إن الأحزاب تعمل للصالح العام كل على قدر ما يرتأى، ولكن العائلات المعتزلة لا تهتم بغير مصالحها الشخصية، فتكون حملا على المجتمع وضررا عاما بين الناس.
العائلة هي الأساس الوحيد لتقدم الأمم ورقيها، فيجب أن تكون العناية بها شديدة؛ لأنها واسطة لنشر الفضائل والأخلاق القومية، وفيهما ينشأ الأفراد على المبادئ الشريفة أو السافلة، وعلى قدر حضارتها ورقيها يكون رقي الأمة بالنسبة للأمم الراقية والشعوب المتحضرة، واحتفاظها بمجدها السابق ووطنيتها المقدسة. ويظهر ذلك جليا في كل شيء؛ يظهر في الأفكار والأعمال، وفي الأقوال وفي مكنونات الصدور، وفي العواطف وفي كل المظاهر، حتى ليظهر ذلك في المصنوعات كالأثاث والرياش والملابس والأغاني والأناشيد.
إن هذا كله ليس بالشيء الخطير في نظر الغبي، ولكنه ذخيرة ثمينة وتميمة مقدسة في نظر الحكماء، ومن يعرف قيمة الحياة العائلية والوحدة القومية. •••
إن البدع من الأسف أخذت تقوض دعائم العائلات، وتلاشي أسباب السعادة والهناء بكل الوسائل الفعالة، كالخصال الغريبة، والعادات المستحدثة، والمطالب المختلفة، والترف والتبذير. وبهذه الأسلحة القتالة تمكنت البدع من إفساد نظام العائلة والعبث براحتها وهدوها المألوفين، فأضرت بها ضررا عظيما يشكوه كل فرد على حدته، ويتألم منه المجموع على الإطلاق.
عجيب أن يتخلق الناس بهذه الأخلاق الموضوعة على سبيل التقليد والمجاراة، بدون أن ينظروا إلى النتيجة، أو يفحصوا ما يكون للبدعة الجديدة من حسنات أو سيئات، فكأن حالهم معها حال الأمة المحتلة مع القاهر المستبد، تسخر الأبناء لطاعته، ويهمل العمل والصالح الشخصي، ويضحي كل عزيز ونفيس لمرضاته. وأنى له أن يرضى وقد جاء لهذا الغرض، ومصلحته في تخريب العامر وتدمير القائم، حتى لا ترتفع رأس عن مواطئ نعليه، ولا يفاخر سيد بخيله وعدده؟ فالعاقل من لا يكلف نفسه إلا وسعها، فيبقي على ما ملكت يداه، ويحتفظ به مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال والأزمان.
إن البدع لتتسرب إلى العائلات تحت زي المدنية ومقتضيات الضرورة، فتراها تصل إلى النفوس، فتتأصل فيها ويتبدل كل خلق كريم وذوق سليم، فتتبدل الأشخاص والأثاث والعادات، وما أكثر ما تروج في فرص الأعراس والمآتم! حيث تنشأ العائلة تتقزز من كل قديم ألفته، وتسخر مما كان للسلف عادة جارية، وهنا يبدأ الخطر وتظهر أوليات المصاب.
وإن المرء ليستهين أولا بالأمر فيبدل الأثاث، ثم لا يلبث أن يبدل تدريجا ما كان محتفظا به من التقاليد القديمة، والخلال التي شب عليها وتلقاها عن الأقدمين، ثم يتبعها بالفضائل وسائر الصفات الحميدة، فيخلق خلقا جديدا على ما شاءت أهواؤه، وسولت نفسه الخبيثة، ونفدت فيه إرادته الضعيفة. وما هي إلا فترة وتنزل العائلة نفسها بين وسط جديد، وتأخذ بأسباب عيش لم تعهده، فيحدث الانقلاب التام، وتتلاشى العادات القومية، وتنتشر المدنية الموهومة مراعاة للذوق الجاري ومقتضيات العصر الجديد. وقد تعرو الإنسان دهشة إذا صورت له حالته تصويرا دقيقا، ولا يكاد يصدق أن الإنسان الأول هو بعينه التمثال الجديد.
ولو وقف الحد عند تلك الحال لهان الخطب، ولكن الداء المتأصل تكثر ميكروباته مع الأيام، فيبتدئ الألم ويشتد الضجر حتى تزهق النفس، وقد يعود للعين بصرها وللرأس فكره، ولكن يوم لا ينفع البصر والفكر يوم يستعصي الشقاء، ويستحيل الخلاص من براثن المرض الفتاك.
إن البدع لأشد فتكا بالأمم والشعوب من الأوباء بالعباد، وإن الشكوى من الأدواء المنتشرة، ومن تأثير المدنية الحديثة في الفضائل والأخلاق لأعم من الشكوى من الفقر، وضيق ذات اليد، ونكد العيش وخيانة الأصدقاء، وكم من بدعة ظهرت مليحة حتى إذا انتشرت بان ضررها البليغ، فعلت الشكوى وارتفع الصراخ من هول النتائج؟
وإن الحكيم ليعوذ من البدعة والمبتدع، ومن كل مرادفات هذه الكلمة وما يشتق منها، وخير للمرء أن يتدبر قبل أن يتورط، ويتئد قبل أن يشتط، وأن يحذر ويحرص على مبادئه وعاداته القويمة، وأن تكون له إرادة قوية تشد عزمه ورأيه؛ للذود عن تلك الخصال الحميدة ، والطبائع الممدوحة التي توارثناها أبا عن جد، فإن الفضائل خلقت مع الإنسان، ولم يعبث بها غير مرور الزمن وتقلبات المطامع. نعم، إن لكل جديد طلاوة، إلا أنه في غير نفاسة القديم الجيد، فليتق الله المبتدعون، وليحرص على كرامتهم العائلون. •••
نامعلوم صفحہ