا تعبر هذه الأمور عن غير ما أملته اللجان المحلية المتعصبة على النواب من المطاليب.
ويبدو تأثير هذه اللجان عند الاطلاع على اضطرار أكثر النواب اعتدالا إلى الدفاع عن الفوضويين الذين يخربون دور الصناعة، وعلى اتفاقهم مع القائلين بعدم التجنيد، وعلى قبولهم أنحس المطاليب طمعا في تجديد انتخابهم. (4) الاحتياج إلى الإصلاح
الميل إلى الإصلاح بوضع المراسيم من أشد ما اتصفت به الروح اليعقوبية شؤما، وأعظم ما ورثناه من الثورة الفرنسية خطرا، وهو أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى ما وقع في فرنسة من الانقلابات منذ قرن.
ومع أننا قمنا - منذ أربعين سنة - بإصلاحات جديرة بأن يدعى كل واحد منها ثورة صغيرة، لا نزال أقل أمم أوربة تحولا، وقد تكون تلك الإصلاحات سبب هذا التحول البطيء، ويتجلى لنا هذا البطء عند النظر إلى ما عند الأمم من عناصر الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أي ما عندها من تجارة وصناعة إلخ؛ إذ يظهر لنا أن تقدم كثير من الأمم - ولا سيما الأمة الألمانية - عظيم مع أننا نمشي الهوينا، وبيان ذلك أن نظامنا الإداري والصناعي والتجاري شاخ كثيرا، وأصبح غير ملائم لمقتضيات الوقت الحديث، وأن صناعتنا صارت قليلة الفائدة، وبحريتنا التجارية أصبحت مشرفة على السقوط، وها نحن أولاء لا نقدر مزاحمة المصنوعات الأجنبية في مستعمراتنا، وقد أوضح وزير التجارة السابق مسيو كروپي هذا السقوط المحزن في كتاب وضعه حديثا، فرأى أن النظم قادرة على معالجته، وعلى هذا الرأي جميع المشتغلين بالسياسة، ولذلك قل تقدمنا، فكل حزب يعتقد أن الإصلاحات تداوي الأمراض، ويسوق هذا الاعتقاد الأحزاب إلى مخاصمات تجعل فرنسة أكثر بلاد العالم انقساما وطعمة للفوضى.
ولا نزال غافلين عن الحقيقة الدالة على أن قيمة الأمة بأفرادها، ومناهجهم، لا بأنظمتها، وليست الإصلاحات الشافية هي الإصلاحات الثورية؛ بل التي تتراكم مع الزمن، وتتم الانقلابات الاجتماعية الكبيرة مثل الانقلابات الجيولوجية بما يتجمع كل يوم من العوامل الصغيرة، وقد أثبت لنا تاريخ ألمانية الاقتصادي منذ أربعين سنة صحة هذا الأمر.
وما أكثر الحوادث العظيمة التابعة لناموس تجمع العوامل الصغيرة! فقد تنتهي المعركة الفاصلة أحيانا في يوم واحد، ولكن النجاح فيها لا يتم إلا بما سبقها من الجهود الدقيقة المتراكمة ببطء، وقد رأينا ذلك سنة 1870، ورآه الروس أخيرا، فمع أن أمير البحر توغو أباد الأسطول الروسي في واقعة تسوشيما التي توقف عليها مصير اليابان فإن ألوفا من المؤثرات الصغيرة البعيدة أوجبت هذا النصر، وليست العوامل التي نشأ عنها انكسار الروس أقل من ذلك، ونعد منها: نظامهم القرطاسي المعقد المؤدي - مثل نظامنا - إلى عدم المسئولية، ومنها عددهم الحربية التي يرثى لها على رغم ابتياعها بذهب يعدل وزنها، ومنها نظام الجوائز للموظفين، ومنها قلة المبالاة بمصالح البلاد.
والجزئيات التي تتألف عظمة الأمة منها هي من الخفاء ما لا تؤثر معه في الجمهور، ولا يصلح الاشتغال بها لقضاء منافع السياسيين الانتخابية، فلا يلتفت هؤلاء إليها تاركين البلاد التي ألقت إليهم مقاليد أمورها تتدرج إلى الانحلال فإلى الانقراض. (5) الفروق الاجتماعية بين أنواع الديموقراطية
نامعلوم صفحہ